Hero image

المغامر زهران القاسمي.. تماهى مع البيئة العُمانية فنال البوكر العربية

مايو - يونيو 2023

يوليو 25, 2023

شارك

معجون‭ ‬هو‭ ‬بالماء‭ ‬والطين‭ ‬والأساطير،‭ ‬مغرم‭ ‬بالأفلاج‭ ‬والصحاري‭ ‬والجبال‭ ‬والوديان،‭ ‬يقتفي‭ ‬آثارها‭ ‬ويعي‭ ‬تفاصيل‭ ‬أخبارها،‭ ‬محب‭ ‬للطيور‭ ‬والحيوانات،‭ ‬عاشق‭ ‬للموسيقى‭ ‬والعزف‭ ‬على‭ ‬العود،‭ ‬مفتون‭ ‬بروح‭ ‬المغامرة‭ ‬المدفوعة‭ ‬بفطرة‭ ‬وعفوية،‭ ‬مسكون‭ ‬بالحكايات‭ ‬وأحوال‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬بلده‭ ‬سلطنة‭ ‬عمان،‭ ‬يسمعها،‭ ‬يعيشها،‭ ‬يرويها،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬يلعب‭ ‬دور‭ ‬البطولة‭ ‬فيها‭ ‬بعقلية‭ ‬متفتحة‭ ‬واعية‭ ‬بتحولات‭ ‬الواقع،‭ ‬وبموهبة‭ ‬بكر‭ ‬ولغة‭ ‬باذخة‭ ‬رصينة‭ ‬نثرًا‭ ‬وشعرًا‭.‬

أنضج‭ ‬تجربته‭ ‬الكتابية‭ ‬على‭ ‬مهل‭ ‬خلال‭ ‬رحلة‭ ‬إبداعية‭ ‬قاربت‭ ‬العشرين‭ ‬عامًا. ‬وبمزيد‭ ‬من‭ ‬الاعتناء‭ ‬بمشروعه‭ ‬الأدبي،‭ ‬حافظ‭ ‬على‭ ‬أصالة‭ ‬تجربته‭ ‬وبكارتها،‭ ‬مصقولة‭ ‬بقراءات‭ ‬متنوعة‭ ‬تنفتح‭ ‬على‭ ‬عوالم‭ ‬الشعر‭ ‬وإبداعاته‭ ‬العالمية‭ ‬والعربية،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬تشبعه‭ ‬وتأثره‭ ‬بالأصوات‭ ‬الروائية‭ ‬بطول‭ ‬المسافة‭ ‬من‭ ‬المحيط‭ ‬إلى‭ ‬الخليج،‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬تتويج‭ ‬روايته “تغريبة‭ ‬القافر” الصادرة‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬مسكيلياني (2022م)‬‭ ‬بجائزة‭ ‬البوكر‭ ‬العالمية‭ ‬للرواية‭ ‬العربية‭ ‬للعام ‭‬2023م. ‬السطور‭ ‬التالية‭ ‬قراءة‭ ‬في‭ ‬مجمل‭ ‬أعمال‭ ‬الشاعر‭ ‬الروائي‭ ‬العماني‭ ‬زهران‭ ‬القاسمي‭.‬

د‭. ‬سمير‭ ‬محمود

قبل‭ ‬نحو‭ ‬عقدين‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬برز‭ ‬شغف‭ ‬القاسمي‭ ‬بالشعر،‭ ‬الذي‭ ‬يجتاز‭ ‬به‭ ‬المناطق‭ ‬الكئيبة‭ ‬جدًا‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬قوله. ‬فأخذ‭ ‬يكتب “سيرة‭ ‬الحجر”‬‭ ‬في‭ ‬ملحق “أشرعة” ‬الثقافي‭ ‬بصحيفة‭ ‬الوطن‭ ‬العمانية‭ ‬منذ‭ ‬عام 2008م،‭ ‬في‭ ‬نصوص‭ ‬شعرية‭ ‬أسفرت‭ ‬عن‭ ‬عشرة‭ ‬دواوين. ‬ثم‭ ‬اتّجه‭ ‬إلى‭ ‬السرد‭ ‬وعوالم‭ ‬القصص‭ ‬القصيرة،‭ ‬البوابة‭ ‬السحرية‭ ‬لإبداعاته‭ ‬الروائية،‭ ‬فكتب‭ ‬القصة‭ ‬والرواية‭ ‬بلغة‭ ‬شعرية‭ ‬خالصة. ‬كان‭ ‬حصاد‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المؤلفات‭ ‬من‭ ‬بينها: “أمسكنا‭ ‬الوعل‭ ‬من‭ ‬قرونه” (مجموعة‭ ‬نصوص، ‬2007م)‬،‭ ‬و “سيرة‭ ‬الحجر1” (قصص‭ ‬قصيرة، ‭‬2009م)‬،‭ ‬و “سيرة‭ ‬الحجر2” (‬نصوص، ‬2011م)‬،‭ ‬وأربع‭ ‬روايات‭ ‬هي: “جبل‭ ‬الشوع” (‬2013م)‬،‭ ‬و “القنّاص” (2014م)، و “جوع العسل” (2017م)، و”تغريبة القافر” (2022م).

في‭ ‬تغريبة‭ ‬القافر،‭ ‬يطرّز‭ ‬الكاتب‭ ‬سرده‭ ‬للأحداث‭ ‬بالأساطير‭ ‬وحكايات‭ ‬الجدات،‭ ‬فمن‭ ‬أمّ‭ ‬غريقة‭ ‬في‭ ‬بئر‭ ‬وأب‭ ‬مات‭ ‬في‭ ‬ركام‭ ‬الأفلاج،‭ ‬يُولد‭ ‬البطل‭ ‬الذي‭ ‬يطرب‭ ‬لسماع‭ ‬الماء‭ ‬داخل‭ ‬الصخر‭.‬

شخصيات‭ ‬من‭ ‬رحِم‭ ‬البئر

يتنقل‭ ‬القاسمي‭ ‬دائمًا‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والرواية‭ ‬تنقّله‭ ‬بين‭ ‬الوديان‭ ‬والأفلاج‭ ‬والصحاري‭ ‬والجبال،‭ ‬محاولًا‭ ‬سبر‭ ‬أغوارها‭ ‬والبوح‭ ‬بأسرار‭ ‬الطبيعة‭ ‬البكر‭ ‬في‭ ‬سلطنة‭ ‬عمان‭ ‬وتقديمها‭ ‬في‭ ‬سرديات‭ ‬روائية‭ ‬شعرية‭ ‬أو‭ ‬أشعار‭ ‬نثرية‭ ‬تسلب‭ ‬الألباب. ‬وقد‭ ‬جاءت‭ ‬روايته “تغريبة‭ ‬القافر”‭ ‬في‭ ‬11‭ ‬فصلًا‭ ‬وخاتمة،‭ ‬كأنها‭ ‬شهور‭ ‬العام،‭ ‬وبمشهد‭ ‬افتتاحي‭ ‬صادم‭ ‬حيث‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬جثة‭ ‬مريم‭ ‬بنت‭ ‬حمد‭ ‬ود‭ ‬غانم‭ ‬غريقة‭ ‬في‭ ‬البئر‭ ‬بقرية‭ ‬المسفاة (‬مكان‭ ‬الأحداث)‬،‭ ‬في‭ ‬زمان‭ ‬غير‭ ‬محدد‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬الخمسينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬قبلها‭.‬

ارتبطت “التغريبة” ‬في‭ ‬ذهنية‭ ‬التلقي‭ ‬بسيرة‭ ‬بني‭ ‬هلال‭ ‬و “التغريبة‭ ‬الهلالية”‬،‭ ‬حيث‭ ‬الترحال‭ ‬والبعد من‭ ‬الديار،‭ ‬أو‭ ‬العيش‭ ‬بين‭ ‬قوم‭ ‬لا‭ ‬تنتمي‭ ‬إليهم،‭ ‬كحال‭ ‬معظم‭ ‬شخصيات‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬بدت‭ ‬عجيبة‭ ‬في‭ ‬سلوكها‭ ‬منعزلة‭ ‬عن‭ ‬بعضها،‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬عوالم‭ ‬الجن،‭ ‬حيث‭ ‬تشقى‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬وتكد‭ ‬ثم‭ ‬تُدفن‭ ‬حية‭ ‬داخل‭ ‬الأفلاج‭ ‬ولا‭ ‬يلتفت‭ ‬إليها‭ ‬أحد،‭ ‬فيبتلعها‭ ‬النسيان‭ ‬كما‭ ‬ابتلعت‭ ‬البئر‭ ‬جثة‭ ‬الأم‭ ‬مريم‭!‬

ومن‭ ‬أجواء‭ ‬الرواية‭ ‬نقرأ: “‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يغيب،‭ ‬الناس‭ ‬والبلاد،‭ ‬أخبار‭ ‬اللي‭ ‬عرفناهم‭ ‬وحكاياتهم،‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يغيب‭ ‬وما‭ ‬يبقى‭ ‬لنا‭ ‬إلا‭ ‬الوجع‭”!‬

ولهذا‭ ‬يأتي‭ ‬صوت‭ ‬الأب‭ ‬متسقًا‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬الرؤية‭ ‬للتغريبة،‭ ‬حين‭ ‬يحذر‭ ‬ابنه‭ ‬سالم “القافر” ‬قائلًا: “‬باه‭ ‬بلادك‭ ‬ما‭ ‬بلاد،‭ ‬البلاد‭ ‬اللي‭ ‬تأكل‭ ‬كل‭ ‬أموالك‭ ‬بلاد‭ ‬فاجرة،‭ ‬البلاد‭ ‬بو‭ ‬تستغلك‭ ‬وتأخدك‭ ‬تمرة‭ ‬وبعدين‭ ‬ترميك‭ ‬فلحة‭ ‬ما‭ ‬بلاد،‭ ‬باه‭ ‬سالم‭ ‬دوّر‭ ‬على‭ ‬بلاد‭ ‬غيرها،‭ ‬البلاد‭ ‬بو‭ ‬تنكر‭ ‬جميلك‭ ‬ما‭ ‬تستحق‭ ‬تعيش‭ ‬فيها‭ ‬ساعة”. ‬كما‭ ‬يتذكر‭ ‬الأب‭ ‬زوجته‭ ‬الغريقة،‭ ‬ويخاطب‭ ‬ابنه: “‬عطشان‭ ‬أسمع‭ ‬صوت‭ ‬أمك،‭ ‬أسمع‭ ‬ضحكتها،‭ ‬باه‭ ‬صوت‭ ‬أمك‭ ‬جنّة،‭ ‬ويداها‭ ‬كانت‭ ‬حياة”.

الماء‭ ‬أصل‭ ‬الحكاية

نجحت‭ ‬تغريبة‭ ‬القاسمي‭ ‬في‭ ‬استحضار‭ ‬كل‭ ‬عناصر‭ ‬البيئة‭ ‬والطبيعة‭ ‬والمجتمع‭ ‬العماني: ‬الطيور‭ ‬والأودية‭ ‬والأفلاج‭ ‬والجبال‭ ‬والكهوف،‭ ‬وسلطة‭ ‬الدين‭ ‬والخرافة‭ ‬والدجل،‭ ‬والأساطير‭ ‬التي‭ ‬تسكن‭ ‬حكايات‭ ‬الجدات‭ ‬والأغاني‭ ‬الفلكلورية،‭ ‬لحضورها‭ ‬الطاغي‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬السحر‭ ‬والشعوذة. ‬وتلك‭ ‬واقعية‭ ‬زهران‭ ‬السحرية‭ ‬في‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬العماني‭ ‬بتحولاته‭ ‬من‭ ‬الأسطوري‭ ‬إلى‭ ‬ديانات‭ ‬طوطمية‭ ‬ثم‭ ‬سماوية،‭ ‬فتأثيرات‭ ‬عقلانية‭ ‬مادية‭ ‬حداثية. ‬وهكذا‭ ‬برع‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬شخصيات‭ ‬الرواية‭ ‬وخاصة‭ ‬المرأة‭ ‬المقهورة‭ ‬والفلاح‭ ‬العنيد،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬حفنة‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬الغرباء‭ ‬عشاق‭ ‬السفر‭ ‬والترحال‭ ‬والمغتربين‭ ‬والمهمشين‭ ‬عن‭ ‬مجتمعاتهم‭ ‬في‭ ‬قرى‭ ‬تبتلع‭ ‬أهلها‭ ‬وتطويهم‭ ‬في‭ ‬دوامات‭ ‬النسيان‭.‬

لا‭ ‬يولد‭ ‬العظماء‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬أمهات،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬أسطورة. ‬هكذا‭ ‬وُلد‭ ‬سالم‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬جميل “القافر” ‬من‭ ‬رحم‭ ‬أمه‭ ‬الغريقة‭ ‬ليصنع‭ ‬أسطورته‭ ‬الخاصة. ‬فهو‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬يتحدى‭ ‬اليتم‭ ‬والفقر،‭ ‬والصخور‭ ‬والجبال،‭ ‬والجفاف‭ ‬وعوالم‭ ‬الخرافة. ‬ولأنه‭ ‬من‭ ‬الأساطير،‭ ‬فقد‭ ‬وُلد‭ ‬ببقر‭ ‬بطن‭ ‬أمه‭ ‬الغريقة‭ ‬وليس‭ ‬بولادة‭ ‬عادية،‭ ‬وبالمخالفة‭ ‬لفتوى‭ ‬رجل‭ ‬دين‭ ‬أفتى بدفنها‭ ‬هي‭ ‬ومن‭ ‬تحمل‭ ‬به: “‬بو‭ ‬فبطنها‭ ‬أولى‭ ‬به‭ ‬الدفن”‬،‭ ‬لولا‭ ‬عمتها‭ ‬كاذية‭ ‬بنت‭ ‬غانم‭ ‬التي‭ ‬اندفعت‭ ‬فأخرجت “‬الحي” ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أبقى‭ ‬من “‬الميت”.. ‬أخرجت‭ ‬القافر،‭ ‬الفلاح‭ ‬العماني‭ ‬العنيد،‭ ‬أسطورةً‭ ‬فريدة‭ ‬ليست‭ ‬كالأساطير‭ ‬العادية‭ ‬التي‭ ‬تخلدها‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬الرسمية‭.‬

ماتت‭ ‬أمه‭ ‬غريقة‭ ‬في‭ ‬بئر،‭ ‬ومات‭ ‬أبوه‭ ‬مختفيًا‭ ‬تحت‭ ‬ركام‭ ‬أحد‭ ‬الأفلاج. ‬أما‭ ‬هو‭ ‬فدائم‭ ‬السفر‭ ‬والترحال،‭ ‬يطرب‭ ‬لسماع‭ ‬صوت‭ ‬الماء‭ ‬داخل‭ ‬الصخر،‭ ‬فهو‭ ‬أصل‭ ‬الحياة‭ ‬وقماشة‭ ‬السردية‭ ‬بأكملها،‭ ‬تراه‭ ‬بمطرقته‭ ‬ومسماره‭ ‬يشق‭ ‬الأفلاج‭ ‬تباعًا‭ ‬فيمنح‭ ‬أسباب‭ ‬الحياة‭ ‬لمجتمع‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬اختناق‭ ‬حد‭ ‬الموات‭.‬

القافر‭ ‬بطل‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬عطش‭ ‬دائم‭ ‬للماء‭ ‬الواقعي‭ ‬والرمزي‭ ‬والأسطوري‭ ‬المتخيل،‭ ‬وهكذا‭ ‬ظل‭ ‬حتى‭ ‬وصلت‭ ‬رحلته‭ ‬إلى‭ ‬نهايتها‭ ‬حين “‬تداعت‭ ‬الصخرة‭ ‬أمامه،‭ ‬وانفتح‭ ‬الخاتم‭ ‬على‭ ‬النفق‭ ‬الطويل،‭ ‬فانطلق‭ ‬الماء‭ ‬بقوة‭ ‬وجرف‭ ‬معه‭ ‬كل‭ ‬شيء‭”!‬

‭ ‬تتجاوز‭ ‬تجربة‭ ‬زهران‭ ‬القاسمي‭ ‬الروائية‭ ‬تيمة‭ ‬المكان،‭ ‬إلى‭ ‬الأساطير‭ ‬والخرافات‭ ‬وحكايات‭ ‬الجدات،‭ ‬وتظل‭ ‬البيئة‭ ‬العمانية‭ ‬حاضرة‭ ‬كلوحة‭ ‬خلفية‭ ‬توجه‭ ‬معظم‭ ‬أحداث‭ ‬رواياته‭.‬

‭”‬القنّاص” ‬والطبيعة‭ ‬العارية

المكان‭ ‬تيمة‭ ‬رئيسة‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أعمال‭ ‬القاسمي‭ ‬الروائية‭ ‬والشعرية،‭ ‬المكان‭ ‬الحافل‭ ‬بالأسماء‭ ‬والحكايات،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الملمح‭ ‬الأبرز‭ ‬في‭ ‬روايته “‬القناص”.

بوعي‭ ‬تام‭ ‬بالمكان،‭ ‬ترصد‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬علاقة‭ ‬جدلية‭ ‬بين‭ ‬القنّاص‭ ‬صالح‭ ‬بن‭ ‬شيحان،‭ ‬ووعل‭ ‬يظهر‭ ‬له‭ ‬وسط‭ ‬الجبال،‭ ‬فكلاهما‭ ‬يرقب‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬نهايتها‭ ‬محتومة‭ ‬بموت‭ ‬أحدهما. ‬وقد‭ ‬تمكن‭ ‬القناص‭ ‬من‭ ‬الوعل،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬قنصه‭ ‬حتى‭ ‬سأل‭ ‬نفسه‭ ‬السؤال‭ ‬الموجع: ‬أهذه‭ ‬النهاية؟‭ ‬هل‭ ‬انتهى‭ ‬كل‭ ‬شيء؟‭ ‬حين‭ ‬حقق‭ ‬حلمه‭ ‬اكتشف‭ ‬وهم‭ ‬المطاردة،‭ ‬لحظة‭ ‬ملاقاة‭ ‬الطريدة،‭ ‬لحظة‭ ‬انكشاف‭ ‬الأشياء،‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬تلمس‭ ‬فيها‭ ‬حلمك. ‬ماذا‭ ‬يحدث‭ ‬حينذاك؟‭ ‬هنا‭ ‬يقفز‭ ‬إلى‭ ‬رأسي‭ ‬سؤال: ‬أكلما‭ ‬حصدنا‭ ‬حلمًا‭ ‬انتهينا؟

عن‭ ‬هذه‭ ‬التيمة‭ ‬يقول‭ ‬القاسمي: “‬أنا‭ ‬مرتبط‭ ‬ارتباطًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬بالبيئة. ‬عشت‭ ‬معظم‭ ‬حياتي‭ ‬في‭ ‬القرية‭ ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬أعيش‭ ‬فيها. ‬فأنا‭ ‬من‭ ‬قرية‭ ‬مس‭ ‬بوادي‭ ‬الطائيين‭ ‬بسلطنة‭ ‬عمان. ‬ومنذ‭ ‬طفولتي‭ ‬وأنا‭ ‬مرتبط‭ ‬بالوديان‭ ‬والبساتين‭ ‬والنخيل. ‬ولدي‭ ‬نهم‭ ‬واهتمام‭ ‬غير‭ ‬عادي‭ ‬بالحكايات‭ ‬وأحوال‭ ‬الناس‭ ‬اليومية‭ ‬التي‭ ‬نسمعها،‭ ‬وأتمنى‭ ‬دائمًا‭ ‬التعبير‭ ‬عنها،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المشاريع‭ ‬الكتابية‭ ‬ذات‭ ‬الخصوصية‭ ‬العالية‭ ‬وذات‭ ‬العلاقة‭ ‬بالمكان. ‬وسوف‭ ‬أواصل‭ ‬رحلتي‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬عنها. ‬وقد‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬السمات‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬وبشكل‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭ ‬في‭ ‬الروايات‭ ‬الأربع‭ ‬التي‭ ‬كتبتها‭ ‬والتي‭ ‬تدور‭ ‬أحداثها‭ ‬في‭ ‬القرى”.

يُسخّر‭ ‬زهران‭ ‬لغته‭ ‬ببراعة،‭ ‬فهو‭ ‬الباحث‭ ‬عن
العسل‭ ‬دومًا‭ ‬في‭ ‬سردياته،‭ ‬كما‭ ‬جسَّدها‭ ‬في‭ ‬أحداث‭ ‬روايته‭ “‬جوع‭ ‬العسل”.‬

جوع‭ ‬العسل‭!‬

تتجاوز‭ ‬تجربة‭ ‬زهران‭ ‬القاسمي‭ ‬الروائية‭ ‬تيمة‭ ‬المكان،‭ ‬إلى‭ ‬تيمات‭ ‬الأساطير‭ ‬والخرافات‭ ‬وحكايات‭ ‬الجدات. ‬وتظل‭ ‬البيئة‭ ‬العمانية‭ ‬بعلاقاتها‭ ‬المتشعبة‭ ‬والمعقدة،‭ ‬مع‭ ‬صنوف‭ ‬شتى‭ ‬من‭ ‬ألوان‭ ‬المعاناة‭ ‬في‭ ‬كسب‭ ‬العيش‭ ‬والفلاحة‭ ‬وتدبير‭ ‬المياه،‭ ‬حاضرة‭ ‬كلوحة‭ ‬خلفية‭ ‬توجّه‭ ‬معظم‭ ‬أحداث‭ ‬رواياته،‭ ‬كما‭ ‬تحرك‭ ‬شخصيات‭ ‬تلك‭ ‬الأعمال‭.‬

ففي‭ ‬روايته “‬جبل‭ ‬الشوع”‬،‭ ‬التي‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬مسلسل‭ ‬إذاعي،‭ ‬نحن‭ ‬أمام‭ ‬أربعة‭ ‬شبّان‭ ‬من‭ ‬جبل‭ ‬الشوع‭ ‬تضيق‭ ‬بهم‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬القرية‭ ‬نتيجة‭ ‬الظروف‭ ‬القاسية،‭ ‬فيتركون‭ ‬القرية‭ ‬وينطلقون‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬شاقة‭ ‬إلى‭ ‬مسقط،‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬فرص‭ ‬أوسع‭ ‬للعيش‭.‬

هكذا‭ ‬كانت‭ ‬حياة‭ ‬زهران‭ ‬القاسمي‭ ‬نفسه،‭ ‬حياة‭ ‬بسيطة‭ ‬لفلاح‭ ‬ينتمي‭ ‬لقرية‭ ‬مِس‭ ‬بوادي‭ ‬الطائيين (‬125 ‬كيلومترًا‭ ‬جنوب‭ ‬غربي‭ ‬العاصمة‭ ‬العمانية‭ ‬مسقط)‬،‭ ‬تلك‭ ‬القرية‭ ‬المحاطة‭ ‬بالجبال‭ ‬المشحونة‭ ‬بالحكايات‭ ‬والأسرار. ‬هذا‭ ‬العماني‭ ‬مغرم‭ ‬بتسلق‭ ‬الجبال‭ ‬والمشي‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬العسل‭ ‬وتربية‭ ‬النحل‭ ‬ولعب‭ ‬الشطرنج‭ ‬والقراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬والعزف‭ ‬على‭ ‬العود،‭ ‬وهو‭ ‬آخر‭ ‬عنقود‭ ‬ينحدر‭ ‬من‭ ‬أسرة‭ ‬كبيرة‭ ‬عددًا،‭ ‬فلديه‭ ‬8‭ ‬أخوة‭ ‬و3‭‬ أخوات. ‬اعتاد‭ ‬في‭ ‬طفولته‭ ‬العيش‭ ‬ببيت‭ ‬الأسرة‭ ‬وسط‭ ‬الحارة‭ ‬طوال‭ ‬الشتاء،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬يحين‭ ‬بعد‭ ‬شهر‭ ‬أبريل‭ ‬حتى‭ ‬ينتقل‭ ‬وأخوته‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬المزرعة‭ ‬لبقية‭ ‬العام،‭ ‬حيث‭ ‬يقضي‭ ‬طيلة‭ ‬النهار‭ ‬تحت‭ ‬الأشجار.. ‬وفي‭ ‬الليل‭ ‬يهبط‭ ‬إلى‭ ‬الوادي‭ ‬مشيًا‭ ‬على‭ ‬الرمل‭ ‬والحصى‭ ‬وينام‭ ‬فيه‭.‬

عن‭ ‬هذه‭ ‬النشأة‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الطبيعة‭ ‬العمانية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬محور‭ ‬إبداعه‭ ‬يقول: “‬في‭ ‬حال‭ ‬الأمطار‭ ‬القوية،‭ ‬ننام‭ ‬جميعًا‭ ‬داخل‭ ‬البيت‭ ‬في‭ ‬غرفته‭ ‬الطينية،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬ننام‭ ‬تحت‭ ‬الشجر.. ‬لو‭ ‬المطر‭ ‬أغرق‭ ‬الوادي‭ ‬ننام‭ ‬فوق‭ ‬سطح‭ ‬الجبل. ‬هكذا‭ ‬أمضيت‭ ‬طفولتي‭ ‬حتى‭ ‬عمر‭ ‬14‭ ‬سنة. ‬وبعد‭ ‬وفاة‭ ‬الوالد‭ ‬توقفنا‭ ‬عن‭ ‬زيارة‭ ‬المزرعة،‭ ‬وخرج‭ ‬كل‭ ‬أخ‭ ‬واستقل‭ ‬بحياته. ‬وهكذا‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬مسقط‭ ‬لاستكمال‭ ‬تعليمي،‭ ‬وتخصصت‭ ‬في‭ ‬الرقابة‭ ‬الصحية‭ ‬في‭ ‬الصحة‭ ‬العامة،‭ ‬وحصلت‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬الدبلوم. ‬ولما‭ ‬تخرجت‭ ‬مباشرة‭ ‬اشتغلت‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬الصحة.. ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بخمس‭ ‬سنوات‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬دبلوم‭ ‬في‭ ‬الإدارة‭ ‬الصحية.. ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬في‭ ‬وظيفتي‭ ‬أتابع‭ ‬حالات‭ ‬الأمراض‭ ‬المعدية‭ ‬وأعمل‭ ‬في‭ ‬التقصي‭ ‬الوبائي”.

يُسخّر‭ ‬زهران‭ ‬لغته‭ ‬ببراعة،‭ ‬فهو‭ ‬الباحث‭ ‬عن‭ ‬العسل‭ ‬دومًا،‭ ‬عسله‭ ‬في‭ ‬سردياته‭ ‬التي‭ ‬جسدها‭ ‬في‭ ‬روايته “‬جوع‭ ‬العسل”‬،‭ ‬وفيها‭ ‬مساحة‭ ‬إبداعية‭ ‬مختلفة،‭ ‬إذ‭ ‬يطوّع‭ ‬اللغة‭ ‬لتسرد‭ ‬برشاقة‭ ‬معاناة‭ ‬أصحابها،‭ ‬وهم‭ ‬هنا‭ ‬ثلاثة‭ ‬أصدقاء‭ ‬خرجوا‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬العسل: ‬عزّان‭ ‬بن‭ ‬سعيد،‭ ‬وعبدالله‭ ‬بن‭ ‬حمد،‭ ‬وناصر‭ ‬بن‭ ‬سالم‭ ‬الحطّاطي. ‬فلكل‭ ‬منهم‭ ‬طبيعته‭ ‬وشخصيته‭ ‬المختلفة‭ ‬تمامًا‭ ‬عن‭ ‬الآخر،‭ ‬لا‭ ‬يجمعهم‭ ‬سوى‭  ‬القدر‭ ‬والعسل،‭ ‬وحتى‭ ‬مصائرهم‭ ‬جاءت‭ ‬ثرية‭ ‬متنوعة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتوقعها‭ ‬القارئ،‭ ‬وتلك‭ ‬هي‭ ‬واقعية‭ ‬القاسمي‭ ‬السحرية‭ ‬في‭ ‬رواياته‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬البيئة‭ ‬والطبيعة،‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬نبالغ‭ ‬إن‭ ‬قلنا‭ ‬إنها‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬روحه‭!‬

حجر‭ ‬المندوس

لا‭ ‬يعتقد‭ ‬القاسمي‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أزمة‭ ‬قراءة‭ ‬ولا‭ ‬أزمة‭ ‬نقد‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬ولا‭ ‬أزمة‭ ‬تتعلق‭ ‬بالأدب‭ ‬العماني. ‬ولكن‭ ‬الحاصل‭ ‬هو‭ ‬خجل‭ ‬كبير‭ ‬يخص‭ ‬الحالة‭ ‬العمانية، “فنحن‭ ‬لا‭ ‬نسوّق‭ ‬لأنفسنا،‭ ‬وليس‭ ‬لدينا‭ ‬خطط‭ ‬تسويقية‭ ‬كما‭ ‬يجب‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأماكن‭ ‬التي‭ ‬تسوق‭ ‬لأدبائها‭ ‬وشعرائها‭ ‬وإنتاجها‭ ‬الأدبي،‭ ‬وتحاول‭ ‬أن‭ ‬تضع‭ ‬هذا‭ ‬النتاج‭ ‬في‭ ‬الصورة‭ ‬ليقرأه‭ ‬الآخرون،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الوفرة‭ ‬الكبيرة‭ ‬جدًا‭ ‬من‭ ‬الكتابات‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬الموجودة‭ ‬ورقيًا‭ ‬وفي‭ ‬المواقع‭ ‬الإلكترونية”.

ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬حصول‭ ‬القاسمي‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬البوكر‭ ‬للرواية‭ ‬العربية،‭ ‬ومن‭ ‬قبله‭ ‬حصول‭ ‬الروائية‭ ‬العمانية‭ ‬الدكتورة‭ ‬جوخة‭ ‬الحارثي‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬المان‭ ‬بوكر‭ ‬العالمية‭ ‬عن‭ ‬رواياتها “‬سيدات‭ ‬القمر”‬،‭ ‬ولاحقًا‭ ‬الروائية‭ ‬العمانية‭ ‬بشرى‭ ‬خلفان‭ ‬على‭ ‬جائزة “كتارا” ‬عن‭ ‬روايتها “‬دلشاد.. ‬سيرة‭ ‬الجوع‭ ‬والشبع”‬،‭ ‬ومن‭ ‬بعدهم‭ ‬نالت‭ ‬بدرية‭ ‬البدري‭ ‬لقب “‬شاعرة‭ ‬الرسول”‬،‭ ‬وعائشة‭ ‬السيفي‭ ‬لقب “‬أميرة‭ ‬الشعراء”‬،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬يشكل‭ ‬تحولات‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الأدبي‭ ‬والإبداعي‭ ‬العُماني‭ ‬الآخذ‭ ‬في‭ ‬الصعود‭ ‬على‭ ‬مهل‭ ‬وبهدوء‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬صخب،‭ ‬في‭ ‬جدارية‭ ‬حضارية‭ ‬وبشرية‭ ‬صامتة،‭ ‬لا‭ ‬تبوح‭ ‬بأسرارها‭ ‬التي‭ ‬تحفظها‭ ‬منذ‭ ‬قرون‭ ‬في‭ “‬المندوس”!