Hero image

المخرج ويس أندرسون.. بصمةٌ‭ ‬خاصة‭ ‬على‭ ‬صناعة‭ ‬السينما

مايو - يونيو 2023

يوليو 25, 2023

شارك

إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ويس‭ ‬أندرسون‭ ‬أحد‭ ‬أشهر‭ ‬المخرجين‭ ‬السينمائيين‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬فالمؤكد‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬أكثرهم‭ ‬تأثيرًا‭ ‬في‭ ‬الجيل‭ ‬الشاب‭ ‬من‭ ‬صنّاع‭ ‬المحتوى‭ ‬على‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل،‭ ‬الذين‭ ‬يحاولون‭ ‬أن‭ ‬يحذوا‭ ‬حذوه‭ ‬في‭ ‬إخراج‭ ‬أفلامهم‭ ‬الصغيرة،‭ ‬يساعدهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬سعيهم‭ ‬لسبر‭ ‬غور‭ ‬الجماليات‭ ‬الإخراجية‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬أندرسون،‭ ‬وتميّزها‭ ‬عن‭ ‬غيرها،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬اسمه‭ ‬أصبح‭ ‬يُطلق‭ ‬على “تريند” ‬عند‭ ‬هؤلاء. ‬فما‭ ‬هي‭ ‬أبرز‭ ‬السمات‭ ‬الإخراجية‭ ‬هذه‭ ‬التي‭ ‬جذبت‭ ‬إليها‭ ‬شبيبة‭ ‬العالم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيرها؟

بدور‭ ‬المحيطيب

عند‭ ‬التمعن‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬كبار‭ ‬الرسامين،‭ ‬مثلًا،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬منها‭ ‬سمات‭ ‬فنية‭ ‬ترتبط‭ ‬بمبدعها. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬تمييز‭ ‬كل‭ ‬عمل‭ ‬عن‭ ‬الآخر‭ ‬أمرًا‭ ‬ممكنًا‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬مليئة‭ ‬باللوحات. ‬وبالمثل،‭ ‬للأفلام‭ ‬السينمائية‭ ‬سمات‭ ‬فنية‭ ‬إخراجية‭ ‬واضحة‭ ‬يتميز‭ ‬بها‭ ‬المخرجون‭ ‬بعضهم‭ ‬عن‭ ‬بعض،‭ ‬يشكلونها‭ ‬بتراكم‭ ‬الخبرات‭ ‬والتجارب‭ ‬فلمًا‭ ‬بعد‭ ‬فلم. ‬وقد‭ ‬برز‭ ‬المخرج‭ ‬ويس‭ ‬أندرسون‭ ‬بوصفه‭ ‬أحد‭ ‬المخرجين‭ ‬الحديثين‭ ‬الذين‭ ‬تألقوا‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬العالمية،‭ ‬إذ‭ ‬يتميز‭ ‬أسلوبه‭ ‬في‭ ‬الإخراج‭ ‬بالتفرد‭ ‬والابتكار،‭ ‬ومن‭ ‬المرجح‭ ‬أن‭ ‬جمهوره‭ ‬يميّز‭ ‬أفلامه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬جمالياتها‭ ‬وحدها‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬ملاحظتها‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬العرض‭ ‬الترويجي‭ ‬الأول‭ ‬للفلم. ‬كما‭ ‬يمكن‭ ‬الربط‭ ‬بسهولة‭ ‬بين‭ ‬أفلامه،‭ ‬بفعل‭ ‬السمات‭ ‬التي‭ ‬تكوّن‭ ‬أسلوبه‭ ‬المعروف‭ ‬الخاص. ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬هذه‭ ‬السمات‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬عمل‭ ‬أندرسون‭ ‬مميزًا‭ ‬للغاية؟

بدأ‭ ‬ويس‭ ‬أندرسون‭ ‬مسيرته‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬بفلم “‬بوتل‭ ‬روكت” (Bottle Rocket) ‬عام 1996م،‭ ‬وقدّم‭ ‬لاحقًا‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭ ‬التي‭ ‬حققت‭ ‬نجاحًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬في‭ ‬شباك‭ ‬التذاكر،‭ ‬وحظيت‭ ‬بإعجاب‭ ‬الجماهير‭ ‬ولفتت‭ ‬أنظار‭ ‬النقاد. ‬ويستخدم‭ ‬أندرسون‭ ‬الأسلوب‭ ‬نفسه‭ ‬تقريبًا‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أفلامه،‭ ‬متميزًا‭ ‬بالتفاصيل‭ ‬الدقيقة،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يطوّر‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬بشكل‭ ‬فريد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬فلم،‭ ‬بفعل‭ ‬تغيّر‭ ‬القصة‭ ‬والشخصيات‭ ‬والموضوع‭ ‬والتصميم‭ ‬الفني،‭ ‬مما‭ ‬يسمح‭ ‬للجمهور‭ ‬بالاستمتاع‭ ‬بقصة‭ ‬جديدة‭ ‬ومدهشة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة. ‬وهو‭ ‬يعمل‭ ‬عادة‭ ‬مع‭ ‬فريق‭ ‬إنتاجه‭ ‬المعتاد،‭ ‬وفريق‭ ‬من‭ ‬الممثلين‭ ‬المفضلين‭ ‬لديه،‭ ‬ومنهم‭ ‬بيل‭ ‬موراي،‭ ‬وأوين‭ ‬ويلسون،‭ ‬وجيسون‭ ‬شوارتزمان،‭ ‬وأدريان‭ ‬برودي،‭ ‬وأنجيلا‭ ‬لانسبيري‭.‬

مشهد من فلم “ذا رويال تينيباوم” 2001 تظهر فيه سمة التناظر بشكل واضح.

التناظر‭ ‬أول‭ ‬سمات‭ ‬طابعه‭ ‬الخاص

أول‭ ‬ما‭ ‬يلفت‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬ويس‭ ‬أندرسون‭ ‬الطابع‭ ‬البصري‭ ‬غير‭ ‬المألوف. ‬فهو‭ ‬يرتّب‭ ‬إطار‭ ‬التصوير‭ ‬بدقة‭ ‬متناهية،‭ ‬باللجوء‭ ‬إلى‭ ‬تنسيق‭ ‬مكوّنات‭ ‬اللقطات‭ ‬بالتناظر،‭ ‬سواء‭ ‬أكان‭ ‬تناظر‭ ‬الأشخاص‭ ‬أم‭ ‬الأشياء‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬منتصف‭ ‬الإطار. ‬وهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬في‭ ‬التكوين‭ ‬ليست‭ ‬مبهجة‭ ‬للعين‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬تمنح‭ ‬المشهد‭ ‬أيضًا‭ ‬إحساسًا‭ ‬بالانسجام‭ ‬والتوازن. ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬لو‭ ‬تخيلنا‭ ‬خطًا‭ ‬مستقيمًا‭ ‬يقطع‭ ‬منتصف‭ ‬صور‭ ‬مشاهد‭ ‬أفلامه،‭ ‬فسيبدو‭ ‬أن‭ ‬كلا‭ ‬الجانبين‭ ‬متطابقين‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬متوازنين‭.‬

وتأليف‭ ‬هذه‭ ‬الكوادر‭ ‬السينمائية‭ ‬بدقة‭ ‬يحاكي‭ ‬رسم‭ ‬لوحة‭ ‬فنية‭ ‬حية،‭ ‬مما‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬عين‭ ‬أندرسون‭ ‬الفنية‭ ‬مشبعة‭ ‬بالاطلاع‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬الفن‭ ‬بحيث‭ ‬تمكنه‭ ‬من‭ ‬محاكاتها. ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬ثمة‭ ‬مشهد‭ ‬في‭ ‬فلم “‬طلوع‭ ‬القمر” Moonrise Kingdom‬‬ يظهر‭ ‬فيه‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬فتيان‭ ‬الكشافة‭ ‬يتوسطهم‭ ‬قائدهم‭ ‬حول‭ ‬طاولة‭ ‬طعام‭ ‬مستطيلة. ‬وتركيب‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬يعيد‭ ‬إلى‭ ‬أذهاننا‭ ‬فورًا‭ ‬لوحة‭ ‬ليوناردو‭ ‬دا‭ ‬فنشي‭ ‬الشهيرة “‬العشاء‭ ‬الأخير”. ‬ولا‭ ‬مجال‭ ‬للتعامي‭ ‬عن‭ ‬صلة‭ ‬القربى‭ ‬الواضحة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬وتلك‭ ‬اللوحة‭.‬

مشهد من فلم “طلوع القمر” 2012 مستوحى من لوحة ليوناردو دا فنشي الشهيرة “العشاء الأخير”. 

الميل‭ ‬إلى‭ ‬ثبات‭ ‬الصورة ولكل‭ ‬لون‭ ‬دلالة‭ ‬محددة

أما‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬فإن‭ ‬أندرسون‭ ‬يفضل‭ ‬اللقطات‭ ‬الثابتة‭ ‬على‭ ‬غيرها. ‬وإذا‭ ‬تحركت‭ ‬الكاميرا‭ ‬فستقترب‭ ‬مكبِّرةً،‭ ‬وتبتعد‭ ‬مصغِّرةً،‭ ‬وتميل‭ ‬وتمشي،‭ ‬لكن‭ ‬بثبات‭ ‬تام‭ ‬واستقامة. ‬وما‭ ‬يعطيها‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الثبات‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬عادة‭ ‬أنها‭ ‬مثبتة‭ ‬على‭ ‬حامل،‭ ‬أو‭ ‬عربة،‭ ‬أو‭ ‬لأنها‭ ‬تسير‭ ‬على‭ ‬سكة‭ ‬بمسار‭.‬

تنتظم‭ ‬حركة‭ ‬الشخصيات‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬بتناغم،‭ ‬وقد‭ ‬تأتي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المشاهد‭ ‬التي‭ ‬توجَّه‭ ‬إيماءات‭ ‬الشخصيات‭ ‬فيها‭ ‬بوضوح‭ ‬باتجاه‭ ‬الكاميرا،‭ ‬فتخلق‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬جوًا‭ ‬خياليًا،‭ ‬وغالبًا‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬طفوليًا،‭ ‬للعوالم‭ ‬التي‭ ‬تخلقها‭ ‬كل‭ ‬قصة. ‬ويشير‭ ‬السينمائي‭ ‬جيمس‭ ‬ماكدويل‭ ‬إلى‭ ‬أفلام‭ ‬أندرسون‭ ‬على‭ ‬أنها “‬تشجع‭ ‬الشعور‭ ‬بالدهشة‭ ‬تجاه‭ ‬الجمالية‭ ‬الطفولية”.‬

ومن‭ ‬المؤثرات‭ ‬المرئية‭ ‬الشائعة‭ ‬في‭ ‬أسلوب‭ ‬أندرسون‭ ‬تأثير‭ ‬الحركة‭ ‬البطيئة‭ ‬والطويلة،‭ ‬مثل‭ ‬مشاهد‭ ‬تتبع‭ ‬سير‭ ‬الشخصيات‭ ‬عند‭ ‬انتقالها‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬آخر. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬تأثير‭ ‬الحركة‭ ‬البطيئة‭ ‬ليست‭ ‬تقنية‭ ‬أندرسون‭ ‬الحصرية،‭ ‬فهناك‭ ‬من‭ ‬يستخدمها‭ ‬دائمًا‭ ‬من‭ ‬المخرجين‭ ‬أمثال‭ ‬مارتن سكورسيزي‮ ‬وكوينتين تارانتينو،‭ ‬لكن‭ ‬أندرسون‭ ‬يستغلها‭ ‬لتعطي‭ ‬إحساسًا‭ ‬عميقًا‭ ‬بالاستمرارية،‭ ‬وبالاتصال‭ ‬بين‭ ‬الشخصيات‭ ‬والمشاهد. ‬وأحيانًا،‭ ‬بعد‭ ‬اللقطات‭ ‬الطويلة‭ ‬البطيئة،‭ ‬تراه‭ ‬يكسر‭ ‬النمط‭ ‬فجأة‭ ‬عمدًا‭ ‬لتوليد‭ ‬الإحساس‭ ‬باللحظات‭ ‬الحاسمة‭ ‬أثناء‭ ‬الحبكة‭.‬

ويلاحظ‭ ‬المتفرج‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬فلم‭ ‬من‭ ‬أفلام‭ ‬أندرسون‭ ‬تدرجات‭ ‬لونية‭ ‬محددة،‭ ‬تنتشر‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬الفلم،‭ ‬فاختيارات‭ ‬الألوان‭ ‬تأتي‭ ‬بدقة‭ ‬متناهية‭ ‬لمغزى‭ ‬ما. ‬يعلم‭ ‬أندرسون‭ ‬مدى‭ ‬أهمية‭ ‬الألوان‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬رابطة‭ ‬عاطفية‭ ‬بين‭ ‬المشهد‭ ‬والجمهور،‭ ‬وتوجيه‭ ‬انتباهه‭ ‬إلى‭ ‬أدق‭ ‬التفاصيل،‭ ‬فيخلق‭ ‬بها‭ ‬أجواءً‭ ‬تعكس‭ ‬عادةً‭ ‬مزاج‭ ‬الشخصيات‭ ‬الفريدة‭ ‬في‭ ‬الفلم،‭ ‬والطابع‭ ‬العام‭ ‬للرسالة‭ ‬التي‭ ‬يريد‭ ‬إيصالها‭ ‬من‭ ‬خلاله‭.‬

فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬يدعم‭ ‬نظام‭ ‬الألوان‭ ‬الأزرق‭ ‬والأبيض‭ ‬الأجواء‭ ‬البحرية‭ ‬لفلم “الحياة‭ ‬المائية‭ ‬لستيف‭ ‬زيزو” ‭(‬The Life Aquatic with Steve‭ ‬Zissou‭)‬، ‬وتبرز‭ ‬القبعات‭ ‬الحمراء‭ ‬المميزة‭ ‬بشكل‭ ‬صارخ‭ ‬مقابل‭ ‬الخلفيات‭ ‬الزرقاء‭ ‬مما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬جذب‭ ‬تركيزنا‭ ‬باستمرار‭ ‬إلى‭ ‬الطاقم‭.‬

 

أما‭ ‬فلم “‬فندق‭ ‬بودابست‭ ‬الكبير”‬،‭ ‬فإنه‭ ‬يتميز‭ ‬بتدرجات‭ ‬لونية‭ ‬قوية‭ ‬وزاهية،‭ ‬مثل‭ ‬الأحمر‭ ‬والوردي‭ ‬والبنفسجي‭ ‬والأزرق‭ ‬السماوي‭ ‬والأصفر،‭ ‬وتتغير‭ ‬التدرجات‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬الفلم‭ ‬بحسب‭ ‬السرد‭ ‬القصصي‭ ‬للأحداث،‭ ‬ودور‭ ‬الشخصيات‭ ‬فيها. ‬يبدأ‭ ‬الخط‭ ‬الزمني‭ ‬للفلم‭ ‬في‭ ‬عام ‭‬1932م،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬الزمنية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬ذات‭ ‬ألوان‭ ‬ساطعة‭ ‬للغاية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬استُخدمت‭ ‬منحت‭ ‬إحساسًا‭ ‬خياليًا‭ ‬بالجمال‭ ‬والراحة‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬التحديات‭ ‬من‭ ‬حولها،‭ ‬فبدا‭ ‬وكأن‭ ‬الفندق‭ ‬تمويه‭ ‬لإخفاء‭ ‬قسوة‭ ‬الحرب،‭ ‬بالنسبة‭ ‬للأثرياء‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة. ‬ومن‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬ظهرت‭ ‬ألوان‭ ‬الشخصيات‭ ‬بشكل‭ ‬جلي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تخصيص‭ ‬الألوان‭ ‬الداكنة‭ ‬للخصوم،‭ ‬والرمادي‭ ‬للحكومة‭ ‬البيروقراطية،‭ ‬والألوان‭ ‬الزاهية‭ ‬للأبطال. ‬وبهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬تشكلت‭ ‬تدرجات‭ ‬اللوحة‭ ‬الفلمية‭.‬

ومن‭ ‬العوامل‭ ‬الرئيسة‭ ‬التي‭ ‬تعكس‭ ‬ألوان‭ ‬الفلم،‭ ‬وتضفي‭ ‬جمالية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تهميش‭ ‬أثرها‭ ‬على‭ ‬المتلقي‭ ‬هي‭ ‬اختيارات‭ ‬تصاميم‭ ‬الأزياء. ‬وبالتأمل‭ ‬في‭ ‬أسلوب‭ ‬المخرج‭ ‬الخارج‭ ‬عن‭ ‬المألوف،‭ ‬نرى‭ ‬أنه‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬اختيار‭ ‬أزياء‭ ‬وإكسسوارات‭ ‬غير‭ ‬عادية‭ ‬لتتألق‭ ‬بها‭ ‬شخصياته‭ ‬الخيالية‭.‬

الموسيقى‭ ‬لتعزيز‭ ‬المشهد والفكاهة‭ ‬لتقليل‭ ‬توتر‭ ‬الأحداث

من‭ ‬السهل‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬العناصر‭ ‬المرئية‭ ‬المميزة‭ ‬لأندرسون،‭ ‬ولكن‭ ‬هناك‭ ‬عناصر‭ ‬أخرى‭ ‬مكملة‭ ‬لأسلوبه‭ ‬الفريد‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬أهمية‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬البصرية،‭ ‬ومنها‭ ‬تدعيم‭ ‬المَشاهد‭ ‬بالموسيقى‭ ‬لتحقيق‭ ‬التأثير‭ ‬المطلوب‭ ‬في‭ ‬الجمهور. ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المخرج‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬أجواء‭ ‬الستينيات‭ ‬والسبعينيات‭ ‬في‭ ‬الموسيقى،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يمنعه‭ ‬من‭ ‬اختيار‭ ‬المناسب‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬أكبر‭ ‬تبدأ‭ ‬بكونشيرتو‭ ‬ليوهان‭ ‬سيباستيان‭ ‬باخ‭ ‬وموسيقى‭ ‬أخرى‭ ‬لفريق‭ ‬البيتلز،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬فلم “ذا‭ ‬رويال‭ ‬تيننباومز” ‬The Royal Tenenbaums.

ويتميز‭ ‬أندرسون‭ ‬بالكوميديا‭ ‬الذكية‭ ‬التي‭ ‬تمتزج‭ ‬بشكل‭ ‬فريد‭ ‬مع‭ ‬الدراما‭ ‬والرومانسية‭ ‬والإثارة‭ ‬في‭ ‬أفلامه. ‬فيعتمد‭ ‬على‭ ‬الفكاهة‭ ‬أداةً‭ ‬رئيسة‭ ‬لتخفيف‭ ‬التوتر‭ ‬وإضفاء‭ ‬جو‭ ‬من‭ ‬الخفة‭ ‬والمرح‭ ‬على‭ ‬الأحداث‭ ‬الدرامية. ‬وتتداخل‭ ‬هذه‭ ‬الكوميديا‭ ‬المتوازنة‭ ‬مع‭ ‬ثيمات‭ ‬لموضوعات‭ ‬تتكرر‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬أندرسون‭ ‬ومنها: ‬العائلة‭ ‬والتحديات‭ ‬والصعوبات‭ ‬التي‭ ‬تواجهها‭ ‬في‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الروابط‭ ‬العاطفية‭ ‬بين‭ ‬أفرادها،‭ ‬والوحدة‭ ‬والشخصيات‭ ‬المنعزلة‭ ‬ومحاولتها‭ ‬الاندماج‭ ‬مع‭ ‬المجتمع،‭ ‬والحب‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬العلاقات‭ ‬الرومانسية‭ ‬ومكافحة‭ ‬الأزواج‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬علاقتهم،‭ ‬والصداقة‭ ‬وأهميتها‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬السعادة‭ ‬والنجاح‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬والإبداع‭ ‬حيث‭ ‬الحرفيون‭ ‬والفنانون‭ ‬ومطاردتهم‭ ‬المستمرة‭ ‬لأحلامهم‭ ‬وطموحاتهم‭.‬

قد‭ ‬يتقاطع‭ ‬أسلوب‭ ‬ويس‭ ‬أندرسون‭ ‬مع‭ ‬أساليب‭ ‬مخرجين‭ ‬آخرين،‭ ‬مثل‭ ‬تيرنس‭ ‬ماليك‭ ‬وكوينتين‭ ‬تارانتينو‭ ‬وريتشارد‭ ‬لينكليتر،‭ ‬إذ‭ ‬يتميّز‭ ‬هؤلاء‭ ‬جميعًا‭ ‬بأسلوب‭ ‬إخراجي‭ ‬فريد‭ ‬يتسم‭ ‬بالتعقيد‭ ‬والتفاصيل‭ ‬الدقيقة،‭ ‬والحوارات‭ ‬الذكية‭ ‬والأداء‭ ‬المميّز‭ ‬للممثلين. ‬ومن‭ ‬جانب‭ ‬آخر،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬أسلوب‭ ‬أندرسون‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬أساليب‭ ‬مخرجين‭ ‬آخرين،‭ ‬مثل‭ ‬ستيفن‭ ‬سبيلبرج‭ ‬وكريستوفر‭ ‬نولان‭ ‬ومارتن‭ ‬سكورسيزي،‭ ‬الذين‭ ‬يعتمدون‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬الإثارة‭ ‬والتشويق‭ ‬والدراما‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬أفلامهم. ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬يمكن‭ ‬وصف‭ ‬أسلوب‭ ‬أندرسون‭ ‬بأنه‭ ‬أكثر‭ ‬فكاهية‭ ‬وأخف‭ ‬بالمقارنة‭ ‬مع‭ ‬هؤلاء‭ ‬المخرجين‭.‬

تأثير‭ ‬يتجاوز‭ ‬السينما

يُعتبر‭ ‬أندرسون‭ ‬من‭ ‬المخرجين‭ ‬الذين‭ ‬تمكنوا‭ ‬من‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬الجمهور. ‬لكن‭ ‬تأثيره‭ ‬لم‭ ‬يقتصر‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬السينما،‭ ‬بل‭ ‬ظهرت‭ ‬آثاره‭ ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬الثقافة‭ ‬الشعبية،‭ ‬إذ‭ ‬أصبحت‭ ‬أفلامه‭ ‬مصدر‭ ‬إلهام‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬صناع‭ ‬المحتوى‭ ‬الإبداعي‭ ‬على‭ ‬منصات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وخاصة‭ ‬تيك‭ ‬توك‭ ‬وانستقرام‭.‬

وبدأت‭ ‬مدونة‭ ‬تُدعى‭ ‬آفا‭ ‬ويليامز‭ ‬بإنشاء “‬تريند‭ ‬ويس‭ ‬أندرسون”‬،‭ ‬عندما‭ ‬نشرت‭ ‬مقطعًا‭ ‬لرحلتها‭ ‬على‭ ‬القطار‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬كونيكتيكت‭ ‬إلى‭ ‬نيويورك‭ ‬بأسلوب‭ ‬المخرج. ‬تميّز‭ ‬هذا‭ ‬الفيديو‭ ‬القصير‭ ‬الذي‭ ‬تبلغ‭ ‬مدته‭ ‬24‭ ‬ثانية‭ ‬بأسلوب‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬الإطارات‭ ‬يمكن‭ ‬لأي‭ ‬شخص‭ ‬أن‭ ‬يتعرف‭ ‬عليه‭ ‬فورًا‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬دراية‭ ‬بأسلوب‭ ‬أندرسون،‭ ‬وكان‭ ‬مقرونًا‭ ‬بموسيقى‭ ‬لألكسندر‭ ‬ديبلات‭ ‬من‭ ‬فِلم “‬ذا‭ ‬فرينتش‭ ‬ديسباتش” (‬The French Dispatch). ‬وقد‭ ‬انتشر‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬بين‭ ‬الجميع‭ ‬ليوثقوا‭ ‬رحلاتهم،‭ ‬وحياة‭ ‬عائلاتهم،‭ ‬وتفاصيل‭ ‬يومهم‭ ‬الصغيرة‭ ‬والمزيد‭!‬

وما‭ ‬تبع‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬أندرسون‭ ‬جعلنا‭ ‬نمعن‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياتنا،‭ ‬ونرى‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬حولنا‭ ‬بنظرة‭ ‬فنية‭ ‬دائمًا،‭ ‬ونطلق‭ ‬العنان‭ ‬لخيالاتنا‭ ‬كي‭ ‬نتمتع‭ ‬بدور “‬الشخصية‭ ‬الرئيسة” ‬في‭ ‬القصص‭ ‬التي‭ ‬نعيشها‭ ‬كل‭ ‬يوم. ‬كما‭ ‬وضع‭ ‬بين‭ ‬أيدينا‭ ‬فرصة‭ ‬لأن‭ ‬نُخرج‭ ‬يومياتنا‭ ‬المتواضعة‭ ‬كفلم‭ ‬ملهم‭!‬

وإلى‭ ‬جانب‭ ‬تأثيره‭ ‬على‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬فقد‭ ‬نلحظ‭ ‬أن‭ ‬أسلوب‭ ‬أندرسون‭ ‬لاقى‭ ‬شعبية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الإعلانات‭ ‬أيضًا،‭ ‬تبعًا‭ ‬لتأثير‭ ‬إطاراته‭ ‬البصرية‭ ‬المدهشة‭ ‬على‭ ‬جذب‭ ‬الجمهور. ‬ولذلك،‭ ‬فكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬يتولى‭ ‬أعمال‭ ‬الدعاية‭ ‬والإعلان‭ ‬لدعم‭ ‬مشاريع‭ ‬أفلامه‭ ‬الطويلة. ‬كما‭ ‬أصبح‭ ‬ملهمًا‭ ‬لبعض‭ ‬الموسيقيين‭ ‬والمنتجين‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬الفيديوهات‭ ‬الموسيقية،‭ ‬مثل‭ ‬اقتباس‭ ‬فرقة “‬فامباير‭ ‬ويكند” (‬Vampire Weekend) ‬أسلوبه‭ ‬في‭ ‬فيديو‭ ‬أغنية “‬أكسفورد‭ ‬كوما” (‬Oxford comma 2008).‬

بعبارة‭ ‬أخيرة،‭ ‬لقد‭ ‬نجح‭ ‬ويس‭ ‬أندرسون‭ ‬في‭ ‬جعل‭ ‬صناعة‭ ‬الأفلام‭ ‬فنًا‭ ‬يتمتع‭ ‬بالجمال‭ ‬والتفرد. ‬وعندما‭ ‬نفهم‭ ‬الفلم‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬وسيط‭ ‬إبداعي،‭ ‬نستطيع‭ ‬بالعمل‭ ‬المتقن‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬إطار‭ ‬إبراز‭ ‬أبسط‭ ‬التفاصيل‭ ‬لتكون‭ ‬عنصرًا‭ ‬جماليًا‭ ‬باهرًا. ‬ويُتوقع‭ ‬أن‭ ‬يتعاظم‭ ‬تأثير‭ ‬ويس‭ ‬أندرسون‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬السينما‭ ‬والفنون‭ ‬والثقافة‭ ‬الشعبية،‭ ‬وأن‭ ‬يبقى‭ ‬إرثه‭ ‬الفني‭ ‬مصدر‭ ‬إلهام‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬والمبدعين‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المجالات‭ ‬حول‭ ‬العالم‭.‬