Hero image

مكتبات الشخصيات الروائية

مايو - يونيو 2023

يوليو 21, 2023

شارك

ما‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬يمزج‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬واقعي‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬متخيل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬المكتبات،‭ ‬حيث‭ ‬تتجاور‭ ‬المعرفة،‭ ‬بكل‭ ‬أطيافها،‭ ‬مع‭ ‬فنون‭ ‬الإبداع‭ ‬الأخرى،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬خيال‭ ‬وفن‭ ‬ومباهج‭ ‬تتجلّى،‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬تتجلّى،‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬السرد. ‬وهناك‭ ‬قد‭ ‬تصادفنا‭ ‬شخصيات‭ ‬روائية‭ ‬قارئة‭ ‬لديها‭ ‬أسبابها‭ ‬ومبرراتها‭ ‬في‭ ‬القراءة،‭ ‬ولديها‭ ‬ميولها‭ ‬في‭ ‬أنواع‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬تقرؤها‭ ‬وكذلك‭ ‬لها‭ ‬طقوسها‭ ‬وعاداتها‭ ‬وأماكنها‭ ‬وأوقاتها‭ ‬المفضلة‭ ‬للقراءة. ‬ولأن‭ ‬تفاصيل‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬تتشعب‭ ‬وتتعدد‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬الأعمال‭ ‬السردية،‭ ‬فسوف‭ ‬نقصر‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المقالة‭ ‬على‭ ‬محور‭ ‬محدد،‭ ‬وهو‭ ‬مكتبات‭ ‬الشخصيات‭ ‬الروائية.
• طامي السيمري

تختلف‭ ‬المكتبات‭ ‬المتخيلة‭ ‬في‭ ‬الروايات‭ ‬في‭ ‬أنواعها‭ ‬وأهميتها‭ ‬وحضورها‭ ‬بين‭ ‬رواية‭ ‬وأخرى،‭ ‬فهناك‭ ‬المكتبات‭ ‬العامة‭ ‬ومكتبات‭ ‬الجامعات‭ ‬وأحيانًا‭ ‬المكتبات‭ ‬التجارية،‭ ‬وذلك‭ ‬وفق‭ ‬سياق‭ ‬الأحداث. ‬ويأتي‭ ‬ذكر‭ ‬تلك‭ ‬المكتبات‭ ‬غالبًا‭ ‬في‭ ‬إشارات‭ ‬عابرة‭ ‬وفي‭ ‬أوصاف‭ ‬نمطية‭ ‬مكررة،‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬تُستثمر‭ ‬كفضاء‭ ‬مكاني‭ ‬لالتقاء‭ ‬الشخصيات‭ ‬الروائية،‭ ‬أو‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬مكانًا‭ ‬للبحث‭ ‬العلمي‭ ‬كمكتبة‭ ‬جامعة‭ ‬ميزوري،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬فيها‭ ‬بطل‭ ‬رواية “ستونر”‭ ‬لجون‭ ‬ويليامز. ‬لكن‭ ‬وصف‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬يجمع‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬جدية‭ ‬البحث‭ ‬والشغف‭:‬ “يتجول‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬الجامعة‭ ‬بين‭ ‬أكداس‭ ‬آلاف‭ ‬الكتب،‭ ‬يشم‭ ‬عبق‭ ‬الجلد‭ ‬والقماش‭ ‬والصفحات‭ ‬الجافة‭ ‬كأنها‭ ‬بخور‭ ‬نقي. ‬يتوقف‭ ‬أحيانًا‭ ‬ويسحب‭ ‬مجلدًا‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬رف‭ ‬يحمله‭ ‬بيديه‭ ‬الضخمتين‭ ‬فتسري‭ ‬فيهما‭ ‬رعشة‭ ‬خفيفة‭ ‬لدى‭ ‬اللمسة‭ ‬غير‭ ‬المألوفة‭ ‬لكعب‭ ‬الكتاب‭ ‬وجلدته‭ ‬وصفحاته‭ ‬الآسرة”.‬

أمّا‭ ‬بطل‭ ‬رواية “البحث‭ ‬عن‭ ‬الزمن‭ ‬المفقود” ‬لمارسيل‭ ‬بروست‭ ‬فينظر‭ ‬إلى‭ ‬المكتبة‭ ‬برؤية‭ ‬حالمة‭ ‬وكأنها‭ ‬الملاذ،‭ ‬إذ‭ ‬يقول: “المكتبة‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬المكان‭ ‬الأفضل‭ ‬الذي‭ ‬يصنع‭ ‬فيه‭ ‬المرء‭ ‬حلم‭ ‬الحياة‭”‬. وعلى‭ ‬النقيض‭ ‬منه،‭ ‬فإن‭ ‬بطل‭ ‬رواية “أعلنوا‭ ‬مولده‭ ‬فوق‭ ‬الجبل” ‬لجيمس‭ ‬بالدون‭ ‬يتهيب‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬المكتبة‭ ‬العامة‭ ‬لأنها‭ ‬مكدسة‭ ‬بالكتب،‭ ‬ويسوق‭ ‬مبرر‭ ‬خوفه‭ ‬من‭ ‬المكان‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة: “لأنه‭ ‬كان‭ ‬ضخمًا‭ ‬للغاية‭ ‬ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أنه‭ ‬مليء‭ ‬بالطرقات‭ ‬والسلالم‭ ‬الرخامية،‭ ‬وإنه‭ ‬سيضيع‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المتاهة‭ ‬ولن‭ ‬يجد‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬يريده،‭ ‬حينئذ‭ ‬سيعرف‭ ‬الجميع‭ ‬بالداخل‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يعتد‭ ‬دخول‭ ‬المباني‭ ‬الضخمة‭ ‬أو‭ ‬مقاربة‭ ‬الكتب‭ ‬الكثيرة‭”‬. لكنه‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬وعندما‭ ‬استطاع‭ ‬دخول‭ ‬تلك‭ ‬المكتبة،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يخاف‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬

المكتبات‭ ‬المنزلية‭ ‬ومشاعر الشخصيات‭ ‬الروائية

تحظى‭ ‬بعض‭ ‬المكتبات‭ ‬المنزلية‭ ‬في‭ ‬الروايات‭ ‬بأهمية‭ ‬الوصف‭ ‬عند‭ ‬الروائيين‭ ‬لأنها‭ ‬ترتبط‭ ‬بالشخصية‭ ‬الروائية‭ ‬وتعكس‭ ‬ملامحها،‭ ‬كما‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬ذائقتها‭ ‬وأيضًا‭ ‬على‭ ‬المكانة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تعيشها‭ ‬الشخصية. ‬ولهذا،‭ ‬فإن‭ ‬بائع‭ ‬الكتب‭ ‬في‭ ‬رواية “اليوم‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬السعادة” ‬لأنريكو‭ ‬دي‭ ‬لوكا‭ ‬يقول: ‬إن “أعمق‭ ‬فراغ‭ ‬رأيته‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬هو‭ ‬فراغ‭ ‬جدار‭ ‬كان‭ ‬يسند‭ ‬مكتبة‭ ‬مباعة”. ‬وهذه‭ ‬العبارة‭ ‬تعطي‭ ‬انطباعًا‭ ‬بأن‭ ‬المكتبة‭ ‬قد‭ ‬تصبح‭ ‬جزءًا‭ ‬رئيسًا‭ ‬من‭ ‬مكوّنات‭ ‬المنزل‭ ‬وأنها‭ ‬لا‭ ‬تباع‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الظروف‭ ‬القاهرة‭.‬

وقد‭ ‬يمنح‭ ‬وجود‭ ‬المكتبة‭ ‬المنزلية‭ ‬الشخصية‭ ‬الروائية‭ ‬شعورًا‭ ‬حميميًا‭ ‬ليس‭ ‬بسبب‭ ‬منظر‭ ‬الكتب‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬يمتد‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬ذلك. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نجده‭ ‬عند‭ ‬تيريزا‭ ‬بطلة‭ ‬رواية “كائن‭ ‬لا‭ ‬تحتمل‭ ‬خفته” ‬لميلان‭ ‬كونديرا،‭ ‬إذ‭ ‬صوّر‭ ‬الكاتب‭ ‬مشاعرها‭ ‬وهي‭ ‬ترى‭ ‬تلك‭ ‬المكتبة‭ ‬المنزلية‭ ‬للمهندس‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الآتي: “عيناها‭ ‬متسمرتان‭ ‬إلى‭ ‬الحائط‭ ‬الذي‭ ‬تحجبه‭ ‬تمامًا‭ ‬رفوف‭ ‬مزدحمة‭ ‬بالكتب. ‬سُرَّت‭ ‬تیریزا‭ ‬لذلك. ‬والقلق‭ ‬الذي‭ ‬رافقها‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬هنا‭ ‬أخذ‭ ‬يتلاشى. ‬منذ‭ ‬طفولتها،‭ ‬كانت‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬علامة‭ ‬على‭ ‬أخوّة‭ ‬سرية‭.‬ فمن‭ ‬يملك‭ ‬مكتبة‭ ‬كهذه،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬مستطاعه‭ ‬إذًا‭ ‬أن‭ ‬يؤذيها”. ‬لكن‭ ‬كونديرا‭ ‬لم‭ ‬يكتف‭ ‬بدهشة‭ ‬تيريزا‭ ‬الحميمية‭ ‬بالمكتبة،‭ ‬بل‭ ‬وصف‭ ‬مشاعرها‭ ‬وهي‭ ‬ترى‭ ‬مسرحية‭ ‬أوديب‭ ‬ضمن‭ ‬الكتب‭ ‬أيضًا،‭ ‬فتستعيد‭ ‬ذكرى‭ ‬توماس‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أوصاها‭ ‬بقراءة‭ ‬تلك‭ ‬الرواية‭ ‬وقد‭ ‬اعتبرت‭ ‬الأمر‭ ‬بمثابة‭ ‬إشارة. ‬والأمر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬دهشة‭ ‬تيريزا‭ ‬بتلك‭ ‬المكتبة،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭ ‬كانت‭ ‬تقرأ‭ ‬رواية “آنا‭ ‬كارنينا” ‬لتولستوي،‭ ‬وقراءتها‭ ‬لتلك‭ ‬الرواية‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬توماس‭ ‬يميزها،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬تأثير‭ ‬تلك‭ ‬الرواية‭ ‬يمتد‭ ‬إلى‭ ‬تسمية‭ ‬كلبتهما‭ ‬باسم “كارنينا‭”.

لكن‭ ‬ليس‭ ‬الشعور‭ ‬الحميم‭ ‬وحده‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تولّده‭ ‬المكتبة‭ ‬عند‭ ‬الشخصيات‭ ‬الروائية،‭ ‬فهناك‭ ‬ردود‭ ‬فعل‭ ‬أخرى‭ ‬مختلفة‭ ‬ومغايرة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬عبرت‭ ‬عنه‭ ‬شخصية “نك” ‬بطل‭ ‬رواية “غاتسبي‭ ‬العظيم” ‬لفيتزجيرالد،‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬شاهد‭ ‬المكتبة‭ ‬في‭ ‬منزل “غاتسبي‭”‬،‭‬ وكان‭ ‬في‭ ‬حديثه‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬المكتبة‭ ‬لا‭ ‬تعني “غاتسبي” ‬بأي‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الأحوال‭ ‬ولا‭ ‬تعكس‭ ‬اهتمامه‭ ‬بالقراءة،‭ ‬بل‭ ‬تتماهى‭ ‬مع‭ ‬حالة‭ ‬الثراء‭ ‬المريب‭ ‬الذي‭ ‬يتمتع‭ ‬به: “لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك. ‬ولم‭ ‬نستطع‭ ‬أن‭ ‬نراه‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬الدرجات،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬الشرفة،‭ ‬وفي‭ ‬لحظة‭ ‬ما‭ ‬جربنا‭ ‬بابًا‭ ‬تبدو‭ ‬عليه‭ ‬الأهمية،‭ ‬فدخلنا‭ ‬مكتبة‭ ‬على‭ ‬الطراز‭ ‬القوطي،‭ ‬صُنعت‭ ‬رفوفها‭ ‬من‭ ‬خشب‭ ‬البلوط‭ ‬الإنجليزي،‭ ‬وربما‭ ‬نقلت‭ ‬بكاملها‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬البيوت‭ ‬التي‭ ‬دُمرت‭ ‬عبر‭ ‬البحار”.‬

وفي‭ ‬مواقف‭ ‬روائية‭ ‬أخرى‭ ‬تحاول‭ ‬الشخصية‭ ‬أن‭ ‬تتباهى‭ ‬بمكتبتها‭ ‬وبما‭ ‬تحتويه‭ ‬من‭ ‬عناوين. ‬فعندما‭ ‬علِم‭ ‬السيد “هوميه‭‬”،‭ ‬الصيدلي‭ ‬في‭ ‬رواية “مدام‭ ‬بوڤاري” ‬للروائي‭ ‬الفرنسي‭ ‬فلوبير‭ ‬بأن “إيما” ‬اشتركت‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬تُعير‭ ‬الكتب،‭ ‬عرض‭ ‬عليها‭ ‬عرضًا‭ ‬ظاهره‭ ‬المساعدة،‭ ‬لكن‭ ‬فيه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التباهي‭ ‬الشخصي‭ ‬الذي‭ ‬يتناغم‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬حكاية‭ ‬الرواية: “هل‭ ‬للسيدة‭ ‬أن‭ ‬تشرفني‭ ‬بالإفادة‭ ‬من‭ ‬مكتبتي‭ ‬الخاصة،‭ ‬إن‭ ‬لديَّ‭ ‬تحت‭ ‬تصرفها‭ ‬مكتبةً‭ ‬تضمُّ‭ ‬خيرة‭ ‬المؤلفين،‭ ‬مثل‭ ‬فولتير‭ ‬وروسو‭ ‬ودوليل،‭ ‬وولتر‭ ‬سكوت،‭ ‬وصحيفة “صدى‭ ‬الأدب‮”.

أما “سكارلت” ‬في‭ ‬رواية “ذهب‭ ‬مع‭ ‬الريح” ‬للكاتبة‭ ‬الأمريكية‭ ‬مارغريت‭ ‬ميتشل،‭ ‬فكانت‭ ‬مشاهدة‭ ‬أعداد‭ ‬الكتب‭ ‬الكثيرة‭ ‬تغمها‭.‬ وهذا‭ ‬الموقف‭ ‬العدائي‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬والمكتبات‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬شخصيتها‭  ‬ذات‭ ‬الطموح‭ ‬المادي: “كانت‭ ‬المكتبة‭ ‬شبه‭ ‬مظلمة،‭ ‬ستائرها‭ ‬مسدلة‭ ‬لاتقاء‭ ‬حرارة‭ ‬الشمس‭.‬ فغمَّتها‭ ‬الغرفة‭ ‬المعتمة‭ ‬بجدرانها‭ ‬الشاهقة‭ ‬المليئة‭ ‬بالكتب،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تختاره‭ ‬للقاء‭ ‬ودي‭ ‬كهذا،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬تأمل. ‬إن‭ ‬أعداد‭ ‬الكتب‭ ‬الكثيرة‭ ‬تغمها‭ ‬دائمًا،‭ ‬كما‭ ‬يغمها‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬يحبون‭ ‬قراءة‭ ‬الكتب‭ ‬الكثيرة،‭ ‬أعني‭ ‬جميع‭ ‬الناس‭ ‬باستثناء‭ ‬آشلي”.‭

لكن‭ ‬هناك‭ ‬شخصيات‭ ‬يُدهشها‭ ‬وجود‭ ‬المكتبة‭ ‬المنزلية. ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬الدهشة‭ ‬مضاعفة‭ ‬عندما‭ ‬تصدر‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬مثل “هانا” ‬في‭ ‬رواية “القارئ” ‬لبيرنهارد‭ ‬شلينك،‭ ‬تلك‭ ‬المرأة‭ ‬الأمية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحب‭ ‬القراءة‭ ‬لكنها‭ ‬تخفي‭ ‬جهلها. ‬وهنا‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬وصف‭ ‬السارد‭ ‬يركز‭ ‬على‭ ‬دهشة “هانا‭” ‬بالكتب،‭ ‬والمفارقة‭ ‬أن “مايكل” ‬الذي‭ ‬يحضر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرف‭ ‬بأنها‭ ‬امرأة‭ ‬أمية،‭ ‬بل‭ ‬إن “هانا” ‬استطاعت‭ ‬وهي‭ ‬تتأمل‭ ‬الكتب‭ ‬بشغفها‭ ‬البصري‭ ‬أن‭ ‬توهمه‭ ‬بأنها‭ ‬امرأة‭ ‬قارئة: “أطلقتْ‭ ‬عينيها‭ ‬لتطوف‭ ‬على‭ ‬أرفف‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬ملأت‭ ‬الحائط،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬تقرأ‭ ‬نصًا. ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬رف‭ ‬ورفعت‭ ‬سبابتها‭ ‬اليمنى‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬مستوى‭ ‬صدرها،‭ ‬ومررتها‭ ‬ببطء‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬الكتب،‭ ‬وانتقلت‭ ‬إلى‭ ‬الرف‭ ‬الذي‭ ‬يليه،‭ ‬ومررت‭ ‬إصبعها‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬لآخر‭ ‬وهي‭ ‬تقطع‭ ‬الغرفة‭ ‬كلها‭ ‬مشيًا،‭ ‬وتوقفت‭ ‬أمام‭ ‬النافذة،‭ ‬وحدّقت‭ ‬في‭ ‬الظلام‭ ‬خارجها،‭ ‬وفي‭ ‬انعكاس‭ ‬أرفف‭ ‬الكتب،‭ ‬وفي‭ ‬انعكاس‭ ‬صورتها‭.”

المكتبة‭ ‬في‭ ‬حضورها‭ ‬البراغماتي

في‭ ‬رواية “الحالة‭ ‬الحرجة‭ ‬للمدعو‭ ‬ك” ‬لعزيز‭ ‬محمد،‭ ‬كان‭ ‬البطل‭ ‬يجابه‭ ‬مرضه‭ ‬بالشغف‭ ‬وبالمزيد‭ ‬من‭ ‬القراءة. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬لم‭ ‬يأتِ‭ ‬ذكر‭ ‬المكتبة‭ ‬سوى‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬وحيد،‭ ‬أراد‭ ‬به‭ ‬الراوي‭ ‬أن‭ ‬يبيّن‭ ‬استياء‭ ‬الأم‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الكتب. ‬وهذا‭ ‬الطابع‭ ‬البراغماتي‭ ‬لحضور‭ ‬المكتبة‭ ‬يمتد‭ ‬إلى‭ ‬رواية‭ ‬أخرى‭ ‬استحضر‭ ‬مؤلفها‭ ‬المكتبة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬غاية‭ ‬محددة‭ ‬ومشهد‭ ‬وحيد،‭ ‬وهي‭ ‬رواية “صمت‭ ‬البحر” ‬للفرنسي‭ ‬ڤيركور،‭ ‬حيث‭ ‬وظّف‭ ‬السارد‭ ‬عناوين‭ ‬الكتب‭ ‬لتأكيد‭ ‬التمايز‭ ‬الإبداعي‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الأوروبي. ‬ففي‭ ‬ذلك‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬وصف‭ ‬فيه‭ ‬وقوف‭ ‬الضابط‭ ‬الألماني‭ ‬أمام‭ ‬المكتبة‭ ‬المنزلية‭ ‬للعائلة‭ ‬الفرنسية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يقاسمها‭ ‬السكن،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬ضابطًا‭ ‬مثقفًا‭ ‬قرأ‭ ‬أدب‭ ‬كبار‭ ‬الكتّاب‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬استثمر‭ ‬السارد‭ ‬هذه‭ ‬الوقفة‭ ‬ليجعل‭ ‬الضابط‭ ‬يسرد‭ ‬أسماء‭ ‬عظماء‭ ‬المبدعين‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الأوروبية،‭ ‬مفضلًا‭ ‬عليهم‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬الأمر‭ ‬أدباء‭ ‬ومفكّري‭ ‬الثقافة‭ ‬الفرنسية‭.‬

رواية‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬مكتبة

غالب‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬على‭ ‬ذكر‭ ‬المكتبات‭ ‬تكتفي‭ ‬بذكر‭ ‬مكتبة‭ ‬واحدة‭ ‬تخص‭ ‬إحدى‭ ‬الشخصيات،‭ ‬ومن‭ ‬النادر‭ ‬أن‭ ‬توجد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مكتبة‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬واحدة. ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬يتحقق‭ ‬في‭ ‬رواية “نساء‭ ‬صغيرات” ‬للويزا‭ ‬ماي‭ ‬ألكوت،‭ ‬إذ‭ ‬نجد‭ ‬فيها‭ ‬مكتبة‭ ‬العمة “مارش” ‬ومكتبة‭ ‬جد “لوري” ‬وكذلك‭ ‬مكتبة “جوزفين”.

وسنلاحظ‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬اختلافات‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬كل‭ ‬مكتبة‭ ‬عن‭ ‬الأخرى،‭ ‬وهذا‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬اعتبارات‭ ‬ترتبط‭ ‬بمرجعية‭ ‬كل‭ ‬شخصية‭ ‬في‭ ‬الرواية. ‬كما‭ ‬سنلاحظ‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬المكتبات‭ ‬المذكورة‭ ‬ترتبط‭ ‬بتواجد‭ ‬شخصية “جوزفين” ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬تحضر‭ ‬فيه‭ ‬المكتبة،‭ ‬فهي‭ ‬الشخصية‭ ‬الأكثر‭ ‬اهتمامًا‭ ‬بالقراءة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬شخصيات‭ ‬الرواية. ‬لهذا‭ ‬يأتي‭ ‬وصف‭ ‬المكتبة‭ ‬المهملة‭ ‬للعمة “‬مارش” ‬منذ‭ ‬وفاة‭ ‬زوجها‭ ‬كمكان‭ ‬مفضّل‭ ‬لجوزفين: “‬ولعل‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يجتذب ‬‮«‬جو»‬‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬عمتها‭ ‬تلك‭ ‬المكتبة‭ ‬العامرة‭ ‬بأغلى‭ ‬المؤلفات،‭ ‬وكان‭ ‬زوج‭ ‬عمتها‭ ‬قد‭ ‬ترك‭ ‬هذه‭ ‬المكتبة‭ ‬ضمن‭ ‬تركته،‭ ‬فظلت‭ ‬بعد‭ ‬وفاته‭ ‬مهملة‭ ‬تنسج‭ ‬عليها‭ ‬العناكب‭ ‬خيوطها”. ‬ثم‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬يتداعى‭ ‬وصف‭ ‬الساردة‭ ‬للمكتبة‭:‬ “كانت‭ ‬غرفة‭ ‬المكتبة‭ ‬متربة‭ ‬معتمة،‭ ‬تنتثر‭ ‬فيها‭ ‬التماثيل‭ ‬النصفية‭ ‬والمقاعد‭ ‬المريحة،‭ ‬وتغطي‭ ‬رفوفها‭ ‬كتب‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها‭ ‬ونماذج‭ ‬مختلفة‭ ‬الأحجام‭ ‬للكرة‭ ‬الأرضية”.

أما‭ ‬المكتبة‭ ‬الثانية‭ ‬فهي‭ ‬مكتبة‭ ‬جد “لوري” ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬مختلف،‭ ‬فعندما‭ ‬دخلتها “جوزفين” ‬برفقة “لوري” ‬صفقت‭ ‬بيديها‭ ‬طربًا‭ ‬على‭ ‬عادتها‭ ‬كلما‭ ‬رأت‭ ‬شيئًا‭ ‬يعجبها: “كانت‭ ‬الجدران‭ ‬مغطاة‭ ‬برفوف‭ ‬انتظمت‭ ‬عليها‭ ‬مئات‭ ‬الكتب‭ ‬والمؤلفات،‭ ‬وأركانها‭ ‬مزينة‭ ‬بالتماثيل‭ ‬والصور،‭ ‬وكان‭ ‬فيها‭  ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬خزائن‭ ‬زجاجية،‭ ‬تحوي‭ ‬نقودًا‭ ‬أثرية‭ ‬وتحفًا‭ ‬تاريخية،‭ ‬وتحيط‭ ‬بهذه‭ ‬الخزائن‭ ‬مقاعد‭ ‬وثيرة‭ ‬وموائد‭ ‬أنيقة. ‬وكان‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الغرفة‭ ‬كلها‭ ‬مدفأة‭ ‬واسعة،‭ ‬صنعت‭ ‬من‭ ‬القرميد‭ ‬المنقوش”.

والمكتبة‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬رواية “نساء‭ ‬صغيرات” ‬هي‭ ‬مكتبة “جوزفين” ‬نفسها،‭ ‬وهي‭ ‬مكتبة‭ ‬صغيرة‭ ‬تتناسب‭ ‬مع‭ ‬الحالة‭ ‬المادية‭ ‬لعائلتها‭ ‬وكذلك‭ ‬مع‭ ‬عمرها‭ ‬كمراهقة. ‬وقد‭ ‬وصفت‭ ‬الساردة‭ ‬تلك‭ ‬المكتبة‭ ‬بطرافة: “كانت‭ ‬مكتبة “جو” ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الغرفة‭ ‬لا‭ ‬تتعدى‭ ‬منضدة‭ ‬صغيرة‭ ‬مغطاة‭ ‬بالصفيح،‭ ‬وكانت‭ ‬تحتفظ‭ ‬في‭ ‬درج‭ ‬محكم‭ ‬منها‭ ‬بمسودات‭ ‬كتاباتها‭ ‬وبعض‭ ‬كتبها،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تصل‭ ‬إليها‭ ‬أنياب “سكرابل” ‬ذي‭ ‬المزاج‭ ‬الثقافي،‭ ‬الذي‭ ‬يدفعه‭ ‬إلى‭ ‬قرض‭ ‬الكتب”.‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬رواية “نساء‭ ‬صغيرات” ‬تصف‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مكتبة،‭ ‬فإن‭ ‬الروائية‭ ‬إديث‭ ‬وارتون‭ ‬لا‭ ‬تتخلى‭ ‬عن‭ ‬وصف‭ ‬المكتبات‭ ‬في‭ ‬رواياتها‭ ‬الثلاث: “عصر‭ ‬البراءة” ‬و “صيف” ‬و “رباعية‭ ‬نيويورك‭ ‬القديمة”. ‬ففي‬ “عصر‭ ‬البراءة‭”‬، ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬شخصية “نیولاند‭ ‬آرتشر‭”‬،‭‬ الأرستقراطي‭ ‬الذي‭ ‬يقرأ‭ ‬بأسلوبه‭ ‬الخاص،‭ ‬تتماشى‭ ‬مع‭ ‬وصف‭ ‬المكتبة “المزدانة‭ ‬بخزائن‭ ‬الكتب‭ ‬المصنوعة‭ ‬من‭ ‬خشب‭ ‬الجوز،‭ ‬وكراسیها‭ ‬المزخرفة‭ ‬الظهور‭ ‬على‭ ‬نمط‭ ‬قوطي”. ‬وقد‭ ‬تكرّر‭ ‬كثيرًا‭ ‬حضور‭ ‬المكتبة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬كما‭ ‬تكررت‭ ‬مشاهد‭ ‬القراءة،‭ ‬وكذلك‭ ‬الأمر‭ ‬في “رباعية‭ ‬نيويورك‭ ‬القديمة”. ‬أما‭ ‬في‭ ‬رواية “صيف‭”‬، ‬فقد‭ ‬قدّمت‭ ‬وارتون‭ ‬المكتبة‭ ‬بشكل‭ ‬مختلف،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬لمكتبة‭ ‬القرية‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬فيها‭ ‬بطلة‭ ‬الرواية “تشاريتي” ‬أمينةً‭ ‬للمكتبة‭ ‬حضور‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬أحداث‭ ‬الرواية‭.‬

محتويات‭ ‬المكتبة‭ ‬والعناية‭ ‬بها

استعراض‭ ‬محتويات‭ ‬المكتبة‭ ‬يحضر‭ ‬أحيانًا‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الروايات‭ ‬مثلما‭ ‬حضر‭ ‬في‭ ‬رواية “عزازيل” ‬ليوسف‭ ‬زيدان،‭ ‬حيث‭ ‬كان “هيبا” ‬يسرد‭ ‬نواياه‭ ‬بشأن‭ ‬ترتيب‭ ‬مكتبته: “يمكنني‭ ‬أن‭ ‬أجعلها‭ ‬مكتبةً‭ ‬أصفُّ‭ ‬فيها‭ ‬كتبي،‭ ‬وبعض‭ ‬الكتب‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مكدّسة‭ ‬في‭ ‬صناديق‭ ‬بالغرفة‭ ‬المجاورة‭ ‬لمطعم‭ ‬الدير.‬‭ ‬أسعدتني‭ ‬الفكرة،‭ ‬وأمضيتُ‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬أيامًا‭ ‬طوالًا‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬فيها‭ ‬مرضى،‭ ‬فوجدت‭ ‬الفرصة‭ ‬لمعاودة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬كتبي،‭ ‬وتصفُّح‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬أخرجتها‭ ‬من‭ ‬الصناديق”.‭

في‭ ‬حالة‭ ‬أخرى،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬المكتبة‭ ‬عند “جوناثان‭ ‬نويل”‬،‭ ‬بطل‭ ‬رواية “الحمامة‭”‬ لباتريك‭ ‬زوسكند،‭ ‬هي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬رفّ‭ ‬وحيد،‭ ‬وهذا‭ ‬يتناغم‭ ‬مع‭ ‬شخصيته‭ ‬ومع‭ ‬حجم‭ ‬الغرفة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يسكنها. ‬لكن‭ ‬القارئ‭ ‬يستدل‭ ‬من‭ ‬عناوين‭ ‬تلك‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬يحتويها‭ ‬ذلك‭ ‬الرف‭ ‬على‭ ‬ذائقة‭ ‬واهتمامات‭ ‬البطل‭ ‬المتنوعة،‭ ‬وهي‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬شخصيته‭ ‬الدقيقة،‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تتنقي‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬ما‭ ‬يناسبها،‭ ‬لكي‭ ‬تتجنب‭ ‬المآزق. ‬فهو‭ ‬إذًا‭ ‬ينتقي‭ ‬الكتب‭ ‬كما‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬في‭ ‬الحياة: “بتركيب‭ ‬رفّ‭ ‬صفَّ‭ ‬عليه‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬سبعة‭ ‬عشر‭ ‬كتابًا: ‬موسوعة‭ ‬جيب‭ ‬طبية‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬أجزاء،‭ ‬بعض‭ ‬الكتب‭ ‬المصورة‭ ‬الجميلة‭ ‬عن‭ ‬إنسان‭ ‬الكرومانيون،‭ ‬وكتاب‭ ‬آخر‭ ‬عن‭ ‬تقنية‭ ‬صب‭ ‬وتشكيل‭ ‬البرونز‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬البرونزي،‭ ‬وثالث‭ ‬عن‭ ‬مصر‭ ‬القديمة،‭ ‬ورابع‭ ‬عن‭ ‬الأتروسكيين‭ ‬والثورة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬وخامس‭ ‬عن‭ ‬السفن‭ ‬الشراعية،‭ ‬وسادس‭ ‬عن‭ ‬أعلام‭ ‬الدول،‭ ‬وسابع‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬الحيوانات‭ ‬المدارية. ‬ثم‭ ‬روايتان‭ ‬لألكساندر‭ ‬دوما‭ ‬الأب،‭ ‬ومذكرات‭ ‬القديس‭ ‬سيمون،‭ ‬وكتاب‭ ‬لتعليم‭ ‬الطبخ،‭ ‬وقاموس‭ ‬لاروس‭ ‬الصغير،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس‭ ‬الخاص‭ ‬برجال‭ ‬الحراسة‭ ‬والحماية‭ ‬مع‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬الحالات‭ ‬التي‭ ‬يُسمح‭ ‬فيها‭ ‬باستعمال‭ ‬السلاح‭ ‬الناري”.

وإذا‭ ‬كان “جوناثان‭ ‬نويل” ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬سوى‭ ‬رف‭ ‬للكتب،‭ ‬فإن “سعيد‭ ‬مهران” ‬بطل‭ ‬رواية “اللص‭ ‬والكلاب” ‬لنجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يملك‭ ‬مكتبة‭ ‬ولا‭ ‬مكانًا‭ ‬لتلك‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬تورط‭ ‬في‭ ‬حملها. ‬فعندما‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬السجن‭ ‬وذهب‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬طليقته “سناء” ‬مطالبًا‭ ‬بكتبه،‭ ‬تهكّم‭ ‬عليه‭ ‬المخبر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرافقه‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الزيارة: “من‭ ‬أين‭ ‬لك‭ ‬هذا‭ ‬العلم؟‭ ‬أكنتَ‭ ‬تسرق‭ ‬فيما‭ ‬تسرق‭ ‬الكتب؟!.

ولا‭ ‬تقدَّم‭ ‬كل‭ ‬المكتبات‭ ‬الروائية‭ ‬في‭ ‬أحسن‭ ‬حال،‭ ‬بل‭ ‬أحيانًا‭ ‬قد‭ ‬يُقدّم‭ ‬بعضها‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تالفة،‭ ‬كشاهد‭ ‬على‭ ‬الخراب‭ ‬وعلى‭ ‬أنها‭ ‬نتاج‭ ‬ويلات‭ ‬الحرب،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نجده‭ ‬في‭ ‬رواية “المريض‭ ‬الإنجليزي” ‬لمايكل‭ ‬أونداتجي،‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاقتباس‭ ‬المؤلم‭ ‬الذي‭ ‬يصف‭ ‬حال‭ ‬الكتب: “فَقَدَ‭ ‬الدرج‭ ‬عتباته‭ ‬السفلى‭ ‬بسبب‭ ‬النار‭ ‬التي‭ ‬أُضرمت‭ ‬قبل‭ ‬مغادرة‭ ‬الجنود. ‬ذهبَتْ‭ ‬إلى‭ ‬المكتبة‭ ‬وجلبَت‭ ‬عشرين‭ ‬كتابًا‭ ‬ثبّتتها‭ ‬مكان‭ ‬العتبات‭ ‬بمسامير،‭ ‬بعضها‭ ‬فوق‭ ‬بعض،‭ ‬وهكذا‭ ‬أعادت‭ ‬بناء‭ ‬العتبتين‭ ‬السفليّتَين”. ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬المتردية‭ ‬للمكتبة‭ ‬لم‭ ‬تمنع‭ ‬الكاتب‭ ‬من‭ ‬تقديم‭ ‬أعمق‭ ‬مشاهد‭ ‬القراءة‭ ‬التي‭ ‬وصفها‭ ‬بين‭ ‬الممرضة “هانا‭” ‬وبطل‭ ‬الرواية‭ ‬الذي‭ ‬يُعرف‭ ‬بالمريض‭ ‬الإنجليزي‭.‬

إنني‭ ‬أتطلع‭ ‬طوال‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬المساء،‭ ‬ثم‭ ‬أضع‭ ‬كلمة “مشغولة” ‬على‭ ‬الباب،‭ ‬وأضيء‭ ‬المصباح‭ ‬النحاسي‭ ‬بقربي‭ ‬وأقرأ. ‬وقراءة‭ ‬كتاب‭ ‬واحد‭ ‬لا‭ ‬تكفي،‭ ‬أحيانًا‭ ‬أقرأ‭ ‬أربعة‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬آنٍ‭ ‬واحد“.

جودي، من رواية “صاحب الظل الطويل”

المكتبات‭ ‬وشغف‭ ‬الشخصيات‭ ‬القارئة

“كان‭ ‬خالي‭ ‬يكره‭ ‬أن‭ ‬يعير‭ ‬كتبه‭”‬؛‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬بطل‭ ‬رواية “البحث‭ ‬عن‭ ‬الزمن‭ ‬المفقود‭‬”،‭ ‬بينما‭ ‬يجد “كمال‭ ‬عبدالجواد”‭ ‬في‭ ‬ثلاثية‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬لذّة‭ ‬ومتعة‭ ‬في‭ ‬إعارة‭ ‬الكتب‭ ‬لأصدقائه‭ ‬وأبناء‭ ‬عائلته. ‬أمّا‭ ‬السيد “هيرست”‭‬،‭ ‬في‭ ‬رواية “كبرياء‭ ‬وهوى‭” ‬لجين‭ ‬أوستن،‭ ‬فيقول‭ ‬للآنسة “إليزابيث‬”: “إنني‭ ‬أقدّم‭ ‬لكِ‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬المكتبة،‭ ‬وأتمنى‭ ‬أن‭ ‬تُحقّق‭ ‬مجموعتي‭ ‬هذه‭ ‬لكِ‭ ‬أكبر‭ ‬استفادة،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬مفخرة‭ ‬لي”.

ومثلما‭ ‬للشخصيات‭ ‬الروائية‭ ‬طقوسها‭ ‬ومواقفها‭ ‬بشأن‭ ‬مكتباتها‭ ‬المتخيلة،‭ ‬فإن‭ ‬لكل‭ ‬شخصية‭ ‬شغفها‭ ‬الخاص‭ ‬بالقراءة‭ ‬ولها‭ ‬تعبيراتها‭ ‬الخاصة. ‬فنجد “جودي” ‬وهي‭ ‬تخاطب “صاحب‭ ‬الظل‭ ‬الطويل‭‬”، ‬في‭ ‬رواية‭ ‬جين‭ ‬ويبستر،‭ ‬قائلة‭:‬ “إنني‭ ‬أتطلع‭ ‬طوال‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬المساء،‭ ‬ثم‭ ‬أضع‭ ‬كلمة “مشغولة” ‬على‭ ‬الباب،‭ ‬وأضيء‭ ‬المصباح‭ ‬النحاسي‭ ‬بقربي‭ ‬وأقرأ. ‬وقراءة‭ ‬كتاب‭ ‬واحد‭ ‬لا‭ ‬تكفي،‭ ‬أحيانًا‭ ‬أقرأ‭ ‬أربعة‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬آنٍ‭ ‬واحد‭”.‬

وفي‭ ‬رواية “أعلنوا‭ ‬مولده‭ ‬فوق‭ ‬الجبل” ‬يقول‭ ‬البطل‭:‬ “كنت‭ ‬أقرأ‭ ‬الكتب‭ ‬كأنها‭ ‬نوع‭ ‬عجيب‭ ‬من‭ ‬الطعام”. ‬أما‭ ‬شخصية‭ ‬الرئيس‭ ‬في‭ ‬رواية “زوربا” ‬لنيكوس‭ ‬كازانتزاكي،‭ ‬فيعبّر‭ ‬بهذه‭ ‬الرومانسية‭ ‬عن‭ ‬كتابه‭ ‬الذي‭ ‬سيقرؤه: “وقد‭ ‬حملت‭ ‬كتاب‭ ‬الجيب‭ ‬لدانتي‭ ‬في‭ ‬يدي،‭ ‬مغتبطًا‭ ‬بحريتي. ‬إن‭ ‬الأشعار‭ ‬التي‭ ‬سأختارها‭ ‬باكرًا‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬ستهب‭ ‬إيقاعها‭ ‬ليومي‭ ‬كله”.

من‭ ‬هذه‭ ‬التعبيرات‭ ‬التي‭ ‬نقرؤها‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الروايات‭ ‬تتسرب‭ ‬للقارئ‭ ‬أحاسيس‭ ‬ومشاعر‭ ‬تربطه‭ ‬بتلك‭ ‬الشخصيات،‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تحرضه‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬ما‭ ‬تقرأه‭ ‬وتزيد‭ ‬في‭ ‬محبته‭ ‬وشغفه‭ ‬بهذا‭ ‬العالم‭ ‬المتخيل‭.‬

أخيرًا،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬استثنينا‭ ‬تلك‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬توظف‭ ‬حضور‭ ‬الكتب‭ ‬والمكتبات‭ ‬بشكل‭ ‬صارخ‭ ‬في‭ ‬عناوينها‭ ‬مثل “مكتبة‭ ‬ساحة‭ ‬الأعشاب”‬،‭ ‬و “الكتب‭ ‬التي‭ ‬التهمت‭ ‬والدي”‭‬،‭ ‬و “بائع‭ ‬الكتب‭ ‬في‭ ‬كابول”‭‬،‭ ‬و “جامع‭ ‬الكتب‭”‬.. إلخ،‭ ‬فإننا‭ ‬نسترجع‭ ‬تساؤل‭ ‬السيد “دارسي” ‬في‭ ‬رواية “كبرياء‭ ‬وهوى”‬،‭ ‬الصادرة‭ ‬عام ‭‬1813م‭ ‬إذ‭ ‬يقول: “لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أفهم‭ ‬إهمال‭ ‬مكتبة‭ ‬العائلة‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأيام”.

ونحن،‭ ‬بدورنا،‭ ‬نتساءل‭ ‬هل‭ ‬قلّ‭ ‬أم‭ ‬زاد‭ ‬اهتمام‭ ‬الروائيين‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحالي‭ ‬بعوالم‭ ‬الكتب‭ ‬والقراءة‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الروائي؟