Hero image

العودة إلى الوطن.. بين أغاني الحرب والحنين إلى الكوكب

مايو - يونيو 2023

يوليو 24, 2023

شارك

كتب‭ ‬توماس‭ ‬وولف‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬عبارته‭ ‬الشهيرة: “‬لا‭ ‬يمكنك‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الوطن‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭”‬؛‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬بالتحديد‭ ‬ما‭ ‬يحاول‭ ‬الكتاب‭ ‬عمله‭ ‬منذ‭ ‬قرون‭. ‬فلطالما‭ ‬كان‭ ‬توق‭ ‬الإنسان‭ ‬للعودة‭ ‬إلى‭ ‬الوطن‭ ‬الفكرة‭ ‬الرئيسة‭ ‬لعدد‭ ‬لا‭ ‬يُحصى‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬والموسيقية‭ ‬واللوحات‭ ‬الفنية‭ ‬والأفلام،‭ ‬وجميع‭ ‬الأشكال‭ ‬الفنية‭ ‬الأخرى‭ ‬تقريبًا. ‬وقد‭ ‬تكرّر‭ ‬كثيرًا‭ ‬إعادة‭ ‬تعريف‭ ‬مفهوم‭ ‬الوطن‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور‭ ‬بصفته‭ ‬مصدرًا‭ ‬ثابتًا‭ ‬للاستكشاف‭ ‬والإبداع‭ ‬الفني،‭ ‬وتراوحت‭ ‬أبعاد‭ ‬تعريفاته‭ ‬بين‭ ‬التعريف‭ ‬الجغرافي‭ ‬الخالص‭ ‬إلى‭ ‬الوجودية‭ ‬المتطرفة‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭.‬

تود‭ ‬ويليامز

من‭ ‬أهم‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬العريقة‭ ‬المكتوبة‭ ‬هي “to” التي‭ ‬تتمحور‭ ‬حول‭ ‬رحلة‭ ‬بطل‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬الوطن‭ ‬بعد‭ ‬سقوط “طروادة”. ‬وتقتفي‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬الملحمية‭ ‬آثار “‬أوديسيوس” ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬المغامرات‭ ‬والصراعات‭ ‬المذهلة‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عقد‭ ‬من‭ ‬الزمان‭ ‬يتطَّلع‭ ‬خلاله‭ ‬البطل‭ ‬اليوناني‭ ‬إلى‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭ ‬وعائلته‭ ‬في “‬إيثاكا” ‬واستعادة‭ ‬مكانته‭ ‬ملكًا‭ ‬عليها. ‬وربما‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬الأكثر‭ ‬عراقة‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬قصص‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الوطن‭.‬‭ ‬

تحيط‭ ‬البلايا‭ ‬والمحن‭ ‬بالوطن؛‭ ‬ويهبّ‭ ‬البطل‭ ‬ليدافع‭ ‬عن‭ ‬أسرته‭ ‬وبلاده‭ ‬أي‭ ‬الوطن، فينتصر‭ ‬بإظهار‭ ‬شخصية‭ ‬مثالية‭ ‬ومهارات‭ ‬رائعة،‭ ‬ليعود‭ ‬بالتالي‭ ‬إلى‭ ‬الوطن‭ ‬للم‭ ‬شمله‭ ‬مع‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬أحبهم‭.‬

الأوديسة،‭ ‬أو‭ ‬القصص‭ ‬التي‭ ‬تنحو‭ ‬منحاها،‭ ‬تعزف‭ ‬على‭ ‬الوتر‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬يعزف‭ ‬عليه‭ ‬المنادون‭ ‬بالتعبئة‭ ‬العسكرية‭ ‬والسياسيون‭ ‬والوطنيون‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬القرون‭ ‬من‭ ‬اليونان‭ ‬القديمة‭ ‬إلى‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬فتؤجج‭ ‬مشاعر‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬الأعداء‭ ‬عديمي‭ ‬الرحمة‭ ‬المحتشدين‭ ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬المدينة،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬توقد‭ ‬مشاعر‭ ‬الفخر‭ ‬بأبناء‭ ‬الوطن‭ ‬من‭ ‬المتصدين‭ ‬لحماية‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عزيز‭ ‬ونبيل‭ ‬لديهم‭.‬

في‭ ‬الحرب‭.. ‬في‭ ‬أغانيها

هذه‭ ‬الأفكار‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تجد‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬الجنود‭ ‬مباشرة؛‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬أن‭ ‬الأدب‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يحتضن‭ ‬كثيرًا‭ ‬أفكار‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬والرغبة‭ ‬في‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬العائلة‭ ‬في‭ ‬الديار‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬أشكاله‭ ‬الأدبية‭ ‬الأوسع‭ ‬انتشارًا‭ ‬مثل‭ ‬الأغاني. ‬فكانت‭ ‬أغاني‭ ‬المحاربين‭ ‬موجودة‭ ‬طالما‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬محاربون،‭ ‬وكانت‭ ‬فكرة‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الوطن‭ ‬فكرة‭ ‬حاضرة‭ ‬باستمرار‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬جدًا‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأغاني‭.‬

ولا‭ ‬يهم‭ ‬المعسكر‭ ‬الذي‭ ‬تنتسب‭ ‬إليه؛‭ ‬فأثناء‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬الأمريكية،‭ ‬كانت‭ ‬فرق‭ ‬الموسيقى‭ ‬العسكرية‭ ‬تعزف‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬عادة،‭ ‬حيث‭ ‬تقوم‭ ‬بأداء‭ ‬حفلات‭ ‬موسيقية‭ ‬مرتجلة‭ ‬لرفع‭ ‬الروح‭ ‬المعنوية‭ ‬المتحطمة‭ ‬للقوات‭ ‬الملطخة‭ ‬بالدماء‭ ‬وآثار‭ ‬الضراب. ‬وعندما‭ ‬كان‭ ‬الجانبان‭ ‬يخيمان‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬بعضهما‭ ‬البعض،‭ ‬كانت‭ ‬الفرق‭ ‬الموسيقية‭ ‬تحاول‭ ‬أحيانًا‭ ‬حجب‭ ‬صوت‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر،‭ ‬أو‭ ‬يتناوب‭ ‬الطرفان‭ ‬في‭ ‬العزف‭ ‬ليحاول‭ ‬أحدهما‭ ‬التفوق‭ ‬في‭ ‬الأداء‭ ‬على‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ ‬وكأنها‭ ‬معركة‭ ‬موسيقية‭.‬

وذات‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬عام ‭‬1862م،‭ ‬حدثت‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المساجلة‭ ‬بين‭ ‬جيش‭ ‬الكونفدرالية‭ ‬وجيش‭ ‬الاتحاد. ‬في‭ ‬البداية‭ ‬بدأت‭ ‬الفرقة‭ ‬الكونفدرالية‭ ‬في‭ ‬عزف‭ ‬الأغنية‭ ‬الأكثر‭ ‬شعبية‭ ‬بين‭ ‬الجنود “الوطن،‭ ‬الوطن‭ ‬الجميل”‭) ‬هوم‭ ‬سويت‭ ‬هوم). ‬لم‭ ‬يستغرق‭ ‬الأمر‭ ‬وقتًا‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬حتى‭ ‬بدأت‭ ‬فرقة‭ ‬جيش‭ ‬الاتحاد‭ ‬في‭ ‬عزف‭ ‬اللحن‭ ‬الخالد،‭ ‬تلك‭ ‬النغمة‭ ‬التكرارية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصاحب‭ ‬استعراض‭ ‬الأطفال‭ ‬الموسيقي “ساحر‭ ‬بلاد‭ ‬أوزي” ‬قبل‭ ‬بدايته: “لا‭ ‬مكان‭ ‬يضاهي‭ ‬الوطن!”.

وسرعان‭ ‬ما‭ ‬بدأ‭ ‬الجيشان‭ ‬على‭ ‬كلا‭ ‬الجانبين‭ ‬يرددان‭ ‬الأنغام،‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬الجميع‭ ‬يعزف‭ ‬ويغني‭ ‬تلك‭ ‬الأغنية‭ ‬الرائعة.‭ ‬وبدأ‭ ‬الجنود‭ ‬المتحمسون‭ ‬في‭ ‬الهتاف‭ ‬والصراخ‭ ‬في‭ ‬نوبة‭ ‬من‭ ‬الجنون،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬تأثير‭ ‬الأغنية‭ ‬مُحبّبًا‭ ‬وراسخًا‭.‬

طوال‭ ‬ذلك‭ ‬الصراع‭ ‬المرير،‭ ‬كانت‭ ‬تحدث‭ ‬أحداث‭ ‬مماثلة‭ ‬وتحقق‭ ‬التجاوب‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير.‭ ‬وحتى‭ ‬عندما‭ ‬حاولت‭ ‬القيادة‭ ‬حظر‭ ‬الأغنية‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬الجنود‭ ‬يتحرقون‭ ‬شوقًا‭ ‬للوطن،‭ ‬باءت‭ ‬المحاولات‭ ‬بالفشل؛‭ ‬لأن‭ ‬الارتباط‭ ‬بهذا‭ ‬الشعور‭ ‬وأثره‭ ‬عليهم‭ ‬جعلهم‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬لتحمل‭ ‬أهوال‭ ‬المعركة‭ ‬والموت‭ ‬المحتمل‭ ‬لحماية‭ ‬هذا‭ ‬الارتباط‭ ‬بالعودة‭ ‬للوطن‭.‬

إيابٌ‭ ‬مستحيل‭ ‬إلى‭ ‬وطن‭ ‬أمس

من‭ ‬الأكيد‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬رابطة‭ ‬فطرية‭ ‬تربط‭ ‬الشخص‭ ‬بوطنه،‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬اختلاف‭ ‬تعريفها،‭ ‬ولقد‭ ‬عكست‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية‭ ‬ذلك‭ ‬منذ‭ ‬نشأتها‭ ‬وحتى‭ ‬اليوم‭.‬

لكن‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬أدخل‭ ‬بعض‭ ‬التعديلات‭ ‬الجديدة‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬الشائعة‭. ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬كانت‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬مختلفة‭ ‬اختلافًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬عن‭ ‬سابقاتها‭. ‬فقد‭ ‬أدى‭ ‬وفود‭ ‬الآلة‭ ‬والخسائر‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬أعقبت‭ ‬الحرب‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يُسمى‭ ‬بمعضلة “وولف”: ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬المرء‭ ‬يتوق‭ ‬للعودة‭ ‬للوطن،‭ ‬فإن‭ ‬الوطن‭ ‬الذي‭ ‬سيعود‭ ‬إليه‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬هو‭ ‬ذاته؛‭ ‬لأن‭ ‬المرء‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬هو‭ ‬ذاته‭ ‬أساسًا‭. ‬

باختصار،‭ ‬إنه‭ ‬القول‭ ‬المأثور‭ ‬القديم‭ ‬الذي‭ ‬يقول: “‬لا‭ ‬يمكنك‭ ‬عبور‭ ‬النهر‭ ‬نفسه‭ ‬إلا‭ ‬مرة‭ ‬واحدة”. ‬فبمجرد‭ ‬أن‭ ‬تخوض‭ ‬الماء‭ ‬لا‭ ‬يتغير‭ ‬النهر‭ ‬فقط‭ ‬بتحرك‭ ‬مياهه‭ ‬المتدفقة‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬المصب‭ ‬وتحولها‭ ‬من‭ ‬حولك‭ ‬في‭ ‬اتجاهات‭ ‬مختلفة،‭ ‬بل‭ ‬إنك‭ ‬أنت‭ ‬تتغير‭ ‬كذلك. ‬وتجربتك‭ ‬وسط‭ ‬النهر‭ ‬تؤثر‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬حوله‭.‬

يتناول‭ ‬فِلم “سيد‭ ‬الخواتم”،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬كلاسيكيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬كذلك. ‬ففي‭ ‬الجزء‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬ثلاثية “عودة‭ ‬الملك”، ‬يستمر‭ ‬الكتاب‭ ‬لفترة‭ ‬طويلة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬هزم‭ ‬الأبطال “سورون”، ‬وهو‭ ‬التجسيد‭ ‬الحقيقي‭ ‬للشر‭ ‬أو “العين‭ ‬الشريرة”.‬

وفي‭ ‬الفصلين‭ ‬الأخيرين‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬عن “تطهير‭ ‬المقاطعة”‬،‭ ‬يتأمل‭ ‬الكاتب‭ ‬جون‭ ‬رونالد‭ ‬رويل‭ ‬تولكين‭ ‬بنظرة‭ ‬عميقة‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬ضحايا‭ ‬معركة‭ ‬إنقاذ‭ ‬الأرض‭ ‬الوسطى‭ ‬كانوا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬المحاربين،‭ ‬وكيف‭ ‬أن‭ ‬ملامح‭ ‬الوطن‭ ‬الذي‭ ‬كانوا‭ ‬يتوقون‭ ‬إليه‭ ‬جميعًا‭ ‬قد‭ ‬تغيرت‭ ‬للأبد‭ ‬أيضًا. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الأمر‭ ‬مرضيًا‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬القراء،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬استحالة‭ ‬العودة‭ ‬الفعلية‭ ‬إلى‭ ‬الوطن،‭ ‬لأنهم‭ ‬هم‭ ‬والوطن‭ ‬قد‭ ‬تغير‭ ‬كلاهما‭ ‬تغيرًا‭ ‬جذريًا‭.‬

بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬واجه‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الجنود‭ ‬الذين‭ ‬عانوا‭ ‬من‭ ‬صدمة‭ ‬القصف،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬اليوم‭ ‬باضطراب‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الصدمة (PTSD)، صعوبة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬التأقلم‭ ‬مع‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬الذي‭ ‬لطالما‭ ‬سعوا‭ ‬بشدة‭ ‬للعودة‭ ‬إليه. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نجد‭ ‬صداه‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬رواية “وولف‭”‬، ‬وفي‭ ‬روايات‭ ‬أخرى‭ ‬تتصل‭ ‬بفترة “ما‭ ‬بين‭ ‬الحربين”‬،‭ ‬بعضها‭ ‬كتبها‭ ‬كتاب‭ ‬أمريكيون‭ ‬مغتربون‭ ‬جسّدوا‭ ‬إحساسهم‭ ‬بالتهجير‭ ‬والحنين‭ ‬للوطن‭.‬

كما‭ ‬تطرّق‭ ‬سكوت‭ ‬فيتزجيرالد‭ ‬لهذا‭ ‬الموضوع‭ ‬في‭ ‬روايته “غاتسبي‭ ‬العظيم”، ‬عندما‭ ‬جعل‭ ‬بطل‭ ‬الرواية‭ ‬يتطلع‭ ‬إلى‭ ‬قهر‭ ‬ماضيه‭ ‬والتعتيم‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬عودته‭ ‬للوطن‭ ‬من‭ ‬أقاصي‭ ‬الغرب‭ ‬الأوسط‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬مينيابوليس‭ ‬الأمريكية،‭ ‬متلهفًا‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬فخامة‭ ‬ضواحي‭ ‬نيويورك‭ ‬الراقية؛‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬تأثيرٌ‭ ‬كارثي‭ ‬بالطبع‭.‬

لكن‭ ‬رواية‭ ‬الروائي‭ ‬سومرست‭ ‬موم “حد‭ ‬الموس” ‬تُبرز‭ ‬التضارب‭ ‬بين‭ ‬المفهوم‭ ‬التقليدي‭ ‬للوطن‭ ‬وانتشار‭ ‬طبقة “‬متسكعة” ‬من‭ ‬الناس. ‬يروي‭ ‬الكاتب‭ ‬قصة‭ ‬المحارب‭ ‬المخضرم “‬لاري‭ ‬داريل”‬،‭ ‬الذي‭ ‬تعرض‭ ‬لصدمة‭ ‬القصف‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬فرفض‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا،‭ ‬منطلقًا‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬شخصية‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬هدف‭ ‬أسمى‭ ‬من‭ ‬العودة. ‬وبهذا‭ ‬يرفض‭ ‬داريل‭ ‬فرصة‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الوطن‭ ‬واحتضان‭ ‬الحياة‭ ‬المادية‭ ‬والمكانة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬عنوانًا‭ ‬لتعريف‭ ‬مفهوم‭ ‬الوطن‭ ‬قبل‭ ‬مغادرته‭ ‬للحرب‭.‬

أوطانٌ‭ ‬متنقِّلة‭ ‬ونرجسيّة

بينما‭ ‬أدت‭ ‬خيبات‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬والتعاسة‭ ‬التي‭ ‬خلفتها‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬التغير‭ ‬المحدود‭ ‬في‭ ‬تناول‭ ‬موضوع‭ ‬الوطن،‭ ‬فإن‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬والجيل‭ ‬التالي‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬أخذوا‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬جديد‭ ‬تمامًا‭.‬

فقد‭ ‬جلبت‭ ‬حركة “‬جيل‭ ‬وقع‭ ‬الموسيقى” ‬حسًا‭ ‬جديدًا‭ ‬تمامًا‭ ‬للأدب‭ ‬والشعر‭ ‬وطريقة‭ ‬الحياة. ‬وكان‭ ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬هؤلاء‭ ‬جاك‭ ‬كيروك،‭ ‬الذي‭ ‬تبنت‭ ‬روايته “على‭ ‬الطريق” ‬روح‭ ‬هذه‭ ‬الحركة،‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬القيمة‭ ‬التقليدية‭ ‬للوطن‭ ‬تحديًا‭ ‬كبيرًا؛‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬عنوانها‭ ‬نفسه‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬مسارات‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬الوطن‭.‬

رواية‭ ‬كيروك‭ ‬الأكثر‭ ‬شعبية “‬على‭ ‬الطريق‭”‬، ‬ هي‭ ‬قصة‭ ‬من‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬تكاد‭ ‬تستتر‭ ‬بثوب‭ ‬الرواية،‭ ‬وهي‭ ‬مليئة‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬غير‭ ‬العادية‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تخيله،‭ ‬لكنها‭ ‬شخصيات‭ ‬مستوحاة‭ ‬من‭ ‬أشخاص‭ ‬حقيقيين. ‬والوطن‭ ‬في‭ ‬عينه،‭ ‬وكما‭ ‬نلمح‭ ‬من‭ ‬العنوان،‭ ‬لا‭ ‬يتعلق‭ ‬بالعائلة‭ ‬والفرد‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالمغامرة‭.‬

بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬بدأ‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يتغير‭ ‬بسرعة. ‬تلاشت‭ ‬المفاهيم‭ ‬القياسية‭ ‬التي‭ ‬صمدت‭ ‬رغم‭ ‬المحن‭ ‬والصعوبات،‭ ‬ومن‭ ‬ضمنها‭ ‬مفهوم‭ ‬الوطن‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعني‭ ‬الأسرة‭ ‬والبلد. ‬أصبحت‭ ‬العائلات‭ ‬متنقلة؛‭ ‬وبينما‭ ‬كان‭ ‬يُتوقع‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام‭ ‬أن‭ ‬تسير‭ ‬عائلة‭ ‬الرجل‭ ‬على‭ ‬خطاه،‭ ‬وتنتهج‭ ‬عمله‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬توارثه‭ ‬جيلًا‭ ‬بعد‭ ‬جيل،‭ ‬سعى‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬الجديد‭ ‬إلى‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القيد‭.‬

ظهر‭ ‬وضع‭ ‬جديد‭ ‬بالكلية‭ ‬في‭ ‬سنوات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬مع‭ ‬ظهور‭ ‬مصطلح “المراهق” ‬ففي‭ ‬تحدٍ‭ ‬صارخ،‭ ‬رفض‭ ‬جيل‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬المُسمى‭ ‬بجيل “‬طفرة‭ ‬المواليد‭”‬ التعريف‭ ‬المباشر‭ ‬لمفهوم‭ ‬الوطن‭ ‬بصفته‭ ‬شيئًا‭ ‬يتوق‭ ‬إليه‭ ‬المرء. ‬لقد‭ ‬قاوموا‭ ‬التقاليد‭ ‬الراسخة‭ ‬والرغبة‭ ‬في‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬أو‭ ‬العودة‭ ‬إليه‭.‬

وفي‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬الوطن‭ ‬مرتبطًا‭ ‬بطبيعته‭ ‬ارتباطًا‭ ‬جوهريًا‭ ‬بالعائلة‭ ‬والمنزل،‭ ‬التزم‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬الجديد‭ ‬بتعريف‭ ‬أكثر‭ ‬شمولية‭ ‬مع‭ ‬تركيز‭ ‬قوي‭ ‬على‭ ‬الفرد. ‬وبشكل‭ ‬مباشر،‭ ‬يصرّح‭ ‬نجم‭ ‬البوب‭ ‬بيلي‭ ‬جويل‭ ‬في‭ ‬أغنيته “‬أنت‭ ‬وطني” ‬أن‭ ‬المكان‭ ‬ليس‭ ‬بذي‭ ‬أهمية‭ ‬تذكر‭:‬

“عندما‭ ‬تنظرين‭ ‬في‭ ‬مقلتيّ،

وترين‭ ‬في‭ ‬روحي‭ ‬ذلك‭ ‬الغجري‭ ‬المجنون،

دائمًا‭ ‬ما‭ ‬تبدو‭ ‬مفاجأة،

عندما‭ ‬أشعر‭ ‬أن‭ ‬جذوري‭ ‬الذابلة‭ ‬بدأت‭ ‬تترعرع

‭… ‬وقتها‭ ‬لن‭ ‬أكون‭ ‬غريبًا‭ ‬أبدًا،‭ ‬ولن‭ ‬أكون‭ ‬وحيدًا‭ ‬أبدًا

فعندما‭ ‬نكون‭ ‬معًا،‭ ‬فذاك‭ ‬هو‭ ‬موطني”.

وحتى‭ ‬عند‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الأفكار‭ ‬الأكثر‭ ‬شيوعًا‭ ‬التي‭ ‬تتناول‭ ‬المحاربين‭ ‬وعودتهم‭ ‬لديارهم،‭ ‬سعى‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬إلى‭ ‬تحريف‭ ‬معنى‭ ‬الكلمة‭ ‬بالمجاز‭ ‬اللغوي. ‬وثمة‭ ‬اثنان‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬الأفلام‭ ‬التي‭ ‬تناولت‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع،‭ ‬وهما “العودة‭ ‬إلى‭ ‬الوطن‭”‬ و “صائد‭ ‬الغزلان”‬،‭ ‬لكنهما‭ ‬لم‭ ‬يعرضا‭ ‬غير‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬مشاهد‭ ‬المعركة،‭ ‬واختارا‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الجانب‭ ‬الشخصي‭ ‬المكثف‭ ‬من‭ ‬الصراع‭ ‬وصعوبة‭ ‬العودة‭ ‬إلى “الوطن‭”‬.

الفِلم الثاني‭ ‬منهما،‭ ‬أمضى‭ ‬المخرج‭ ‬مايكل‭ ‬سيمينو‭ ‬خمسة‭ ‬أيام‭ ‬متواصلة‭ ‬في‭ ‬التصوير،‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬ثلث‭ ‬فِلمه‭ ‬مخصصٌ‭ ‬لمشهد‭ ‬الزفاف‭ ‬الذي‭ ‬ركز‭ ‬بشكل‭ ‬أساس‭ ‬على‭ ‬ثلة‭ ‬الأصدقاء‭ ‬أثناء‭ ‬انتقالهم‭ ‬عبر‭ ‬بلدتهم‭ ‬المشهورة‭ ‬بصناعة‭ ‬الفولاذ‭ ‬في‭ ‬بنسلفانيا‭ ‬مع‭ ‬عرض‭ ‬لقاءات‭ ‬قصيرة‭ ‬مع‭ ‬العائلة‭ ‬والآخرين‭ ‬حول‭ ‬المدينة. ‬وبدلًا‭ ‬من‭ ‬العودة‭ ‬منتصرين‭ ‬كجنود‭ ‬فاتحين‭ ‬وناجين‭ ‬من‭ ‬الحرب،‭ ‬أصابتهم‭ ‬انتكاسة‭ ‬قوية‭ ‬فعادوا‭ ‬كما‭ ‬كانوا‭ ‬تلك‭ ‬الثلة‭ ‬من‭ ‬الرجال. ‬ويبدو‭ ‬أن “الوطن” ‬كان‭ ‬هو‭ ‬صحبة‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬لمن‭ ‬أحبهم‭.‬

وما‭ ‬يبدو‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬جيل “‬الأنا‭ ‬النرجسي‭”‬ (وهو‭ ‬اسم‭ ‬آخر‭ ‬اتخذه‭ ‬لنفسه‭ ‬جيل‭ ‬وقع‭ ‬الموسيقى‭/‬طفرة‭ ‬المواليد) ‬قد‭ ‬وجدوا‭ ‬الوطن‭ ‬في‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض‭.‬

الوطن‭ ‬الأرض

‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬يبدأ‭ ‬تأثير‭ ‬جيل‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬الاضمِحلال،‭ ‬حتى‭ ‬ينزع‭ ‬الجيل‭ ‬التالي‭ ‬إلى‭ ‬فعل‭ ‬ما‭ ‬تميل‭ ‬الأجيال‭ ‬التالية‭ ‬دومًا‭ ‬إلى‭ ‬فعله،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬المعاكس‭ ‬تمامًا‭.‬

فعندما‭ ‬يتحدث‭ ‬المرء‭ ‬عن‭ ‬الوطن‭ ‬اليوم،‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬يُفهم‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬المنزل‭ ‬أو‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬يقطن‭ ‬فيها،‭ ‬ولا‭ ‬عن‭ ‬عائلته‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬عائلته‭ ‬بالتبني‭ ‬ولا‭ ‬عن‭ ‬أصدقائه. ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان،‭ ‬يُفهم‭ ‬أن‭ ‬الحديث‭ ‬هو‭ ‬عن‭ ‬كوكب‭ ‬الأرض‭.‬

أحد‭ ‬كتبي‭ ‬المفضلة‭ ‬هو‭ ‬رواية “‬النهر‭ ‬يجري‭ ‬من‭ ‬خلالها”‬،‭ ‬فهي‭ ‬تعرض‭ ‬المفهوم‭ ‬التقليدي‭ ‬للوطن‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الرؤية‭ ‬التي‭ ‬تتخذ‭ ‬من‭ ‬كوكب‭ ‬الأرض‭ ‬محورها‭ ‬الأساس. ‬نُشرت‭ ‬الرواية‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬عام ‭‬1976م‭. ‬

وكان‭ ‬مؤلفها،‭ ‬نورمان‭ ‬ماكلين،‭ ‬قد‭ ‬كبر‭ ‬سنه‭ ‬عندما‭ ‬أنجزها،‭ ‬لذلك‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬المستغرب‭ ‬أنه‭ ‬رواها‭ ‬بروح‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬التقليدية. ‬يروي‭ ‬الكاتب‭ ‬قصته‭ ‬الشخصية‭ ‬حول‭ ‬عودته‭ ‬إلى‭ ‬الوطن‭ ‬في‭ ‬غرب‭ ‬مونتانا،‭ ‬وهو‭ ‬شاب‭ ‬يافع‭ ‬يجرع‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬حلو‭ ‬أيامها‭ ‬ومر‭ ‬مآسيها‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التجارب‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تُخاض‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬وبين‭ ‬أفراد‭ ‬العائلة،‭ ‬لكن‭ ‬الأمر‭ ‬المثير‭ ‬للاهتمام‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬جعل‭ ‬غرب‭ ‬مونتانا‭ ‬أحد‭ ‬الشخصيات. ‬بدأ‭ ‬روايته‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬كيفية‭ ‬تشكل‭ ‬الأنهار‭ ‬والجبال‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الزمان‭ ‬وكيف‭ ‬تطورت،‭ ‬وكيف‭ ‬وصل‭ ‬وهو‭ ‬وعائلته‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المكان،‭ ‬هذا‭ ‬الكوكب،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭.‬

لذلك،‭ ‬عندما‭ ‬تتأثر‭ ‬أحد‭ ‬مفاهيم‭ ‬كلمة “‬الوطن” ‬بندوب‭ ‬لا‭ ‬تُمحى‭ ‬بسبب‭ ‬أحداث‭ ‬افتعلها‭ ‬الإنسان،‭ ‬تظل‭ ‬بقية‭ ‬المفاهيم‭ ‬تتحرك‭ ‬مثل‭ ‬ماء‭ ‬النهر،‭ ‬تتغير‭ ‬دائمًا‭ ‬لكنها‭ ‬باقية‭ ‬للأبد. ‬السطور‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬مثيل. ‬كتب‭ ‬ماكلين:‬ “إنهم‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬نعيش‭ ‬معهم‭ ‬ونحبهم،‭ ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬مَن‭ ‬منهم‭ ‬استعصى‭ ‬علينا‭. ‬الآن‭ ‬تقريبًا‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬أحببتهم‭ ‬ولم‭ ‬أفهمهم‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬صغيرًا‭ ‬ماتوا،‭ ‬لكنني‭ ‬ما‭ ‬زلت‭ ‬أتواصل‭ ‬معهم”.

ويواصل‭ ‬وصف‭ ‬قراره‭ ‬بمواصلة‭ ‬صيد‭ ‬السمك‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬البحر‭ ‬بمفرده:‬ “عندما‭ ‬تخفت‭ ‬الأنوار‭ ‬القطبية‭ ‬منسحبة‭ ‬من‭ ‬الوادي،‭ ‬تختفي‭ ‬معها‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬الوجود،‭ ‬ولا‭ ‬أعود‭ ‬أحس‭ ‬بشيء‭ ‬غير‭ ‬وجودي‭ ‬أنا‭ ‬وروحي‭ ‬وذكرياتي‭ ‬وأصوات‭ ‬نهر “‬بيج‭ ‬بلاكفوت”،‭ ‬أسمع‭ ‬لحنًا‭ ‬رباعي‭ ‬القوافي‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬تخرج‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬النهر‭ ‬سمكة. ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬تندمج‭ ‬كل‭ ‬الأشياء‭ ‬في‭ ‬كتلة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الظلام،‭ ‬يمر‭ ‬خلالها‭ ‬نهر. ‬تم‭ ‬قطع‭ ‬النهر‭ ‬بالفيضان‭ ‬العظيم‭ ‬وهو‭ ‬يجري‭ ‬فوق‭ ‬جرف‭ ‬الصخور‭ ‬من‭ ‬قاع‭ ‬الزمن. ‬وتساقطت‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الصخور‭ ‬قطرات‭ ‬المطر‭ ‬الخالدة‭. ‬وتحت‭ ‬الصخور‭ ‬الكلمات،‭ ‬وبعض‭ ‬الكلمات‭ ‬كلماتهم. ‬أنا‭ ‬مسكونٌ‭ ‬بالمياه”.

وثمة‭ ‬عمل‭ ‬أحدث‭ ‬يتوسع‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬الوطن‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬شخص‭ ‬خبير،‭ ‬وهو‭ ‬الفِلم‭ ‬الروائي “‬بين‭ ‬النجوم” ‬للمخرج‭ ‬كريستوفر‭ ‬نولان. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفِلم‭ ‬تواجه‭ ‬الأرض‭ ‬في‭ ‬مستقبلها‭ ‬القريب‭ ‬دورة‭ ‬من‭ ‬الجفاف‭ ‬والعواصف‭ ‬الترابية‭ ‬بسبب‭ ‬ارتفاع‭ ‬حرارة‭ ‬المناخ،‭ ‬بحيث‭ ‬تكاد‭ ‬الحياة‭ ‬تنقرض. ‬ويصبح‭ ‬الفِلم‭ ‬ملحمة‭ ‬لأنه‭ ‬يتأمل‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الوطن‭ ‬سيستطيع‭ ‬النجاة،‭ ‬بل‭ ‬وجميع‭ ‬البشر‭ ‬الذين‭ ‬يرون‭ ‬الأرض‭ ‬وطنًا‭.‬

وبعد‭ ‬أن‭ ‬فقد‭ ‬العلماء‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬عكس‭ ‬دورة‭ ‬الطقس،‭ ‬أنشؤوا‭ ‬سفينة‭ ‬فضائية‭ ‬للسفر‭ ‬إلى‭ ‬مجرات‭ ‬بعيدة‭ ‬لمحاولة‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬بديل‭ ‬مناسب‭ ‬للأرض. ‬وبهذا‭ ‬لا‭ ‬يتمكن‭ ‬رواد‭ ‬الفضاء‭ ‬من‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الوطن،‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬مجازية‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬يكونون‭ ‬أيضًا‭ ‬غير‭ ‬قادرين‭ ‬علميًا‭ ‬على‭ ‬القيام‭ ‬بذلك‭ ‬لأن‭ ‬سفرهم‭ ‬بسرعة‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬سرعة‭ ‬الضوء‭ ‬ستجعل‭ ‬الوقت‭ ‬يمر‭ ‬ببطء‭ ‬شديد‭ ‬بالنسبة‭ ‬لهم‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬يعرفونه‭ ‬تقريبًا‭ ‬سيكون‭ ‬قد‭ ‬مات‭ ‬وفنى‭ ‬بحلول‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يعودون‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬الأرض‭.‬

وعلى‭ ‬غرار‭ ‬أنواع‭ ‬الفنون‭ ‬المتميزة،‭ ‬يطرح‭ ‬فِلم “‬بين‭ ‬النجوم” ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يقدم‭ ‬إجابات. ‬ومن‭ ‬الجوانب‭ ‬الأخرى‭ ‬المميزة‭ ‬في‭ ‬الفِلم‭ ‬هو‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬التغييرات‭ ‬المستمرة‭ ‬في‭ ‬الوصف‭ ‬التقليدي‭ ‬لمفهوم‭ ‬الوطن. ‬ربما‭ ‬تناول‭ ‬الفِلم‭ ‬طريقة‭ ‬التفكير‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬المجرة،‭ ‬لكنه‭ ‬تطرق‭ ‬أيضًا‭ ‬إلى‭ ‬تأثير‭ ‬العلم‭ ‬والتقنية‭ ‬على‭ ‬إدراكنا‭ ‬لمفهوم‭ ‬الوطن،‭ ‬وهي‭ ‬فكرة‭ ‬من‭ ‬المرجح‭ ‬أن‭ ‬يتنامى‭ ‬تناولها‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭.‬

وهناك‭ ‬أعمال‭ ‬تقدم‭ ‬بعض‭ ‬المسارات‭ ‬الجديدة‭ ‬المحتملة‭ ‬لما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يؤول‭ ‬إليه‭ ‬مفهوم‭ ‬الوطن،‭ ‬مثل‭ ‬رواية “‬هل‭ ‬تحلم‭ ‬الروبوتات‭ ‬بخرفان‭ ‬كهربائية؟”‬‭ ‬للكاتب‭ ‬فيليب‭ ‬ديك‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬فِلم‭ ‬باسم “بليد‭ ‬رانر” ‬في‭ ‬عام ‭‬1982م‬،‭ ‬وفِلم “‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي” ‬الرائع‭ ‬الذي‭ ‬أعاد‭ ‬فيه‭ ‬المخرج‭ ‬ستيفن‭ ‬سبيلبرغ‭ ‬توظيف‭ ‬قصة “‬بينوكيو‭”‬، وكذلك‭ ‬فِلم “بروميثيوس‭”‬ من‭ ‬سلسلة‭ ‬أفلام‭ ‬الإنجليزي‭ ‬ريدلي‭ ‬سكوت إيليان‭.