Hero image

كي لا نكون غرباء في المدينة

مايو - يونيو 2023

يوليو 21, 2023

شارك

‭”‬قليلٌ‭ ‬من‭ ‬الأرضِ‭ ‬يَكفي‭ ‬لكي‭ ‬نلتقي‭”‬

لأن‭ ‬المجتمعات‭ ‬مبنية‭ ‬على‭ ‬العلاقات‭ ‬التي‭ ‬يطوّرها‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اتصال‭ ‬الأفراد‭ ‬بعضهم‭ ‬ببعض،‭ ‬يوزع‭ ‬المخططون‭ ‬الحضريون‭ ‬أماكن‭ ‬التلاقي‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأحياء‭ ‬في‭ ‬مدننا‭ ‬الحديثة،‭ ‬حيث‭ ‬تمثّل‭ ‬الأماكن‭ ‬العامة‭ ‬كالحدائق‭ ‬والمساجد‭ ‬أماكن‭ ‬تلاقٍ‭ ‬يومي‭ ‬لأهل‭ ‬الحي. ‬وهناك‭ ‬أماكن‭ ‬تجارية‭ ‬أخرى‭ ‬تعتبر‭ ‬أمكِنَة‭ ‬التقاء‭ ‬فعّالة‭ ‬كالبقالات‭ ‬الصغيرة‭ ‬والنوادي‭ ‬الرياضية‭ ‬ومقاهي‭ ‬الأحياء. ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬صُممت‭ ‬هذه‭ ‬الأمكنة‭ ‬في‭ ‬مدننا‭ ‬اليوم‭ ‬لمساعدتنا‭ ‬على‭ ‬الالتقاء‭ ‬بأشخاص‭ ‬يشبهوننا‭ ‬وقادرين‭ ‬على‭ ‬تطويرنا‭ ‬وجعلنا‭ ‬أناسًا‭ ‬أفضل؟‭ ‬وهل‭ ‬نحن‭ ‬قادرون‭ ‬على‭ ‬تطوير‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬فرص‭ ‬اللقاء‭ ‬المتكرر‭ ‬والعفوي‭ ‬أحيانًا؟

عبدالرحمن‭ ‬الصايل

يقول‭ ‬مؤسس‭ ‬منظمة “‬مشروع‭ ‬للفضاءات‭ ‬العامة” ‬ورئيسها‭ ‬السابق،‭ ‬فريد‭ ‬كنت: “‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬تخطط‭ ‬المدن‭ ‬للسيارات‭ ‬وحركة‭ ‬المرور،‭ ‬فستحصل‭ ‬على‭ ‬السيارات‭ ‬وحركة‭ ‬المرور. ‬وإذا‭ ‬كنت‭ ‬تخطط‭ ‬للناس‭ ‬والأماكن،‭ ‬فستحصل‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬والأماكن. ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لديك‭ ‬خطة‭ ‬أصلًا،‭ ‬فربما‭ ‬تحصل‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬أشياء‭ ‬باستثناء‭ ‬مدينة!”

مع‭ ‬موجة‭ ‬التحضّر‭ ‬الهائلة‭ ‬ونمو‭ ‬علم‭ ‬التخطيط‭ ‬الحضري،‭ ‬فقدت‭ ‬الأحياء‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬مدن‭ ‬العالم‭ ‬أماكن‭ ‬الالتقاء‭ ‬التقليدية. ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬أُزيلت‭ ‬المقاعد‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬الحارات‭ ‬وخارج‭ ‬المنازل،‭ ‬وأصبحت‭ ‬الديوانيات‭ ‬الأسبوعية‭ ‬أقل‭ ‬شعبية‭ ‬مما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬الماضي،‭ ‬وصار‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحدائق‭ ‬والأماكن‭ ‬العامة‭ ‬مقيدًا،‭ ‬فبدلًا‭ ‬من‭ ‬وجودها‭ ‬بشكل‭ ‬عفوي‭ ‬وسط‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المنازل‭ ‬تحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬مخصصة‭ ‬ومحاطة‭ ‬بأسوار‭ ‬فاصلة‭.‬

وأدى‭ ‬التسوق‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت‭ ‬وتجارة‭ ‬التجزئة‭ ‬الكبيرة‭ ‬وانتشار‭ ‬المجمعات‭ ‬التجارية‭ ‬العملاقة‭ ‬والماركات‭ ‬العالمية‭ ‬إلى‭ ‬تراجع‭ ‬مكانة‭ ‬المتاجر‭ ‬الصغيرة‭ ‬المحلية. ‬وحلّت‭ ‬المراكز‭ ‬التجارية‭ ‬الضخمة‭ ‬محل‭ ‬تلك‭ ‬الدكاكين‭ ‬الصغيرة‭ ‬والبقالات‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬الأحياء،‭ ‬ما‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬ضياع‭ ‬الناس‭ ‬وسط‭ ‬آخرين‭ ‬لا‭ ‬يعرفونهم،‭ ‬ولا‭ ‬مجال‭ ‬للتعرف‭ ‬عليهم‭.‬

لقد‭ ‬أصبح‭ ‬السكان‭ ‬يتنقلون‭ ‬بشكل‭ ‬أكثر “‬سيولة” ‬من‭ ‬ذي‭ ‬قبل،‭ ‬فصاروا‭ ‬يعملون‭ ‬ويتعلمون‭ ‬ويذهبون‭ ‬إلى‭ ‬الصلاة‭ ‬خارج‭ ‬الحي‭ ‬الذي‭ ‬يعيشون‭ ‬فيه. ‬وبالتالي‭ ‬أصبح‭ ‬لكل‭ ‬فرد‭ ‬منهم‭ ‬عدة‭ ‬مجتمعات‭ ‬مختلفة؛‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يعني‭ ‬عمليًا‭ ‬أن‭ ‬ليس‭ ‬لديهم‭ ‬مجتمع‭ ‬على‭ ‬الإطلاق! ‬فقد‭ ‬بات‭ ‬من‭ ‬النادر‭ ‬أن‭ ‬نلتقي‭ ‬بالأشخاص‭ ‬أنفسهم‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬واحد. وصرنا‭ ‬نشاهد‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬يبذلون‭ ‬قصارى‭ ‬جهدهم‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬التواصل‭ ‬البصري‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬آخر،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬المصاعد‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬والأماكن‭ ‬العامة‭ ‬الأخرى‭ ‬المزدحمة. ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان،‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تدخل‭ ‬إضافي‭ ‬لجذب‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬الانغماس‭ ‬في‭ ‬هواتفهم‭ ‬الذكية‭ ‬وحثهم‭ ‬على‭ ‬التفاعل‭ ‬بعضهم‭ ‬مع‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭.‬

الوحدة‭ ‬أخطر‭ ‬مما‭ ‬نتصور وهـذه‭ ‬بعـض‭ ‬أسبابها

يصف‭ ‬كتاب “‬القرن‭ ‬الوحيد” ‬لنورينا‭ ‬هيرتز‭ ‬الوحدة‭ ‬المتزايدة‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الحديثة‭ ‬بأنها‭ ‬سبب‭ ‬لتآكل‭ ‬المجتمع. ‬وعُنيت‭ ‬المؤلفة‭ ‬بسرد‭ ‬أدلة‭ ‬عديدة‭ ‬تربط‭ ‬الوحدة‭ ‬بتدهور‭ ‬صحة‭ ‬الأفراد‭ ‬والمجتمعات،‭ ‬كما‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬الوحدة‭ ‬أسوأ‭ ‬لصحتنا‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬ممارسة‭ ‬الرياضة،‭ ‬وهي‭ ‬ضارة‭ ‬مثل‭ ‬ضرر‭ ‬الإدمان‭ ‬على‭ ‬الكحول. ‬وإحصائيًا‭ ‬تعادل‭ ‬الوحدة‭ ‬تدخين‭ ‬15‭ ‬سيجارة‭ ‬في‭ ‬اليوم،‭ ‬ولها‭ ‬أيضًا‭ ‬ضِعف‭ ‬ضرر‭ ‬السمنة‭!‬

تستشهد‭ ‬هيرتز‭ ‬بدراسات‭ ‬تظهر‭ ‬أن‭ ‬الأفراد‭ ‬الذين‭ ‬يشعرون‭ ‬بالوحدة‭ ‬لديهم‭:‬

  • ‬خطر‭ ‬أعلى‭ ‬بنسبة‭ %‬29‭ ‬للإصابة‭ ‬بأمراض‭ ‬القلب‭ ‬التاجية‭.‬
  • خطر‭ ‬أعلى‭ ‬بنسبة‭ %‬32‭ ‬للإصابة‭ ‬بالسكتة‭ ‬الدماغية‭.‬
  • خطر‭ ‬أعلى‭ ‬بنسبة‭ %‬64‭ ‬للإصابة‭ ‬بالخرف‭.‬
  • ‭ ‬خطر‭ ‬أعلى‭ ‬بنسبة‭ %‬30‭ ‬للوفاة‭ ‬المبكرة‭.‬
  • ‭ ‬أكثر‭ ‬عرضة‭ ‬للإصابة‭ ‬بالاكتئاب‭ ‬بمقدار‭ ‬عشر‭ ‬مرات‭.‬

وحددت‭ ‬هيرتز‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬الشعور‭ ‬بالوحدة،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬الهواتف‭ ‬الذكية،‭ ‬ووسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬والعنصرية،‭ ‬والتحضر،‭ ‬وفقدان‭ ‬الأماكن‭ ‬العامة‭ ‬وتدهورها‭.‬

فرغم‭ ‬وجود‭ ‬المرافق‭ ‬المختلفة،‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬تصميم‭ ‬بعض‭ ‬الأحياء‭ ‬أبدًا‭ ‬ولا‭ ‬برمجتها‭ ‬للالتقاء‭ ‬بأشخاص‭ ‬آخرين. ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬الحديثة‭ ‬أصبحت‭ ‬أكثر‭ ‬ملاءمة‭ ‬للسيارات‭ ‬منها‭ ‬للمشاة،‭ ‬ونادرًا‭ ‬ما‭ ‬نجد‭ ‬فيها‭ ‬أماكن‭ ‬للتسوق‭ ‬أو‭ ‬تناول‭ ‬الطعام‭ ‬أو‭ ‬احتساء‭ ‬كوب‭ ‬من‭ ‬القهوة‭ ‬أو‭ ‬الشاي‭ ‬على‭ ‬مسافة‭ ‬قريبة‭ ‬يمكن‭ ‬اجتيازها‭ ‬مشيًا. ‬فسكان‭ ‬المدن‭ ‬يقودون‭ ‬سياراتهم‭ ‬داخل‭ ‬وخارج‭ ‬مرآب‭ ‬مجاور‭ ‬لمنزلهم‭ ‬أو‭ ‬يركنونها‭ ‬في‭ ‬مواقف‭ ‬مغلقة‭ ‬أسفل‭ ‬العمارة،‭ ‬وليس‭ ‬لديهم‭ ‬فرصة‭ ‬تُذكر‭ ‬للالتقاء‭ ‬بالجيران. ‬كما‭ ‬أسهم‭ ‬النمو‭ ‬العمراني‭ ‬المفرط‭ ‬في‭ ‬ندرة‭ ‬أماكن‭ ‬الالتقاء‭ ‬في‭ ‬الأحياء‭ ‬الجديدة‭ ‬المتناثرة‭ ‬في‭ ‬ضواحي‭ ‬المدينة‭.‬

صناعة‭ ‬أمكِنَة‭ ‬التلاقي‭ ‬حول‭ ‬العالم

جرت‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المدن‭ ‬محاولات‭ ‬لتنشيط‭ ‬المناطق‭ ‬التجارية‭ ‬المحلية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬خلق‭ ‬تجربة‭ ‬مميزة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لمراكز‭ ‬التسوق‭ )‬المولات) ‬تكرارها،‭ ‬وتضمنت‭ ‬تشجيع‭ ‬أماكن‭ ‬التجمع‭ ‬الصغيرة‭ ‬والمتاجر‭ ‬والمطاعم‭ ‬ذات‭ ‬النكهة‭ ‬المحلية‭ ‬وعربات‭ ‬الأطعمة‭ ‬المتنقلة‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬الحي‭ ‬خلال‭ ‬يوم‭ ‬أو‭ ‬يومين‭ ‬محددين‭ ‬من‭ ‬الأسبوع‭.‬

ومن‭ ‬المحاولات‭ ‬الأخرى‭ ‬لزيادة‭ ‬أمكِنَة‭ ‬الالتقاء‭ ‬ما‭ ‬يُسمّى‭ ‬بـ “‬الحدائق‭ ‬المجتمعية”‬،‭ ‬وهي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬تخصيص‭ ‬مساحة‭ ‬لأهل‭ ‬الحي‭ ‬لكي‭ ‬يتعاونوا‭ ‬على‭ ‬زراعتها‭ ‬ورعايتها‭ ‬وبيع‭ ‬منتجاتها. ‬ومن‭ ‬الممارسات‭ ‬الدولية‭ ‬كذلك‭ ‬إتاحة‭ ‬المجال‭ ‬للفنانين‭ ‬لرسم‭ ‬الجداريات‭ ‬في‭ ‬التقاطعات،‭ ‬وإحياء‭ ‬الأمكِنَة‭ ‬بواسطة‭ ‬الفن‭ ‬وبعض‭ ‬الأثاث‭ ‬الخفيف‭ ‬الذي‭ ‬يتجمع‭ ‬الناس‭ ‬حوله. ‬وتخصص‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬يومًا‭ ‬في‭ ‬الأسبوع‭ ‬أو‭ ‬الشهر‭ ‬لإغلاق‭ ‬الشارع‭ ‬أمام‭ ‬السيارات،‭ ‬وإعادة‭ ‬برمجته‭ ‬لكي‭ ‬يصبح‭ ‬للمشاة‭ ‬وتنشيطه‭ ‬بالفعاليات‭ ‬المجتمعية‭ ‬والترفيهية‭.‬

وهناك‭ ‬أفكار‭ ‬بسيطة‭ ‬وغير‭ ‬مكلفة‭ ‬لإثارة‭ ‬التفاعل‭ ‬بين‭ ‬السكان‭ ‬وصنع‭ ‬الأمكِنَة،‭ ‬كوضع‭ ‬طاولة‭ ‬في‭ ‬الحديقة‭ ‬أو‭ ‬أسفل‭ ‬العمارة‭ ‬أو‭ ‬المنزل‭ ‬مع‭ ‬إبريق‭ ‬شاي،‭ ‬أو‭ ‬توفير‭ ‬مياه‭ ‬للشرب،‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬تثبيت‭ ‬مكتبة‭ ‬مجانية‭ ‬صغيرة. ‬وهناك‭ ‬محاولات‭ ‬شخصية‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬السكان‭ ‬لإثارة‭ ‬التفاعل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تحويل‭ ‬منازلهم‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬لقاء،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تنظيم‭ ‬بعض‭ ‬المناسبات‭ ‬أو‭ ‬استضافة‭ ‬عشاء‭ ‬ترحيبي‭ ‬بالجيران‭ ‬الجدد‭.‬

قد‭ ‬يكون‭ ‬إنشاء‭ ‬أماكن‭ ‬لتلاقي‭ ‬سكان‭ ‬الضواحي‭ ‬والمناطق‭ ‬الريفية‭ ‬أصعب،‭ ‬ولكن‭ ‬لدى‭ ‬هؤلاء‭ ‬منازل‭ ‬وساحات‭ ‬يمكنهم‭ ‬استخدامها‭ ‬للتجمع. ‬وعمليًّا،‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬حي‭ ‬مرافق‭ ‬غير‭ ‬مستغلة‭ ‬يمكن‭ ‬استثمارها‭ ‬كأمكِنَة‭ ‬للالتقاء،‭ ‬مثل‭ ‬قاعات‭ ‬المدارس‭ ‬في‭ ‬العطل‭ ‬والفترات‭ ‬المسائية،‭ ‬أو‭ ‬مراكز‭ ‬الأحياء‭ ‬لترتيب‭ ‬الاجتماعات‭ ‬المتبادلة،‭ ‬والبرامج‭ ‬التعليمية‭ ‬لأهل‭ ‬الحي،‭ ‬وجميع‭ ‬أنواع‭ ‬الفعاليات‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تجذب‭ ‬الجيران‭.‬

وقد‭ ‬يكون‭ ‬الخيار‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬هو‭ ‬البدء‭ ‬بالالتقاء‭ ‬الافتراضي. ‬فقد‭ ‬استخدمت‭ ‬المجتمعات‭ ‬بشكل‭ ‬فعال‭ ‬منصات‭ ‬شبكات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬مكانًا‭ ‬أوليًا‭ ‬للتلاقي‭ ‬في‭ ‬الأحياء‭ ‬الجديدة،‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬تطوير‭ ‬المساكن‭ ‬بسرعة‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ ‬العامة. ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬الالتقاء‭ ‬الافتراضي‭ ‬إلى‭ ‬علاقات‭ ‬وطيدة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الواقعية. ‬لقد‭ ‬سمعنا‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬عن‭ ‬أصدقاء‭ ‬على‭ ‬شبكات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬كانوا‭ ‬يساعدون‭ ‬بعضهم‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يلتقوا‭ ‬جسديًا‭ ‬من‭ ‬قبل. ‬ومن‭ ‬الأفكار‭ ‬ذات‭ ‬الصلة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬ما‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المبتكرين‭ ‬الاجتماعيين‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬المحلي‭ ‬بتصميم‭ ‬تطبيق‭ “‬فزعة‭ ‬جار‭”‬‬، فمثل‭ ‬هذه‭ ‬الأفكار‭ ‬قد‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬إثارة‭ ‬التفاعل‭ ‬بين‭ ‬الجيران‭ ‬وزيادة‭ ‬فرص‭ ‬التلاقي‭.‬

التلاقي‭ ‬في‭ ‬العمران‭ ‬الإسلامي

كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬تدعونا‭ ‬رؤيتنا‭ ‬الدينية‭ ‬إلى‭ ‬الاجتماع‭ ‬والائتلاف‭ ‬وتنهى‭ ‬عن‭ ‬الشتات‭ ‬والفرقة‭ ‬والوحدة‭. ‬

فقد‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬الحديث: “‬عليك‭ ‬بالجماعة،‭ ‬فإنما‭ ‬يأكل‭ ‬الذئب‭ ‬من‭ ‬الغنم‭ ‬القاصية”. ‬وتؤدي‭ ‬المساجد‭ ‬والمصليات‭ ‬دورًا‭ ‬مهمًا‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬أمكِنَة‭ ‬تلاقٍ‭ ‬يومية،‭ ‬فهذا‭ ‬من‭ ‬مقاصدها‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الدينية. ‬ولهذا‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬النبوي‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يُنادى‭ ‬لاجتماع‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬المسجد‭ ‬بقولهم: “‬الصلاة‭ ‬جامعة”.

ونلاحظ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬وجود‭ ‬تلازم‭ ‬بين‭ ‬الاجتماع‭ ‬والصلاة‭ ‬ومكان‭ ‬ذلك‭ ‬المسجد،‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬حرص‭ ‬التشريع‭ ‬الإسلامي‭ ‬على‭ ‬الاجتماع‭ ‬في‭ ‬شعائره‭ ‬الكبرى،‭ ‬بدءًا‭ ‬بصلاة‭ ‬الجمعة،‭ ‬التي‭ ‬أخذت‭ ‬اسمها‭ ‬من‭ ‬الاجتماع،‭ ‬ومرورًا‭ ‬بشعائر‭ ‬الاجتماع‭ ‬للاستسقاء‭ ‬والاجتماع‭ ‬للعيدين،‭ ‬والاجتماع‭ ‬في‭ ‬شعائر‭ ‬العمرة‭ ‬والحج‭ ‬في‭ ‬مكّة‭ ‬المكرّمة‭ ‬وفجاجها‭ ‬ومنى‭ ‬وعرفات‭ ‬والمزدلفة. ‬ولكن‭ ‬لأسباب‭ ‬كثيرة،‭ ‬منها‭ ‬رواج‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬المنزل،‭ ‬تضاءلت‭ ‬فرص‭ ‬تلاقي‭ ‬الجيران‭ ‬المتكرر‭ ‬في‭ ‬المسجد‭ ‬الواحد‭.‬

التلاقي‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬الحارة

من‭ ‬الأمثلة‭ ‬الرائعة‭ ‬التي‭ ‬نعرفها‭ ‬لأمكنة‭ ‬التلاقي‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الأحياء‭ ‬في‭ ‬مدننا‭ ‬هو‭ ‬انتشار‭ ‬مقاهي‭ ‬الحارات‭ ‬ذات‭ ‬الهوية‭ ‬المحلية‭ ‬في‭ ‬الرياض‭ ‬والخبر‭ ‬والمدن‭ ‬الأخرى،‭ ‬وكذلك‭ ‬تحويل‭ ‬بعض‭ ‬المنازل‭ ‬القديمة‭ ‬إلى‭ ‬مشاريع‭ ‬عائلية‭ ‬وفردية‭ ‬بطابع‭ ‬يعكس‭ ‬هوية‭ ‬المكان. ‬تشجّع‭ ‬الحركة‭ ‬المصاحبة‭ ‬لوجود‭ ‬هذه‭ ‬الأمكنة‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬المشي‭ ‬في‭ ‬الحي‭ ‬والتفاعل‭ ‬مع‭ ‬الجيران‭ ‬أصحاب‭ ‬الاهتمام‭ ‬المشترك‭ ‬وافتعال‭ ‬الحديث‭ ‬بعد‭ ‬رؤيتهم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭.‬

يقول‭ ‬الكاتب‭ ‬علي‭ ‬الموسى‭ ‬متحدثًا‭ ‬عن‭ ‬مقاهي‭ ‬الحارات: “‬أنسنة‭ ‬المدن‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬فتح‭ ‬مقهى‭ ‬في‭ ‬ركن‭ ‬الشارع‭ ‬نستطيع‭ ‬فيه‭ ‬رؤية‭ ‬أهل‭ ‬الحي‭ ‬بفاتورة‭ ‬لا‭ ‬تزيد‭ ‬عن‭ ‬5‭ ‬ريالات‭ ‬لكوب‭ ‬قهوة‭ ‬الصباح. ‬كرسي‭ ‬خشبي‭ ‬وطاولة‭ ‬عتيقة‭ ‬كما‭ ‬تفعل‭ ‬كل‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬عشتها‭ ‬مع‭ ‬الجيران،‭ ‬فمقاهي‭ ‬البرجوازية‭ ‬وفواتيرها‭ ‬تصنع‭ ‬مدنًا‭ ‬متخشبة. ‬المقهى‭ ‬ثقافة‭ ‬لم‭ ‬نتقنها‭ ‬بعد‭ ‬وما‭ ‬زلنا‭ ‬طارئين‭ ‬عليها‭ ‬للأسف”.

ويقول‭ ‬المخطط‭ ‬الحضري‭ ‬فؤاد‭ ‬عسيري‭ ‬مفرّقًا‭ ‬بين‭ ‬المقهى‭ ‬ومحل‭ ‬بيع‭ ‬القهوة: “‬المقهى‭ ‬ليس‭ ‬قهوة‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬وسيلة‭ ‬تواصل‭ ‬وتعارف‭ ‬وتفاعل‭ ‬إنساني‭ ‬داخله‭ ‬وخارجه‭ ‬وأثناء‭ ‬الطريق‭ ‬إليه‭ ‬والعودة‭ ‬منه،‭ ‬وتفاعل‭ ‬مع‭ ‬الشارع‭ ‬أمامه‭ ‬والمحيط‭ ‬حوله،‭ ‬وإذا‭ ‬فقد‭ ‬وظيفته‭ ‬الاجتماعية‭ ‬صار‭ ‬محلًا‭ ‬لبيع‭ ‬القهوة‭ ‬فقط. ‬لا‭ ‬أستسيغ‭ ‬فكرة‭ ‬مقهى‭ ‬أذهب‭ ‬إليه‭ ‬بالسيارة!”.‬

التلاقي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الإبداع

انشغل‭ ‬العلماء‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬أسلوب‭ ‬التفكير‭ ‬الإبداعي‭ ‬وكيفية‭ ‬تنميته‭ ‬بواسطة‭ ‬العادات‭ ‬والممارسات‭ ‬اليومية،‭ ‬مثل‭ ‬التدريبات‭ ‬البدنية‭ ‬والنوم‭ ‬الجيّد‭ ‬والقراءة‭. ‬واتضح‭ ‬لهم‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬محفزًا‭ ‬إضافيًا‭ ‬يندرج‭ ‬في‭ ‬التلاقي‭ ‬العفوي‭ ‬مع‭ ‬الأصحاب‭ ‬والمعارف‭ ‬وحتى‭ ‬الغرباء. ‬طبعًا،‭ ‬ليست‭ ‬كل‭ ‬المقابلات‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬بالصدفة‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬أفكار‭ ‬مدهشة،‭ ‬ولكن‭ ‬أستاذ‭ ‬العمارة‭ ‬كوريدون‭ ‬سميث‭ ‬يوضح‭ ‬أننا‭ ‬بينما‭ ‬ننتقل‭ ‬من‭ ‬لقاء‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬فإن‭ ‬كل‭ ‬تلاقٍ‭ ‬اجتماعي‭ ‬قصير‭ ‬يغرس‭ ‬بذرة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬فكرة‭ ‬خلّاقة‭ ‬أو‭ ‬مُلهمة. ‬أما‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬المنزل‭ ‬بين‭ ‬جدران‭ ‬أربعة‭ ‬فقد‭ ‬يفوّت‭ ‬كمية‭ ‬وافرة‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬الإبداعية‭.‬

جان‭ ‬بول‭ ‬سارتر،‭ ‬وبابلو‭ ‬بيكاسو،‭ ‬وسيمون‭ ‬دو‭ ‬بوفوار،‭ ‬وآخرون‭ ‬من‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والفنانين‭ ‬والكتّاب‭ ‬أنتجوا‭ ‬أحسن‭ ‬أعمالهم‭ ‬بفعل‭ ‬تبادل‭ ‬الأفكار‭ ‬في‭ ‬المقاهي. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬دعا‭ ‬المؤلف‭ ‬ستيفن‭ ‬جونسون،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬كتابه “‬حيثما‭ ‬تأتي‭ ‬الأفكار‭ ‬الجيّدة” ‬إن “المكيدة‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬وجهات‭ ‬نظر‭ ‬جيدة‭ ‬هي‭ ‬عدم‭ ‬المكوث‭ ‬في‭ ‬عزلة‭ ‬ومحاولة‭ ‬التفكير‭ ‬بأفكار‭ ‬عظيمة”. ‬عوضًا‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬يوصي‭ ‬جونسون‭ ‬بأن “‬نتردد‭ ‬إلى‭ ‬المقاهي‭ … ‬ونذهب‭ ‬في‭ ‬نزهة‭ ‬مشيًا‭ ‬‭… ‬ونحتضن‭ ‬الصدفة”.‬

وعلى‭ ‬غرار‭ ‬ما‭ ‬يحصل‭ ‬اليوم،‭ ‬كان‭ ‬المثقفون‭ ‬يرتادون‭ ‬المقاهي‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬طويل. ‬فالمقاهي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الـثامن‭ ‬عشر‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬أفرزت‭ ‬مخرجات‭ ‬عصر‭ ‬التنوير،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬الناس‭ ‬فهموا‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬ديفيد‭ ‬بوركوس‭ ‬في‭ ‬كتابه “‬أساطير‭ ‬الإبداع” ‬أنهم‭ ‬يكونون “أكثر‭ ‬إنتاجية‭ ‬وأغزر‭ ‬إبداعًا‭ ‬عندما‭ ‬يعملون‭ ‬في‭ ‬المقاهي”. ‬كما‭ ‬تقول‭ ‬الدراسات‭ ‬إنه‭ ‬ليس‭ ‬للكافيين‭ ‬علاقة‭ ‬بالإبداع‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬نتيجة‭ ‬التلاقي‭ ‬مع‭ ‬الناس. ‬فالتواجد‭ ‬بجانب‭ ‬أشخاص‭ ‬يعملون‭ ‬بجد‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحفّز‭ ‬دوافعنا‭ ‬على‭ ‬صنع‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه‭.‬

لذلك،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الإبداع‭ ‬يولد‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التلاقي،‭ ‬وهي‭ ‬فلسفة‭ ‬تدعمها‭ ‬دراسة‭ ‬أُجريت‭ ‬في‭ ‬عام ‬2016م‭ ‬في‭ ‬بلجيكا،‭ ‬طلب‭ ‬فيها‭ ‬الباحثون‭ ‬من‭ ‬المشاركين‭ ‬أن‭ ‬يجلسوا‭ ‬جنبًا‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬أمام‭ ‬الشاشة‭ ‬لتأدية‭ ‬مهمة‭ ‬ما. ‬وكانت‭ ‬نتيجة‭ ‬الدراسة‭ ‬أن “تأدية‭ ‬المهام‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬شخص‭ ‬يبذل‭ ‬جهدًا‭ ‬عاليًا‭ ‬في‭ ‬وظيفة‭ ‬ما‭ ‬يجعلنا‭ ‬نصنع‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه”.‬

أهمية‭ ‬اللقاء‭ ‬بالطبيعة

إن‭ ‬صرخة‭ ‬”Eureka‭!“ ‬أو “‬وجدتها”‬،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬تُعرف‭ ‬بلحظة “‬آها”‬،‭ ‬توضح‭ ‬أهمية‭ ‬التلاقي‭ ‬مع‭ ‬الطبيعة‭ ‬لإنضاج‭ ‬الفكرة‭ ‬الإبداعية. ‬ربما‭ ‬لذلك‭ ‬اعتاد‭ ‬الفلاسفة،‭ ‬مثل‭ ‬سقراط‭ ‬وكانط،‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بالسير‭ ‬في‭ ‬الحديقة‭ ‬لتنشيط‭ ‬تفكيرهم‭ ‬الإبداعي. ‬وفي‭ ‬الحقيقة‭ ‬ليس‭ ‬الفلاسفة‭ ‬العظماء‭ ‬وحدهم‭ ‬من‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬البيئات؛‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬معظم‭ ‬الناس‭ ‬يريدون‭ ‬أيضًا‭ ‬بيئات‭ ‬مريحة‭ ‬لإنعاش‭ ‬أنفسهم‭ ‬قبل‭ ‬العمل‭ ‬مرة‭ ‬أخرى. ‬إن‭ ‬أخذ‭ ‬جرعة‭ ‬من‭ ‬الإلهام‭ ‬ممن‭ ‬حولنا‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬العوامل‭ ‬لإنعاش‭ ‬الدماغ،‭ ‬كما‭ ‬أثبت‭ ‬العلماء‭ ‬أن‭ ‬مداومة‭ ‬اللقاء‭ ‬بالطبيعة‭ ‬يرتبط‭ ‬ارتباطًا‭ ‬وثيقًا‭ ‬وإيجابيًا‭ ‬بالإبداع‭.‬

تطوير‭ ‬أمكِنَة‭ ‬تلاقٍ‭ ‬شاملة

إذا‭ ‬كنّا‭ ‬نرغب‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬مجتمع‭ ‬شامل،‭ ‬فنحن‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬مساحات‭ ‬تلاقٍ‭ ‬أشمل. ‬ففي‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الجيران‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يكونون‭ ‬مختلفين‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬العمر‭ ‬والدخل‭ ‬والثقافة‭ ‬والاهتمامات‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬فهم‭ ‬يميلون‭ ‬إلى‭ ‬التجمع‭ ‬مع‭ ‬أشخاص‭ ‬يشبهونهم. ‬ولكي‭ ‬تكون‭ ‬الأمكِنَة‭ ‬شاملة،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬متاحة‭ ‬لأولئك‭ ‬الذين‭ ‬لديهم‭ ‬قدرات‭ ‬ودخل‭ ‬مختلفين،‭ ‬وكذلك‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تعكس‭ ‬كافة‭ ‬الثقافات‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬الحي. ‬فأحد‭ ‬الأسباب‭ ‬الرئيسة‭ ‬لعدم‭ ‬شمولية‭ ‬الأماكن‭ ‬بشكل‭ ‬كافٍ‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الكثير‭ ‬منها‭ ‬لها‭ ‬غرض‭ ‬واحد،‭ ‬فتجذب‭ ‬بعض‭ ‬الأمكِنَة‭ ‬الشباب‭ ‬فقط،‭ ‬أو‭ ‬الرياضيين‭ ‬أو‭ ‬المثقفين‭ ‬دون‭ ‬غيرهم،‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬تم‭ ‬تصميم‭ ‬المساحة‭ ‬خصيصًا‭ ‬له‭.‬

وينبغي‭ ‬للمكان‭ ‬الشامل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬متعدد‭ ‬الأغراض. ‬وثمة‭ ‬نظرية‭ ‬معروفة‭ ‬باسم “‬قوة‭ ‬الرقم 10” (Power of 10) ‬لضمان‭ ‬حيوية‭ ‬أمكِنَة‭ ‬التلاقي‭ ‬ونجاحها. ‬وتقول‭ ‬هذه‭ ‬النظرية‭ ‬إن‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬أن‭ ‬يستوعب‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬عشرة‭ ‬أنواع‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬الأنشطة. ‬ولن‭ ‬يؤدي‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬جعل‭ ‬المكان‭ ‬أكثر‭ ‬جاذبية‭ ‬لمجموعة‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬المستخدمين‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬سيزيد‭ ‬من‭ ‬احتمالية‭ ‬استخدام‭ ‬المكان‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬أوسع‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أوقات‭ ‬اليوم‭ ‬وخلال‭ ‬جميع‭ ‬فصول‭ ‬السنة،‭ ‬مما‭ ‬يجعله‭ ‬أكثر‭ ‬أمانًا‭ ‬للجميع‭.‬

إن‭ ‬أماكن‭ ‬التلاقي‭ ‬المفضلة‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬صممها‭ ‬وبناها‭ ‬الجيران‭ ‬بأنفسهم. ‬ومن‭ ‬المرجح‭ ‬أن‭ ‬تعكس‭ ‬هذه‭ ‬الأماكن‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مميز‭ ‬في‭ ‬ثقافة‭ ‬السكان‭ ‬وحيهم. ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬صناعة‭ ‬المكان،‭ ‬يشعر‭ ‬الجيران‭ ‬بالملكية،‭ ‬ويصبحون‭ ‬أكثر‭ ‬تقبلًا‭ ‬لاستخدام‭ ‬الأمكنة‭ ‬وصيانتها‭ ‬وبرمجتها. ‬ومن‭ ‬الأهمية‭ ‬بمكان‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عملية‭ ‬التصميم‭ ‬والتنفيذ‭ ‬شاملة‭ ‬كذلك،‭ ‬حيث‭ ‬ينبغي‭ ‬لجميع‭ ‬المستخدمين‭ ‬المحتملين‭ ‬أن‭ ‬يتمتعوا‭ ‬بمنظور‭ ‬قيّم‭ ‬يقدّمونه‭ ‬ضمن‭ ‬عملية‭ ‬تصميم‭ ‬الأمكِنَة،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬لكل‭ ‬شخص‭ ‬إسهامات‭ ‬يمكنه‭ ‬تقديمها‭ ‬لإنشاء‭ ‬مكان‭ ‬يحفّز‭ ‬على‭ ‬التلاقي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬صنع‭ ‬مدن‭ ‬عظيمة‭ ‬صديقة‭ ‬للإنسان. ‬وكما‭ ‬يقول‭ ‬محمود‭ ‬درويش: “‬وقليلٌ‭ ‬مِن‭ ‬الأرضِ‭ ‬يَكفي‭ ‬لكي‭ ‬نَلتقي”.‬