Hero image

فِلم أغنية الغراب.. يقظة تمشِّط الحلم

مايو - يونيو 2023

يوليو 20, 2023

شارك

اجتذب‭ ‬فِلم‭‬ “أغنية‭ ‬الغراب” ‬الأضواء‭ ‬خلال‭ ‬مهرجان‭ ‬الأفلام‭ ‬السعودية‭ ‬في‭ ‬دورته‭ ‬التاسعة‭ ‬لعام‭ ‬2023م،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فاز‭ ‬بنخلتين‭ ‬ذهبيتين‭ ‬عن‭ ‬جائزتي‭ ‬لجنة‭ ‬التحكيم‭ ‬وأفضل‭ ‬تصوير‭ ‬سينمائي. ‬كما‭ ‬حصد‭ ‬عاصم‭ ‬العواد‭ ‬جائزة‭ ‬المهرجان‭ ‬لأفضل‭ ‬ممثل،‭ ‬بعد‭ ‬إطلالته‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬شاشة‭ ‬السينما‭ ‬متقمصًا‭ ‬دور‭ ‬بطل‭ ‬الفِلم‭ ‬الشاب “ناصر”. ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الاعتراف‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬يستحقّه‭ ‬الفِلم‭ ‬من‭ ‬الوسط‭ ‬الفنّي،‭ ‬إذ‭ ‬سبق‭ ‬ذلك‭ ‬اختياره‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬هيئة‭ ‬الأفلام‭ ‬السعودية‭ ‬لتمثيل‭ ‬المملكة‭ ‬في‭ ‬سباق‭ ‬الأوسكار‭ ‬لعام ‭‬2023م. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬أن “أغنية‭ ‬الغراب‭”‬ أطربت‭ ‬الجمهور‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬كما‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬مبيعات‭ ‬شبّاك‭ ‬التذاكر‭! ‬

و “أغنية‭ ‬الغراب” ‬هي‭ ‬قصة‭ ‬يمتزج‭ ‬فيها‭ ‬الواقع‭ ‬بالحلم‭ ‬والحقيقة‭ ‬بالوهم،‭ ‬وبطلها‭ ‬هو‭ ‬الشاب “ناصر”‬،‭ ‬الذي‭ ‬يلتصق‭ ‬به‭ ‬نعت “‬الغراب”‬،‭ ‬في‭ ‬مفارقة‭ ‬ترتبط‭ ‬بما‭ ‬يعيشه‭ ‬من‭ ‬خيبات‭ ‬الواقع‭ ‬التي‭ ‬يصارعها‭ ‬عبر‭ ‬رحلة‭ ‬في‭ ‬اللاوعي‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬فتاة‭ ‬الأحلام “‬الحمامة”‬،‭ ‬التي‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬فيها‭ ‬أجمل‭ ‬أغانيه‭.‬

هذا‭ ‬الفِلم‭ ‬الروائي‭ ‬الطويل،‭ ‬الذي‭ ‬يُعد‭ ‬الأول‭ ‬لمخرجه‭ ‬محمد‭ ‬السلمان‭ ‬بعد‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭ ‬القصيرة،‭ ‬يتخذّ‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬الرياض‭ ‬مسرحًا‭ ‬له‭ ‬بإطار‭ ‬زمني‭ ‬يعود‭ ‬بالمشاهد‭ ‬إلى‭ ‬مطلع‭ ‬الألفية،‭ ‬لتتقاطع‭ ‬السياقات‭ ‬العامة‭ ‬لتلك‭ ‬الفترة‭ ‬مع‭ ‬الأحداث‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬سينمائي‭ ‬يحاول‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬روح‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬بأسلوب‭ ‬يزاوج‭ ‬بين‭ ‬الذكاء‭ ‬والجرأة‭.‬

وفي‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة،‭ ‬يلتقي‭ ‬المشاهد‭ ‬شخصيةَ “‬بو‭ ‬صقر” ‬صديق “‬ناصر”‬،‭ ‬التي‭ ‬يؤديها‭ ‬الممثل‭ ‬إبراهيم‭ ‬الخيرالله،‭ ‬وشخصية “صاحب‭ ‬الغرفة 227”،‭ ‬التي‭ ‬يؤديها‭ ‬الممثل‭ ‬عبدالله‭ ‬الجفَّال،‭ ‬مع‭ ‬ظهور‭ ‬ملبَّد‭ ‬بغموض‭ ‬شاعري‭ ‬للفتاة‭ ‬الحُلم،‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬دورها‭ ‬كاترينا‭ ‬تكاشينكو‭.‬

تمتاز‭ ‬أفلام‭ ‬المخرج‭ ‬السعودي‭ ‬محمد‭ ‬السلمان‭ ‬بمسحة‭ ‬من‭ ‬التجريب‭ ‬بدأت‭ ‬بفِلم ‭”‬فيما‭ ‬بين” ‬عام 2015م‭ ‬في‭ ‬افتتاح‭ ‬الدورة‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬مهرجان‭ ‬أفلام‭ ‬السعودية،‭ ‬واستمرت‭ ‬بصمةً‭ ‬ظاهرة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬خطوة. إذ‭ ‬يمكن‭ ‬لمتتبع‭ ‬التجارب‭ ‬السينمائية‭ ‬السعودية‭ ‬تمييز‭ ‬أفلامه‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬الأفلام،‭ ‬وذلك‭ ‬لجرأته‭ ‬على‭ ‬اختراق‭ ‬مناطق‭ ‬بكر،‭ ‬وصناعة‭ ‬طريقته،‭ ‬وتفتيشه‭ ‬عن‭ ‬لحنه،‭ ‬وتوظيفه‭ ‬لثقافته‭ ‬السينمائية،‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬أول‭ ‬أفلامه‭ ‬الطويلة “أغنية‭ ‬الغراب” 2022م.

د. محمد البشير

كما‭ ‬ابتدأ‭ ‬المخرج‭ ‬مشاغبة‭ ‬جمهوره‭ ‬من‭ ‬صُنّاع‭ ‬الأفلام‭ ‬بفلمه‭ ‬الأول،‭ ‬كرَّر‭ ‬فعلته‭ ‬مع‭ ‬الجمهور‭ ‬بفِلمه‭ ‬الطويل،‭ ‬الذي‭ ‬أراد‭ ‬له‭ ‬ألا‭ ‬يخضع‭ ‬لإملاءات‭ ‬شباك‭ ‬التذاكر‭ ‬والانحياز‭ ‬للكوميديا‭ ‬التي‭ ‬أثبتت‭ ‬نجاحها‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المبيعات؛‭ ‬بل‭ ‬وضع‭ ‬مقدارًا‭ ‬محددًا‭ ‬من‭ ‬الكوميديا‭ ‬المتكئة‭ ‬على‭ ‬رسم‭ ‬أبطاله‭ ‬وصناعة‭ ‬مواقفهم،‭ ‬وتمرير‭ ‬الابتسامة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬التفريط‭ ‬بزمام‭ ‬الأحداث‭.‬

ينتصر‭ ‬هذا‭ ‬الفلم‭ ‬للركائز‭ ‬الأساسية‭ ‬للصورة‭ ‬السينمائية،‭ ‬ويوظف‭ ‬دُوار‭ ‬الحلم‭ ‬عند “هيتشكوك” ‬ومن‭ ‬أتى‭ ‬بعده،‭ ‬محترمًا‭ ‬عقل‭ ‬المشاهد‭ ‬في‭ ‬الربط‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الأحداث‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬انهزام‭ ‬أمام‭ ‬المشاهد‭ ‬الكسول،‭ ‬وكريمًا‭ ‬بتقديم‭ ‬لذة‭ ‬الكشف‭ ‬التي‭ ‬تتبدى‭ ‬بالسير‭ ‬مع‭ ‬بطل‭ ‬الفلم “ناصر”‬،‭ ‬والاستمتاع‭ ‬بتمشيط‭ ‬الأحلام‭ ‬ومداعبة‭ ‬المشط‭ ‬لفروة‭ ‬رأس‭ ‬المشاهد؛‭ ‬ليطيّر “الحمامة”‬،‭ ‬التي‭ ‬تقف‭ ‬فوق‭ ‬رأس “ناصر‭ ‬الغراب” ‬في‭ ‬بوستر‭ ‬الفلم،‭ ‬كلما‭ ‬انتقل‭ ‬من‭ ‬حلمه‭ ‬بفتاة‭ ‬البوستر،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يظهر‭ ‬النصف‭ ‬العلوي‭ ‬من‭ ‬وجهها. ‬

وعثاء‭ ‬السفر

يطارد‭ ‬الفلم‭ ‬الرحلة‭ ‬الحياتية‭ ‬لأبطاله‭ ‬الثلاثة، “ناصر‭ ‬الغراب” و “بو‭ ‬صقر” و “ساكن‭ ‬غرفة ‭‬227‭‬”. ويحتل‭ ‬الأول‭ ‬المساحة‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬حياته‭ ‬وما‭ ‬يعانيه‭ ‬من‭ ‬خيبات‭ ‬متتالية. ‬فالرحلة‭ ‬لا‭ ‬تخلُد‭ ‬إلا‭ ‬بقدر‭ ‬المصاعب‭ ‬التي‭ ‬نواجهها،‭ ‬ولذة‭ ‬الوصول‭ ‬تعظُم‭ ‬بمشقة‭ ‬الطريق‭.‬

يتعرّض “ناصر” ‬منذ‭ ‬الحلم‭ ‬الأول‭ ‬لموجة‭ ‬من‭ ‬التنمر،‭ ‬وأقساه‭ ‬ما‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬قريب! ‬فوالده‭ ‬يسِمه‭ ‬بـ “التيس”‬،‭ ‬وصديقه‭ ‬القريب “بو‭ ‬صقر” ‬لا‭ ‬يتورّع‭ ‬عن‭ ‬مزاحه‭ ‬الثقيل‭ ‬الذي‭ ‬يبرز‭ ‬بصريًا‭ ‬بتباين‭ ‬البنيتين‭ ‬الجسديتين‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الصديقين. ‬وتتشابك‭ ‬شخصيتا‭ ‬الصديقين‭ ‬في‭ ‬خيبة‭ ‬الرحلة‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬توبة “بو‭ ‬صقر” ‬عن‭ ‬الغناء،‭ ‬ثمّ‭ ‬محاولته‭ ‬العودة‭ ‬بأغنية‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬كلمات “‬ناصر‭ ‬الغراب” ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬اختاره‭ ‬من‭ ‬اسم‭ ‬فني‭.‬

ويمضي‭ ‬السرد‭ ‬في‭ ‬خطوط‭ ‬متوازية‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الشخصيات‭ ‬في‭ ‬رصف‭ ‬يزيد‭ ‬الفلم‭ ‬تماسكًا‭.‬ وكما‭ ‬مشّط‭ ‬السلمان‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬شخصياته،‭ ‬ظفّر‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬حين‭ ‬أدخل “الإنسان”‬،‭ ‬كما‭ ‬أراد‭ ‬تعريف‭ ‬نفسه،‭ ‬أو “ساكن‭ ‬غرفة‬227‭ ‬” في‭ ‬سياق‭ ‬الأحداث،‭ ‬مثيرًا‭ ‬تساؤلات‭ ‬المشاهد‭ ‬حول‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬الغامضة،‭ ‬والتقاطع‭ ‬بينها‭ ‬وبين “ناصر”.‬

مزية‭ ‬الوجه

ولكن‭ ‬من‭ ‬يليق‭ ‬بأداء‭ ‬دور “ناصر‭”‬؟‭ ‬في‭ ‬جواب‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬يتقدم‭ ‬الوجه‭ ‬المناسب‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬اعتبار‭ ‬آخر. ‬فنرى‭ ‬مغامرة‭ ‬واثقة‭ ‬من‭ ‬المخرج‭ ‬باختيار‭ ‬عاصم‭ ‬العواد‭ ‬لدور‭ ‬البطولة‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬فلم‭ ‬يمثله‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تواجد‭ ‬البدلاء،‭ ‬لتكسب‭ ‬ثقته‭ ‬الرهان‭ ‬كما‭ ‬يشهد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬تتويج‭ ‬شخصية‭ ‬البطل‭ ‬بجائزة‭ ‬أفضل‭ ‬ممثل‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬الأفلام‭ ‬السعودية‭.‬

و “أغنية‭ ‬الغراب” ‬لعبة‭ ‬من‭ ‬ألعاب‭ ‬الوجوه؛‭ ‬بدءًا‭ ‬بما‭ ‬ذكرناه‭ ‬عن‭ ‬البوستر‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬الفتاة‭/‬الحلم‭ ‬ووجهها،‭ ‬ومرورًا‭ ‬بـ “ناصر” ‬البطل‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬نعرفه،‭ ‬و “الحمامة” ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تحافظ‭ ‬على‭ ‬وجهها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يمس‭ ‬رقبتها‭ ‬خط‭ ‬يفصل‭ ‬رأسها‭ ‬عن‭ ‬جسدها،‭ ‬وكذلك “الأب” ‬الذي‭ ‬يفرض‭ ‬سلطته‭ ‬المتبدية‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬مالك‭ ‬الفندق (‬يقوم‭ ‬بدوره‭ ‬الفنان‭ ‬إبراهيم‭ ‬الحساوي). ‬وهناك‭ ‬وجه “التيس”‬،‭ ‬السُّبة‭ ‬التي‭ ‬يسمعها‭ ‬من‭ ‬والده،‭ ‬لتمثل‭ ‬أمامه‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬غريب‭ ‬بتواجد “تيس” ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬إدارة‭ ‬الفندق،‭ ‬وقبل‭ ‬ذلك‭ ‬حضور “التيس” ‬الصادم‭ ‬في‭ ‬السيارة‭ ‬المحملة‭ ‬بوجوه “التيوس‭”‬؛‭ ‬والتي‭ ‬ترتطم‭ ‬بسيارة‭ ‬محملة‭ ‬بوجوه “حداثية” ‬في‭ ‬حادث‭ ‬شنيع‭.‬

وكل‭ ‬هذه‭ ‬الوجوه‭ ‬يقف‭ ‬خلفها‭ ‬وجه‭ ‬واحد‭ ‬يظهر‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يظهر،‭ ‬وهو‭ ‬وجه‭ ‬الابن‭ ‬الفقيد “ياسر‭ ‬القندوسي”‬،‭ ‬الذي‭ ‬تظهر‭ ‬صورته‭ ‬في‭ ‬حفل‭ ‬التأبين،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬صورة‭ ‬المخرج‭ ‬محمد‭ ‬السلمان. ‬ويقابل‭ ‬ذلك‭ ‬حضور‭ ‬الجسد‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬الغراب‭ ‬السفاح‭ ‬دون‭ ‬حضور‭ ‬الوجه،‭ ‬ما‭ ‬يعكس‭ ‬ثنائية‭ ‬يلعب‭ ‬عليها‭ ‬الفلم‭ ‬في‭ ‬نقلاته‭ ‬المشهدية‭ ‬بين‭ ‬شخصية‭ ‬وأخرى،‭ ‬وفي‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬أطراف‭ ‬الشخصيات‭ ‬والحكايات،‭ ‬والعودة‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬عقدة‭ ‬لاحقة‭.‬

ونلاحظ‭ ‬في‭ ‬الفِلم‭ ‬أيضًا‭ ‬بعثًا‭ ‬للحكايات‭ ‬والإشاعات‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬الزمنية،‭ ‬ومنها‭ ‬ذلك‭ ‬السفاح‭ ‬المتخفي‭ ‬في‭ ‬عباءة‭ ‬امرأة،‭ ‬لتُترك‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الحكايات‭ ‬للمشاهد‭ ‬سواء‭ ‬أعاصرها‭ ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬أرشيفه،‭ ‬أم‭ ‬كان‭ ‬يتلقاها‭ ‬بوصفها‭ ‬إشاعة‭ ‬أو‭ ‬قصة‭ ‬كما‭ ‬رواها‭ ‬الفنان‭ ‬المسرحي “ساكن‭ ‬غرفة‬227‭ ‬” مع‭ ‬التوكيد‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أنها‭ ‬قصة‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬تصنيفها‭ ‬حقيقة‭ ‬أم‭ ‬إشاعة. ‬وما‭ ‬استعادتها‭ ‬في‭ ‬الفلم‭ ‬إلا‭ ‬كي “تتمتع‭ ‬بحيوات‭ ‬ومعانٍ‭ ‬خاصة‭ ‬بها‭ ‬تختلف‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الزمن،‭ ‬وترتبط‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭ ‬باختلاف‭ ‬الجمهور”‬،‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬داميان‭ ‬كوكس‭ ‬ومايكل‭ ‬ليفين‭ ‬في‭ ‬كتابهما “السينما‭ ‬والفلسفة”.‬ وهكذا‭ ‬تتضافر‭ ‬جدائل‭ ‬الحكايات‭ ‬والشخصيات‭ ‬في‭ ‬أغنية‭ ‬الغراب؛‭ ‬ليكتمل‭ ‬وجه‭ ‬الفلم‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭.‬

النصف‭ ‬العلوي.. ‬وبقية‭ ‬الحلم‮ ‬

يظل‭ ‬المشاهد‭ ‬مأسورًا‭ ‬بما‭ ‬يشاهده‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يتخفَّى‭ ‬ويتبدَّى‭ ‬أمامه،‭ ‬ويطارد‭ ‬ما‭ ‬يختبئ‭ ‬ليظفر‭ ‬بمتعة‭ ‬الكشف‭ ‬وإدراك‭ ‬القصدية‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬المخرج‭ ‬وراء‭ ‬الأسماء‭ ‬والنعوت (‬الغراب،‭ ‬بو‭ ‬صقر،‭ ‬النعامة،‭ ‬هديل‭ ‬الحمام،‭ ‬فندق‭ ‬الحمامة،‭ ‬صحيفة‭ ‬اليمامة). ‬كما‭ ‬نرى‭ ‬المسلمات‭ ‬خاضعة‭ ‬للنقاش‭ ‬والتحول‭ ‬والتبدل،‭ ‬فـ “التيس” ‬الذي‭ ‬يغضب “ناصر” ‬كان‭ ‬رمزًا “لقراع‭ ‬الخطوب” والجلد‭ ‬والقوة،‭ ‬ولكن‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬فيه‭ ‬استنقاصًا،‭ ‬يجعلنا‭ ‬نتقبل‭ ‬رضاه‭ ‬وإصراره‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون “الغراب” ‬المتفق‭ ‬على‭ ‬شؤمه،‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يُنادى‭ ‬بـ “التيس”.‬

ولا‭ ‬يجد‭ ‬المشاهد‭ ‬غضاضة‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬فالصور‭ ‬الذهنية‭ ‬لا‭ ‬تستقر‭ ‬مدى‭ ‬الحياة،‭ ‬ولها‭ ‬أن‭ ‬تتبدل‭ ‬متى‭ ‬ما‭ ‬خضعت‭ ‬للمناقشة. ‬وثنائية‭ ‬الغراب‭ ‬والحمامة،‭ ‬تجعلنا‭ ‬نفاضل‭ ‬شئنا‭ ‬أم‭ ‬أبينا. ‬فمشهد‭ ‬الحمامة‭ ‬التي‭ ‬اقتلع‭ ‬قلبها‭ ‬الغراب‭ ‬يضعنا‭ ‬أمام‭ ‬نبوءة‭ ‬وتساؤل:‭ ‬مَن‭ ‬الحمامة؟‭ ‬ومن‭ ‬الغراب؟‭ ‬ومن‭ ‬اقتلع‭ ‬قلب‭ ‬من؟‭ ‬وأين “ناصر‭ ‬الغراب” ‬في‭ ‬المعادلة؟‭ ‬وهل‭ ‬هناك‭ ‬غراب‭ ‬في “طرحة” ‬حمامة؟‭ ‬أم‭ ‬حمامة‭ ‬في “مُسوح” ‬غراب؟‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬التساؤلات‭ ‬تقودنا‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬النصف‭ ‬العلوي‭ ‬من‭ ‬الوجه‭.‬

وكما‭ ‬جاء‭ ‬الفلم‭ ‬بالأسماء‭ ‬والرسوم‭ ‬والصور‭ ‬للطيور‭ ‬والحيوانات،‭ ‬جاء‭ ‬أيضًا‭ ‬بـ “فنتازيا” ‬المطر‭ ‬و “سريالية” ‬الأحلام،‭ ‬وبصورة‭ ‬تجمع‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الواقع‭ ‬والخيال،‭ ‬ابتداءً‭ ‬من‭ ‬حلم‭ ‬الشارع‭ ‬وتساقط‭ ‬المطر‭ ‬والأدمغة،‭ ‬ومرورًا‭ ‬بكل‭ ‬حلم‭ ‬ينبني‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬حقيقي،‭ ‬ويخالف‭ ‬الواقع‭ ‬بتفسير‭ ‬ومؤثرات‭ ‬بصرية‭ ‬وسمعية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬اللعب‭ ‬على‭ ‬وتر‭ ‬الألوان‭ ‬والأماكن،‭ ‬كحضور‭ ‬الجمال‭ ‬في “تشليح‭ ‬السيارات”‬،‭ ‬وما‭ ‬يضفيه‭ ‬اللون‭ ‬الأبيض‭ ‬من‭ ‬عتمة‭ ‬جمالية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬فاصل‭ ‬حلم‭ ‬لا‭ ‬تدرك‭ ‬حدوده،‭ ‬وتجلّي‭ ‬اللون‭ ‬الأسود‭ ‬في‭ ‬بحر “العباءات” ‬أمام‭ ‬فتنة‭ ‬بياض‭ ‬من‭ ‬يطاردها “الغراب” ‬في‭ ‬حلمه‭/‬واقعه‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ندرك‭ ‬حدوده. ‬

إن‭ ‬تحقيق‭ ‬الأمنيات‭ ‬وظيفة‭ ‬من‭ ‬وظائف‭ ‬الحلم‭ ‬عند‭ ‬سيجموند‭ ‬فرويد.‭ ‬لكن‭ ‬الأحلام‭ ‬تأتي‭ ‬في‭ ‬الفلم‭ ‬لتحقيق‭ ‬لذة‭ ‬التكشف‭ ‬من‭ ‬البوستر‭ ‬إلى‭ ‬تجلي‭ ‬الفتاة،‭ ‬ولعبة‭ ‬التخفي‭ ‬التي‭ ‬تتأرجح‭ ‬بين‭ ‬عوائق‭ ‬الوصول‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬حادثة،‭ ‬وانعطافات‭ ‬الأقدار‭ ‬بغياب “ناصر” ‬لحظة‭ ‬حضور‭ ‬الفتاة‭ ‬في‭ ‬الفندق‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬فيه. ‬والاستغراق‭ ‬في‭ ‬مطاردة‭ ‬الحلم‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الرحلة،‭ ‬فهل‭ ‬كل‭ ‬رحلة‭ ‬قدرها‭ ‬الوصول؟

جاء‭ ‬الفلم‭ ‬بالأسماء‭ ‬والرسوم‭ ‬والصور‭ ‬للطيور‭ ‬والحيوانات، كما ‬جاء‭ ‬أيضًا‭ ‬ب‬فنتازيا ‬المطر‭ ‬و‭‬سريالية ‬الأحلام،‭ ‬وبصورة‭ ‬تجمع‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الواقع‭ ‬والخيال،‭ ‬ابتداءً‭ ‬من‭ ‬حلم‭ ‬الشارع‭ ‬وتساقط‭ ‬المطر‭ ‬والأدمغة،‭ ‬ومرورًا‭ ‬بكل‭ ‬حلم‭ ‬يخالف‭ ‬الواقع‭ ‬بتفسير‭ ‬ومؤثرات‭ ‬بصرية‭ ‬وسمعية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬اللعب‭ ‬على‭ ‬وتر‭ ‬الألوان‭ ‬والأماكن.

صراعات‭ ‬المرحلة

تبدأ‭ ‬الصراعات‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬تصورات‭ ‬الحلال‭ ‬والحرام،‭ ‬فصورة‭ ‬الابن‭/‬التيس‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬والده (‬يقوم‭ ‬بالدور‭ ‬الفنان‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬المبدل) ‬مبنية‭ ‬على‭ ‬تخييب‭ ‬تطلعاته. ‬لكن‭ ‬الابن‭ ‬يظل‭ ‬صامدًا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مواجهة‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬احترام‭ ‬الأب،‭ ‬والبر‭ ‬المفروض‭ ‬بالفطرة‭ ‬والدين‭ ‬والعرف‭ ‬والعادات. ‬أما‭ ‬شريط‭ ‬الكاسيت‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬الحلم‭ ‬فيأبى‭ ‬التشظي‭ ‬أمام‭ ‬طَرْقات “المرزبة” (‬المطرقة)‬،‭ ‬كصمود‭ ‬ناصر‭ ‬أمام‭ ‬كل‭ ‬الطَرقات‭ ‬والصدمات‭.‬

وهناك‭ ‬أيضًا‭ ‬التباس‭ ‬وجهة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬خشية “أم‭ ‬ناصر” (‬تقوم‭ ‬بالدور‭ ‬الفنانة‭ ‬فاطمة‭ ‬الشريف) ‬من‭ ‬شيء‭ ‬واحد،‭ ‬وهو‭ ‬انكسار “الزهرية” ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬رسمة‭ ‬حمامة،‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬التباس‭ ‬المفاهيم‭ ‬بشأن‭ ‬ما‭ ‬يجب‭ ‬كسره‭ ‬وما‭ ‬يُخشى‭ ‬خدشه،‭ ‬تمامًا‭ ‬مثل‭ ‬صورة “الحمامة” ‬على‭ ‬جدار‭ ‬غرفة ‬227،‭ ‬والخط‭ ‬الفاصل‭ ‬الدخيل‭ ‬على‭ ‬رقبتها‭ ‬لتوهم‭ ‬بالحياة‭ ‬والموت‭.‬

أما‭ ‬قيام‭ ‬الأب‭ ‬بتحطيم‭ ‬إنجاز‭ ‬ابنه‭ ‬من‭ ‬أشرطة‭ ‬غناء‭ ‬أحدها‭ ‬شريط‭ ‬يحمل‭ ‬كلمات “ناصر‭ ‬الغراب”‬،‭ ‬واسمه “حمامة‭ ‬الغرام”‬،‭ ‬فيؤرخ‭ ‬للحقبة‭ ‬بعام ‭‬2002م،‭ ‬ويصاحب‭ ‬عملية‭ ‬التحطيم‭ ‬صوت‭ ‬الأذان‭ ‬من‭ ‬ابن‭ ‬ماجد‭ ‬لتحديد‭ ‬المكان‭ ‬بالرياض‭ ‬افتراضًا،‭ ‬ليظهر‭ ‬تناقض‭ ‬الأمر. ‬فابن‭ ‬ماجد‭ ‬مات‭ ‬قبل‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬عام 1997م. ‬لكن‭ ‬الأفلام‭/‬الأحلام‭ ‬بسرياليتها‭ ‬لا‭ ‬تخضع‭ ‬لتاريخ‭ ‬إطلاقًا،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬التصورات‭ ‬لا‭ ‬تستقر‭ ‬مدى‭ ‬الحياة‭ ‬مثل‭ ‬مفهوم‭ ‬التصوير‭.‬

ويمر‭ ‬الفِلم‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬المفاهيم‭ ‬الأخرى‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالمرحلة،‭ ‬مثل‭ ‬صورة‭ ‬الحداثة‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬ويسرّب‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬كاريكاتيري‭ ‬لاجتماع‭ ‬الرموز‭ ‬في‭ ‬سيارة‭ ‬والمناقشة‭ ‬المحتدة‭ ‬حدَّ‭ ‬الاصطدام‭ ‬الذي‭ ‬ينتهي‭ ‬دون‭ ‬الوصول‭ ‬لنتيجة‭ ‬ترضي‭ ‬الجميع. ‬ويظل “التيس” ‬شاهدًا‭ ‬على‭ ‬الحادثة،‭ ‬ويظل “أبو‭ ‬صقر” ‬ينتظر‭ ‬اللحن‭ ‬الذي‭ ‬يعيده‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬الغناء‭ ‬مع‭ ‬محاولاته‭ ‬المتكررة‭ ‬بكل‭ ‬السُّبل‭ ‬وسعيه‭ ‬لتحقيق‭ ‬رغبات‭ ‬صديقه “ناصر”‬،‭ ‬وإرغامه‭ ‬على‭ ‬الظهور‭ ‬في‭ ‬الصحيفة‭ ‬قسرًا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يظفر‭ ‬بنظرة‭ ‬من‭ ‬محبوبته،‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬كي‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬لحن‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يصل.‭ ‬وتستمر‭ ‬المحاولة‭ ‬مع‭ ‬تحفيزه‭ ‬باختراع‭ ‬لحن‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬يقاسمه‭ ‬عشة‭ ‬الحمام،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تفيض‭ ‬قريحة‭ ‬ناصر‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬مطلع‭ ‬قصيدته: “يا‭ ‬شمس‭ ‬الشموس.. ‬يا‭ ‬صحراء‭ ‬شاسعة”.‬

وكما‭ ‬أن‭ ‬الشمس‭ ‬تفرض‭ ‬طلعتها‭ ‬بلا‭ ‬استئذان،‭ ‬ويزداد‭ ‬حضورها‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭ ‬لانتفاء‭ ‬الظلال،‭ ‬يعيش “ناصر” ‬حياة‭ ‬مكشوفة‭ ‬يطلُّ‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬شاء‭ ‬بأنفه. ‬فليس‭ ‬والده‭ ‬فحسب‭ ‬من‭ ‬يفرض‭ ‬رأيه‭ ‬عليه،‭ ‬بل‭ ‬طبيبه‭ ‬يحاول‭ ‬ذلك‭ ‬أيضًا!‭ ‬فالطبيب‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬إجراء‭ ‬العملية‭ ‬وانتزاع‭ ‬ما‭ ‬أراد‭ ‬من‭ ‬دماغ “ناصر” ‬أمرٌ‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬المريض‭ ‬الانصياع‭ ‬له‭ ‬لتحقيق‭ ‬أهداف‭ ‬الطبيب،‭ ‬ولو‭ ‬أضرّ‭ ‬الأمر‭ ‬بـ “ناصر‭.”

لكن‭ ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬سمع “ناصر” ‬نداء‭ ‬من‭ ‬يحب،‭ ‬وخرج‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭ ‬ليرى‭ ‬السماء‭ ‬تمطر‭ ‬أدمغة‭ ‬كما‭ ‬أمطرت‭ ‬سمكًا‭ ‬أو‭ ‬علقًا‭ ‬للعجوز‭ “‬ناكاتا” ‬بطل‭ ‬رواية “كافكا‭ ‬على‭ ‬الشاطئ”‭ ‬لهاروكي‭ ‬موراكامي؟! ‬والبطلان،‭ ‬ناصر‭ ‬وناكاتا،‭ ‬يشتركان‭ ‬في‭ ‬تصور‭ ‬من‭ ‬التأخر‭ ‬عند‭ ‬من‭ ‬يشاهدهما‭ ‬مع‭ ‬قدرتهما‭ ‬على‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأمور،‭ ‬لكنهما‭ ‬يمتلكان‭ ‬مشاعر،‭ ‬ويعيشان‭ ‬حياة‭ ‬كغيرهما،‭ ‬ولهما‭ ‬من‭ ‬الحق‭ ‬ما‭ ‬للآخرين،‭ ‬ولعل‭ ‬المطر‭ ‬ينبت‭ ‬زرعًا،‭ ‬ويقلب‭ ‬الصحراء‭ ‬مروجًا‭ ‬وأنهارًا‭.‬

الإمساك‭ ‬بالصوت

يكفي‭ ‬فلم “أغنية‭ ‬الغراب” ‬ما‭ ‬يتركه‭ ‬من‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬إثارة‭ ‬الأسئلة‭ ‬وترك‭ ‬مواقف‭ ‬متباينة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬مشاهديه.‭ ‬فالأفلام‭ ‬الجيدة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تترك‭ ‬أثرًا،‭ ‬وأظن‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الفلم‭ ‬منها،‭ ‬فالإشارات‭ ‬التي‭ ‬يسجلها‭ ‬بصريًا‭ ‬كما‭ ‬تملي‭ ‬السينما‭ ‬تستحق‭ ‬التأمل‭ ‬والنظر،‭ ‬كسقوط‭ ‬الأدمغة‭ ‬في‭ ‬ليلة‭ ‬ماطرة،‭ ‬وأمواج‭ ‬النساء،‭ ‬وسباحة “ناصر” ‬ضد‭ ‬التيار‭ ‬مطاردًا‭ ‬حلمًا‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يأبه‭ ‬لاتجاه‭ ‬الموج‭.‬

ويعمد‭ ‬المخرج‭ ‬إلى‭ ‬أغانٍ‭ ‬منتقاة‭ ‬يعيد‭ ‬بعثها‭ ‬في‭ ‬فِلمه،‭ ‬فيختار‭ ‬أغنية “نحلم” ‬لسمير‭ ‬الوادي (مطلق‭ ‬الذيابي)‬،‭ ‬بكلمات‭ ‬غازي‭ ‬القصيبي‭ ‬الفصحى‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬وكأنها‭ ‬من‭ ‬صلب‭ ‬الفلم: “تعالي‭ ‬دقائقَ‭ ‬نحلمُ‭ ‬فيها‭ ‬بنافورةٍ‭ ‬من‭ ‬رذاذ‭ ‬القمر.. ‬بأرجوحةٍ‭ ‬عُلّقت‭ ‬في‭ ‬النجوم.. ‬بأسطورةٍ‭ ‬من‭ ‬حديث‭ ‬المطر”. ‬فالفلم‭ ‬يضع‭ ‬لحنه‭ ‬الخاص،‭ ‬ويتعامل‭ ‬مع‭ ‬محيطه‭ ‬وزمنه،‭ ‬ويترك‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬التجربة‭ ‬الشخصية‭ ‬لمخرجه‭ ‬الذي‭ ‬يعكس‭ ‬حقبة‭ ‬زمنية‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬التأريخ‭ ‬لها،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يغفل‭ ‬عن‭ ‬تمرير‭ ‬ما‭ ‬تبدل‭ ‬مع‭ ‬الزمن،‭ ‬مثل‭ ‬عناية‭ ‬صاحب‭ ‬الفندق‭ ‬ببطاقة‭ ‬العائلة،‭ ‬وأما‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬بعدها‭ ‬فلا‭ ‬دخل‭ ‬له‭ ‬به‭!‬

وثّق‭ ‬الفلم‭ ‬أغنية “حمامة‭ ‬الغرام” ‬في‭ ‬شريط‭ ‬لم‭ ‬نسمعه،‭ ‬وترك‭ ‬الأمر‭ ‬للمشاهد‭ ‬ليكمل‭ ‬رحلة‭ ‬الاستماع. ‬شأنه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬شأن‭ ‬إكمال‭ ‬اللوحات،‭ ‬فما‭ ‬الفلم‭ ‬سوى‭ ‬حلم‭ ‬يريد‭ ‬للمشاهد‭ ‬أن‭ ‬يدخله. ‬ولأن‭ ‬المرء‭ ‬عندما‭ ‬يستيقظ‭ ‬من‭ ‬الأحلام‭ ‬لا‭ ‬يتذكر‭ ‬كل‭ ‬تفاصيلها،‭ ‬فيؤلف‭ ‬حلمًا‭ ‬لم‭ ‬يره،‭ ‬أو‭ ‬يرمم‭ ‬حلمًا‭ ‬رآه‭ ‬بأحداث‭ ‬لم‭ ‬تكتمل،‭ ‬كذلك‭ ‬يفعل‭ ‬هذا‭ ‬الفلم‭ ‬معتمدًا‭ ‬على‭ ‬التباين‭ ‬في‭ ‬تلقي‭ ‬المشاهدين. ‬فمن‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬جماليات‭ ‬غرائبية‭ ‬الحلم،‭ ‬ودائرة‭ ‬البدء‭ ‬والنهاية،‭ ‬والدخول‭ ‬في‭ ‬دوامة‭ ‬ولفائف‭ ‬دماغ “ناصر”‬،‭ ‬سيرى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفلم‭ ‬جاذبية‭ ‬تذكره‭ ‬بسلطنة “فيليب‭ ‬سوبو” ‬وتعامله‭ ‬مع‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬الأفلام،‭ ‬إذ‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يجذبه‭ ‬في “الأعمال‭ ‬السينمائية،‭ ‬بدرجة‭ ‬أكبر،‭ ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬الشعر‭ ‬الغريب،‭ ‬الجو‭ ‬الغامض،‭ ‬المتضمن‭ ‬في‭ ‬الأفلام”.‬

أما‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬متعة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬القدر‭ ‬من‭ ‬الغموض‭ ‬اللطيف،‭ ‬فقد‭ ‬يلاحظ‭ ‬نقصًا‭ ‬مثل‭ ‬غياب‭ ‬العنوان‭ ‬و “أغنية‭ ‬الغراب” ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يسمعها،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬الأغنية‭ ‬وُضعت‭ ‬معادلتها‭ ‬ولحنها‭ ‬لتسمعها‭ ‬بطريقتك. ‬فـ “بيتهوفن” ‬استمدّ‭ ‬سيمفونيته‭ ‬الخامسة‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬الشخصية،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬يتهرب‭ ‬من‭ ‬مالك‭ ‬بيته‭ ‬فصادفه‭ ‬ذات‭ ‬يوم؛‭ ‬فاختبأ‭ ‬داخل‭ ‬البيت‭ ‬واهمًا‭ ‬أن‭ ‬المالك‭ ‬لم‭ ‬يره،‭ ‬فأخذ‭ ‬المالك‭ ‬يطرق‭ ‬على‭ ‬الباب‭ ‬بقوة‭ ‬أربع‭ ‬طرقات‭ ‬عنيفة‭ ‬كانت‭ ‬مفتاح‭ ‬نغمة‭ ‬سيمفونيته‭ ‬الخالدة. ‬فمن‭ ‬الحياة‭ ‬نستمد‭ ‬لحننا،‭ ‬و “أغنية‭ ‬الغراب” ‬لا‭ ‬تخرج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬النسق،‭ ‬بطرقات‭ ‬القدر‭ ‬على‭ ‬رأس “ناصر”‬،‭ ‬وبمفتاح‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬التحضير،‭ ‬فطرقات “المرزبة” ‬منذ‭ ‬افتتاح‭ ‬الفلم‭ ‬متتالية‭ ‬وجديرة‭ ‬بالإصغاء،‭ ‬وما‭ ‬على‭ ‬المشاهد‭ ‬سوى‭ ‬موسقة‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬الأحلام‭ ‬وتمشيطها‭ ‬بيقظته‭.‬