
ملاحظة من المحرر
كيف كانت تبدو الظهران قبل أكثر من تسعين عامًا؟ المدينة التي تحوّلت من هضبة مجهولة إلى مركزٍ حيٍّ للمعرفة والعمل والإنسان! وهي المكان ذاته الذي شهد بعد عقدين ولادة مجلة القافلة -تحديدًا في عام 1953م- لتصبح نافذة ثقافية تطلّ على العالم العربي، وتعكس روح المكان الذي انطلقت منه. في هذه المقالة يعود الأستاذ غيث الشايع بالذاكرة تسعين عامًا ليسرد بدايات تشكل مدينة الظهران مقر شركة أرامكو السعودية ومجلة القافلة.
في 28 سبتمبر 1933م، وصل الجيولوجيان، بيرت ميلر وكرُوغ هنري مع مهندس التعدين كارل تويتشل، إلى هضبةٍ واسعةٍ على الساحل الشرقي من شبه الجزيرة العربية. امتدّت فوقها أرضٌ مرتفعةٌ تعلو السهول المحيطة بها تدريجيًّا، تُتوّجها كتلةٌ صخرية مهيبة تُعرف اليوم بجبل "أم الروس"، ذلك المَعْلم الطبيعي البارز الذي تتصدّره مجموعةٌ من قمم مستديرة نحتتها الرياح عبر الزمن. وقد اشتُقّ اسم الجبل من شكله الفريد، إذ يعني "أمّ الرؤوس" في إشارةٍ إلى تعدّد قممه التي تبرز على الأفق علاماتٍ يهتدي بها المسافرون منذ القدم.
سأل الجيولوجيون مرافقيهم من الأدلّاء المحليين عن اسم هذا الموقع المرتفع، فأجابوهم: اسمه الظهران -أي المرتفِع أو الظاهر فوق ما حوله- وهي كلمة من الجذر العربي "ظَهَر" الذي يدلّ على الارتفاع والبروز. ومنذ تلك اللحظة، ترسّخ هذا الاسم ليصبح الهوية الأولى للموقع الذي بدأت منه قصة استكشاف النفط في المملكة العربية السعودية.

صورة جوية لمخيم الظهران مع قبة الدمام والبئر رقم 1 في مارس عام 1935م.
وبعد إتمام بناء برج الحفر، وجّه هينغي جهوده نحو إنشاء مخيّم دائمٍ لدعم عمليات الاستكشاف المتزايد، فمسح المنطقة المحيطة بجبل أم الروس ودرس تضاريسها، ثم اختار الأرض المنبسطة في الجانب الجنوبي من الجبل لتكون موقعًا مثاليًّا للبناء. وبدأ في تخطيط اتجاهات المباني الأولى وفق فهمٍ عملي لبيئة الصحراء. وقد خطّط المباني على محورٍ يمتد من الجنوب إلى الشمال، بحيث تكون الواجهات الضيقة هي المواجهة للشمس عند شروقها وغروبها، مما يقلّل تعرّض الجدران للحرارة خلال ساعات النهار الطويلة. كما ساعد هذا التوجيه في تعزيز حركة الهواء الطبيعية عبر المخيّم، وهو عاملٌ ضروري قبل وصول تقنيات التبريد الحديثة. كانت تفاصيل بسيطة، لكنها تعكس دقّة التخطيط الذي شكّل البصمة الأولى للظهران.

من اليسار: الجيولوجيان ماكس ستاينكي وبيرت ميلر، ملاحظ أعمال الحفر جاي «سليم» ويليامز، ومشرف أعمال الإنشاء والت هينجي، وثلاثة من زملائهم يتوقفون أثناء بحثهم عن أفضل موقع لحفر أول بئر في قبة الدمام عام 1934م.
وبالاعتماد على مواد محلية، مثل صخور الفروش البحرية والجبس، مع كميات محدودة من الخشب المستورد، بنى هينغي وفريقه أول مبانٍ دائمة في الظهران، وهي مبانٍ بسيطة لكنها متينة تجمع بين العملية والصلابة. وقد أُقيم هذا المخيّم في الموقع الذي تقف فيه اليوم أبراج المنيرة السكنية، لتكون شاهدةً حيّة على الأرض التي شكّلت بداية حيّ الظهران.

التُقطت هذه الصورة الجوية في مايو 1950م لمنطقة الظهران القديمة، في الموقع الذي توجد فيه أبراج المُنيرة الآن.

أشهر المدارس الأولى هي مدرسة الجبل، التي افتُتحت عام 1941م في الحي الذي كان يعيش فيه العمال السعوديون، وفي أبريل 1944م، انتقلت مدرسة الجبل إلى هذا المبنى الذي شيده والتر هينجي ومن معه من الصخور المرجانية والجص وبُني كسكن في منتصف الثلاثينيات كجزء من حي الظهران السكني.

وُلد والتر روبرت هينغي في كاليفورنيا عام 1900م، وبعد سنواتٍ من العمل في المملكة عاد إلى بلده ليستقر في إنغلوود، كاليفورنيا، حيث توفي في 28 أكتوبر 1962م، عن عمرٍ ناهز اثنين وستين عامًا. وعلى مرّ العقود، ظلّ أثره حاضرًا في الظهران؛ في مبانٍ شُيّدت بيده، وفي عمّالٍ سعوديين تعلّموا منه أولى دروس البناء، وفي مدينةٍ تحوّلت من رمالٍ ساكنة إلى رمزٍ للطاقة والريادة السعودية.

صورةٌ تعود إلى عام 1936م، وتُظهر أول تخطيطٍ للمنطقة المركزية في الظهران، وتضمّ المستشفى، والمكاتب، والسكن، ومحطة الكهرباء، ومنازل المشرفين، والمستودعات. وهي النواة التي انطلقت منها مدينة الظهران الحديثة.

صورة جوية حديثة ويظهر فيها إشارة لأول موقع لمخيم في الظهران عام 1935م