
نُشرت هذه المقالة بالشراكة مع مجلة إثرائيات
بقلم ريم الغزال
"أجمل ثلاثة مشاهد: حديقة بطاطس نضرة، وسفينة مبحرة، وامرأة بعد وضع مولود ..." - مثل إيرلندي.
ما الذي يجعل البطاطس ملهمة للحدس الفنِّي ومؤثرة في المقالات البحثية والفلسفية؟ شكّلت هذه الثّمرة المتواضعة إلهامًا للعديد من الفنانين المبدعين فانعكست صورتها على أعمالهم الفنِّية، وأكثرهم شهرة لوحة "آكلو البطاطس" للفنّان فينسنت فان جوخ.
كتب فان جوخ في خطاب إلى أخيه ثيو، بتاريخ 30 أبريل 1885م: "رسمُ حياة الفلاحين أمرٌ مهم، ولو لم أحاول صنع لوحات تثير تفكير الناس الذين يتأملون الفن والحياة بجدية، لكان ذلك تقصيرًا مني" .
من خلال تلاعبه بالألوان الدَّاكنة، وتجسيده للعظام البارزة، وتعقبه للخطوط الغائرة والتفاصيل الصغيرة بدقة، يصورُ فان جوخ حياة الفلاحين الكئيبة والقاسية ليخطف أحزانهم بإتقان فنِّي.
وفقًا لما صرح به متحف فان جوخ، تتجسَّد لوحة "آكلو البطاطس" تحفةً فنية مبدعة، حيث اختار الفنان، بتمريرة ساحرة، رسم تكوينٍ صعبٍ، بهدف إثبات مهارته. جسَّدت اللوحة حقيقة حياة الريف القاسية، فأكسبت وجوه الفلاحين ملامح خشنة وأيدي نحيلة مجهدة، لتبدو هيئتهم في اللوحة كأنهم "من حرثوا الأرض بأيديهم المجهدة، التي يضعونها الآن في الطبق... ليؤكد بصدق أنهم استحقوا طعامهم بجهد واضح"، كما صاغ من الشخصيات الخمس ألوان الأرض، "تلك الألوان التي تشبه لون البطاطس المغطاة بالغبار، تمامًا كأنها لم تُقشَّر أبدًا".
"كانت رسالة اللَّوحة أهم عند فان جوخ من رسم تشريح صحيح أو عمل متقن إتقانًا كاملًا. كان فخورًا بالنتيجة، إلا أن اللوحة واجهت انتقادات كبيرة بسبب ظلام ألوانها ووجود بعض الأخطاء في الرسم. ولكن الآن، تُعدُّ لوحة "آكلو البطاطس" واحدة من أشهر أعماله التي تألَّقت في العالم الفنِّي.

“آكلو البطاطس" لفينسينت فان جوخ (1853م – 1890م)، نوينين، أبريل-مايو 1885م زيت على قماش ، 82 سم × 114 سم. شكر وتقدير: متحف فان جوخ، أمستردام (مؤسسة فينسينت فان جوخ).
وُجدت أعمال فنِّية كثيرة جسدت علاقتنا المتشابكة مع هذا المحصول، مع صعوبة إحصائها في وقت واحد.
نورد فيما يلي، عشرة أعمال مرموقة تُبرِز البطاطس بشكل كبير:
1. فنسنت فان جوخ - "آكلو البطاطس" (1885م)
2. جان فرانسوا ميليه - "حصاد البطاطس" (1855م).
3 - جاسيك ييركا - "رافعات البطاطس" (1988م).
4. هوراسيو كيروز - "بطاطس مع الغليون" (2019م).
5. جورج روولت - "مقشرة البطاطس" (1901م).
6. كازيمير ماليفيتش - "لا تزال الحياة مع السمك والبطاطس" (1913م).
7. نيكولاي جريجوريسكو - "الفلاحات مع التفاح والبطاطس" (1880م).
8. إيلكا جيدو - "بطاطس في وعاء" (1980م).
9. يانوس فاسزاري - " امرأة تقشر البطاطس" (1920م).
10. جولز باستين ليباج - "أكتوبر (بالفرنسية - Saison d’October)" (1878م)، يُعرف أيضًا باسم "قطف البطاطس" (récolte des potatoes) أو "جامعو البطاطس" أو "امرأة تجمع البطاطس".
ربما تكون البطاطس، على بساطتها، من أكثر الخضار انتقالًا بين دول العالم، وهي نوع عزيز ومحبوب في مختلف الثقافات، وغالبًا ما ترمز إلى العزيمة والبقاء والحنين إلى الماضي والبهجة العارمة. وبفضل صلابتها وقوتها، تجري الكثير من الأبحاث لنقلها إلى الكواكب البعيدة كالمريخ، لتعطي قصصًا جديدة للاكتشاف والإلهام.

أنشأ المركز الدولي للبطاطس خريطة توضح الحركة العالمية لها منذ نشأتها في جبال الأنديز (شكر وتقدير: للمركز الدولي للبطاطس)
في بعض التّقاليد، مثل الكيتشوا -وهم هنود أمريكا الجنوبية الذين يعيشون في مرتفعات الأنديز من الإكوادور إلى بوليفيا- فإن للبطاطس دور مهم في الزَّواج. يقال إذا أراد الرجل أن يتزوج امرأة، فإنَّ والدة العريس تقدم للعروس قطعة بطاطس تُعرف بقدرتها على "جعل زوجة الابن تبكي". بعد ذلك، عليها أن تقشر بعناية حبَّة البطاطس التي يشبه شكلها كوز الصنوبر، وإذا أزالت منها أكثر مما ينبغي، فلن يُسمح لها بالزواج من ابنها.
في تقاليد أخرى، تتعلّق البطاطس بآلهةٍ، أو بالأحرى بآلهتين؛ أم وابنتها مرتبطتين بزراعة البطاطس وحصادها. تُظهر المجتمعات احترامًا للأرض والمحاصيل التي تعيش عليها عبر تقديم قربانٍ من البطاطس والمحاصيل الأخرى لـ "باشاماما"، أو أم الأرض. إنها أشهر آلهات البطاطس في الأساطير الإنكية. كان الإنكييون يَدعون ابنتها "أكسوماما"، والمعروفة أيضًا باسم "أم البطاطس"، لتُبارك حصادهم وتمنحهم وفرة من محصول البطاطس.

جان فرانسوا ميليت - "حصاد البطاطس" (1855م). ألوان زيتية على قماش، بإذن من متحف والترز للفنون.
من الأعراف إلى الأساطير، رحلة البطاطس عبر التاريخ هي رحلة عميقة ومتعدِّدة المراحل. تعود أصول كلمة "potato" إلى الكلمة الإسبانية "patata"، المشتقة من كلمة التاينو "batata". و"التاينو" هم السكان الأصليون لمنطقة البحر الكاريبي، حيث كانت تُزرع البطاطس.
ترجع الأهمية الثقافية والتاريخية للبطاطس إلى أصولها في منطقة الأنديز بأمريكا الجنوبية. يُعتقد أنَّه في الفترة التي تعود إلى 8000 إلى 5000 قبل الميلادبدأ السكان الأصليون الذين يعيشون في البيرو وبوليفيا بتدجين البطاطس. في العصر الحديث، لم تكُن البطاطس فقط مصدرًا رئيسًا للغذاء فحسب، بل أيضًا سلعة قيِّمة تمكّن التفاعل الاجتماعي بين الثقافات في مراحل مبكرة من التاريخ.
دَخلت البطاطس إلى القارة الأوروبية في النِّصف الثاني من القرن السادس عشر على يد المستكشفين الإسبان، وسرعان ما أصبحت مادة غذائية أساسية بسبب قدرتها على النمو في ظروف صعبة واحتوائها على قيمة غذائية عالية. من هناك، انتقلت البطاطس إلى أجزاء مختلفة من العالم، بما في ذلك البلدان العربية. ولا يوجد تاريخ محدَّد للمرة الأولى التي وصلت فيها البطاطس إلى البلدان العربية، ولكن يعتقد أنها جُلبت بين أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، عن طريق التِّجارة والتبادل الثَّقافي.
اكتسبت البطاطس شعبية تدريجية في البلدان العربية بسبب تنوعها وقدرتها على التَّكيف مع المناخات المختلفة، وخاصة المناطق القاحلة. وأصبحت طعامًا أساسًا في العديد من الدُّول العربية، فهي تندمج ببراعة في الوجبات لتصبح مكوِّنًا رئيسًا ، أو مكمِّلًا جانبيًّا لبعض الأطباق التَّقليدية.
في المطبخ العربي، تستخدم البطاطس بطرق متنوعة، مثل استخدامها في الحساء والسلطة والأطباق المقلية أو المخبوزة. كما تدخل البطاطس في بعض الأطباق العربية المشهورة؛ مثل البطاطس الحارة (البطاطس الحارة بالثوم والكزبرة)، البطاطس چاب (كرات البطاطس المقلية مع اللحم المفروم)، والكبة (كفتة البطاطس المحشوة). كما أنها تُستخدم حشوةً لبعض المأكولات مثل السمبوسة والمعجنات المالحة.
حفرت البطاطس اللذيذة طريقها إلى الثّقافات العربيّة والعالميّة، ولم يقتصر أثرها في المطبخ فحسب، بل امتد إلى حقول الزراعة ومصادر الدخل والغذاء. كما حاكت البطاطس أثرها في تاريخ الإنسانية، وما زالت تحتفظ بدور أساس ساحر في المأكولات العالمية.
يقول مثل أيرلندي معروف: "Ar scáth a chéile a mhaireann na prátaí".
ويعني: "البطاطس تأوي بعضها بعضًا فتدوم"، أي أنّه بالعمل المشترك يمكن للجميع أن يتحمَّلوا الأوقات الصعبة، ويتغلبوا على التحديات، ويحققوا النجاح المشترك، تمامًا كما تزدهر البطاطس وتنمو عندما تُزرع معًا في التربة نفسها.
طباعة حجرية على ورق، 31.2 سم × 39.6 سم
شكر وتقدير: لمتحف فان جوخ أمستردام (مؤسسة فينسينت فان جوخ).