Hero image

الولع البرتغالي الدائم بصناعة البلاط

يوليو 20, 2025

13 دقيقة

شارك

تم نشر هذه المقالة بالشراكة مع AramcoWorld

يتأمل زوجان يابانيّان شابان معروضات باللون الأبيض والأزرق عبر الواجهة الزجاجية لمتجر «سيراميكا فيسنتي»، فيلمحان خلف البلاطات الشاب ميغيل مورا، البالغ من العمر 32 عامًا، وهو يضغط الطين الطري بأطراف أصابعه، مشكلًا إيّاه في قالب من الجص.

هذان السائحان ليسا إلا اثنين من بين مئات الزوّار المتوافدين يوميًّا على المشغل الصغير النابض بالحياة لميغل، في حي ساو فيسنتي (São Vicente) العصري بلشبونة، الواقع على مسافة قصيرة سيرًا على الأقدام من مطاعم الفادو الشهيرة وقلعة القديس جورج.

يقول مورا: «الأمر يتطلب توازنًا دقيقًا بين استقبال الزوّار وتفرُّغ فريقنا الصغير للإنتاج»، وما إن ينهي حديثه حتى يقاطعه طارقٌ آخر على الباب. ويتابع موضّحًا، أنّ بعض الطلبات التي يتلقاها تشمل آلاف القطع من البلاط، وقد يستغرق تنفيذها ما بين ثلاثة إلى ستة أشهر.

معروضات من المتحف الوطني للبلاط في لشبونة، البرتغال، تشمل -من اليمن إلى الشمال- الصورة الأولى لزخارف قماشية نُفِّذت ما بين عامي 1500م – 1525م، باستخدام طريقة «كويردا سيكا» (الحبل الجاف)، المُبتكرة في الشرق الأوسط؛ والصورة الثانية بلاط من مدينة إشبيلية الإسبانية صُنع بطريقة القوالب حوالي عام 1500م – 1510م.

يُعد البلاط البرتغالي، المعروف محليًّا باسم أزوليجوس (azulejos) -وهي كلمة مشتقة من العربية «الزليج»، وتعني الحجر الصغير المصقول- من أرقى أشكال الموروث الفني البرتغالي.

دأبت الورش المتخصِّصة والمصانع التجارية، على حدٍّ سواء، على تزيين الشقق والكنائس ومحطات المترو والمسارح، وكل نوع من الأسطح تقريبًا في مختلف أنحاء البلاد، بأشكالٍ من البلاط، بداية من البلاط ذي الألوان الزاهية النابضة، إلى البلاط المُزخرف برسومٍ تفصيليّة للملائكة والزهور.

ولكن ما يميز مورا عن أقرانه أنه يستخدم تقنيةً نادرة، تعود إلى زمنٍ مضى، وهي طريقة تستحضر بدايات الشغف البرتغالي بصناعة البلاط، الذي بدأ بعد زيارة ملكية إلى مدينة إشبيلية الإسبانية عام 1498م.

 

«صناعة البلاط على الطراز الموري أمر نادر، ولم يعُد يمارسه غير قلّة من الناس».

متحف في لشبونة يسلط الضوء على تاريخ البلاط

في كل عام، يتجوّل مئات الآلاف من الزوار في قاعة ذات إضاءة خافتة بمتحف البلاط الوطني (Museu Nacional do Azulejo) في لشبونة، دون أن يدرك الكثير منهم، إن لم يكن معظمهم، أنهم أمام آثار واحد من أكثر القرون تأثيرًا في تاريخ الفن البرتغالي.

تحتاج المشرفة الرئيسة على المتحف، كونستانسا ليما، إلى نحو خمسين خطوة فقط لتقطع المسار الزمني الكامل لتاريخ هذا الفن البرتغالي، الذي يبدأ بفسيفساء ضخمة على الطراز الموري يصل ارتفاعها إلى قرابة ثلاثة أمتار، وتزدان بنقوش هندسية خالية تمامًا من أي تصاوير للبشر. ثم ينتهي المسار الزمني بعرض جداري لأيقونات مسيحية.

تقول ليما وهي تشير إلى بداية المعرض: «هذه واحدة من أقدم النماذج التي لدينا عن صناعة البلاط في الحقبة الإسلامية في البرتغال، التي بدأت عندما زار الملك مانويل الأول مدينة إشبيلية وقصر الحمراء في أواخر القرن الخامس عشر»، بعد فترة وجيزة من انتهاء الحكم العربي لشبه الجزيرة الإيبيرية الذي دام نحو ثمانية قرون وحتى عام 1492م.

وقع الملك البرتغالي في غرام الفن الموري في صناعة البلاط الخزفي الذي يُنتَج جزئيًّا بطريقة يسميها الإسبان «الأليكاتادو». وتوضح ليما أن هذه الطريقة كانت تقوم على تقطيع البلاط المصنوع من الطين، بعد أن يُطلى ويُخبز في الفرن، إلى قِطَعٍ دقيقة، ثم يُرصّ بعناية في الملاط لتشكيل تصاميم مثل الأعمدة المخروطة وبتلات الزهور وأوراق الشجر وعروق أوراق الشجر.

 

ميغيل مورا، صانع البلاط من الجيل الثالث، يعمل على تصميم بلاط على الطراز الموري في ورشته في لشبونة.

بعدما عاد الملك مانويل الأول إلى البرتغال، كلّف الموريسكيين -وهم قبائل المور (من المغرب العربي)، الذين أُجبروا على اعتناق المسيحية أو مواجهة المنفى في إسبانيا- بصناعة بلاط لتزيين جدران قصره في مدينة سينترا، الواقعة على مقربة من لشبونة.

واللافت، كما تشير الباحثة رافائيلا شافيير من جامعة لشبونة، المتخصصة في صناعة البلاط في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أن المور قد شحنوا البلاط الخزفي من إسبانيا إلى البرتغال بطلب من الملك مانويل الأول، ولكن لا توجد أي أدلة تُثبت أنهم أنتجوا سابقًا هذا النوع من البلاط داخل البرتغال نفسها، خلال فترة حكمهم للمنطقة التي استمرت نحو خمسة قرون وانتهت فعليًّا عام 1249م.

كتبت شافيير في رسالة إلكترونية: «لا توجد أي دلائل على وجود صناعة للبلاط خلال فترة الحكم الموري للبرتغال». وأضافت: «لكنْ هناك آثار لصناعة السيراميك في مناطق مختلفة من البلاد، مثل بلدة ميرتولا»، في إشارة إلى آلاف القطع الفخارية التي تعود إلى الحقبة المورية، والتي عُثر عليها في أثناء أعمال الحفر في القرية.

وعوضًا عن ذلك، ازدهرت صناعة البلاط المستوحاة من العمارة الإسلامية في البرتغال تحت حكم ملك مسيحي. وتضيف ليما: «ولكن لم تكن لهذا البلاط دلالة دينية لدى البرتغاليين، ولعل هذا كان السبب الرئيس في انتشاره الواسع بين الطبقة الأرستقراطية في البلاد.»

حتى متحف البلاط الوطني الذي بُني ديرًا كاثوليكيًّا عام 1509م، تحت اسم مادري دي ديوس (Madre de Deus)، تتزيّن جدرانه المؤدية إلى كنيسته ببلاط موري.

تكاد زخارف الكنيسة الداخلية المُصمَّمة على الطراز الباروكي المُبهرَج المُزْدَان بنقوشٍ خشبية غائرة مذهّبة، أن تطغى على الزخارف النباتية المتكرّرة، المنقوشة على قطع السيراميك بالأحمر والأخضر والأزرق. ويمكننا، من خلال قراءة أدبية للتاريخ، اعتبار تجاور النقيضين هذا، كان إيذانًا بما آلت إليه البرتغال من انصراف سريع نسبيًّا عن الذوق الفني الموري.

 

جدران وسلالم مبلّطة ترحب بأحد زوار المتحف.

البلاط (الزليج) الموري وأنواع أخرى من البلاط

لا يمكن المبالغة في أهمية صناعة البلاط الموري خلال الخمسمائة عام الماضية في الثقافة البرتغالية، فقد اصطدمت الزخارف التي تميّزت بها، فورًا، مع الأذواق الأوروبية التقليدية آنذاك.

في الفترة ما بين تسعينيات القرن الخامس عشر وعام 1527م، كانت أوروبا تعيش أوج العصر الذهبي للنهضة الإيطالية. فقد كانت الأعمال الأسطورية لمايكل أنجلو وليوناردو دافنشي ورافائيل تلقى رواجًا كبيرًا في ذلك الوقت. وأخذت القارة الأوروبية تبتعد عن الفن التجريدي القوطي، وتتجه نحو رسومات أكثر واقعية لأشخاص في وضعيات ديناميكية، بالإضافة إلى وفاة الملك مانويل الأول توفي عام 1521م. تقول ليما: «في تلك الفترة تقريبًا بدأت الطلبات البرتغالية على البلاط الموري تتضمن رسومات للزهور والخضروات والحيوانات والبشر».

ولتأكيد ما تقول، تخطو ليما بضع خطوات على طول الخط الزمني في المعرض الذي يوضّح تسلسل صناعة البلاط الموري، لتكشف عن بلاط يختلف اختلافًا واضحًا عما رآه الملك البرتغالي خلال زيارته إلى إشبيلية. فمع أن الأشكال الهندسية لا تزال موجودة، أصبح التركيز منصبًا على الرسوم الكاريكاتورية للكائنات الحية.

كما أن عملية صناعة البلاط قد تغيرت جذريًّا أيضًا.

 

البلاط يزين العديد من المباني في لشبونة.

اختفت طريقة الأليكاتادو، التي كانت تتطلب جهدًا ووقتًا كبيرين، وحلّت محلها طريقة أريستا الإسبانية-الموريسكية (وتعني «النتوءات» أو «الحواف البارزة» بالإسبانية)، التي تقوم على ضغط الطين الطري في قوالب مربعة. ومع أن العمل على بلاطة كاملة سليمة كان أكثر فعّالية من عمل فسيفساء من قطع صغيرة، لم يكن يضاهي ما ستنتجه فلورانسا لاحقًا.

تقول ليما: «في منتصف القرن السادس عشر، طوّر الإيطاليون طريقة المايوليكا (maiolica) لصناعة البلاط على نحوٍ أكثر سرعة وأقل تكلفة»، فبدلًا من ملء التجاويف بالسائل الشفّاف اللامع، أصبح بإمكان الخزّافين أن يدهنوا الفخار بالسائل مباشرة من الخارج، والتعامل معه كما لو كان لوحة قماشية. ولم تُسهم هذه الطريقة في إنتاج البلاط على نطاق واسع فحسب، بل مكّنت البرتغاليين أيضًا من اللجوء إلى مصانع أخرى في أوروبا.

وفي السنوات التي تلت ذلك، بدأ فنانون فلمنكيون في إنتاج البلاط البرتغالي، واعتمدوا فيه بدرجة كبيرة على اللونين الأبيض والكحلي، اللذين اشتهر بهما البورسلين الصيني. وقد شكّل هذا التحول قطيعة تامة مع الطراز الموري، ولا يزال هذا الأسلوب يحظى بشعبية حتى يومنا هذا.

 

البلاط الموري يظهر تحت نافذة في كنيسة «مادري دي ديوس» داخل متحف البلاط الوطني.

«الفسيفساء المعروضة في افتتاح المعرض هي من أقدم النماذج التي نملكها لفن صناعة البلاط في العصر الإسلامي في البرتغال».

البلاط جزءًا من التراث الفني الإسلامي

تقول شافيير إن أول إنتاج وطني للبلاط في البرتغال لم يبدأ إلا بعد بضعة عقود من ابتكار تقنية المايوليكا، ولم يَستخدم الزخارف التي استخدمها الموريّون إلا النّزر اليسير.

وتقول شافيير: «بعض مصانع البلاط اليوم، مثل (Viuva Lamego)، تنتج بلاطًا يعيد إلى الأذهان ذكرى البلاط الموري»، وتضيف: «لم يعد هناك وجود كبير للبلاط الموري في الوسط الفني».

في هذه الأثناء، تتناثر على طاولة عمل مورا، أكاسيد النحاس والمنغنيز، والكوبالت، ومعادن مثل القصدير والحديد، لتنتج لوحة ألوان لا نهاية لها.

وبعد أن حرق مورا الطينَ سابقًا، في الجزء المجوف من القالب في فرن تصل حرارته إلى نحو 980 درجة مئوية (1800 درجة فهرنهايت)، يصب الآن ألوانًا خضراء وزرقاء وسوداء وعسلية في الشكل المضلع الناتج -وهو أحد الأشكال الهندسية البارزة التي اشتهرت بها قصور بني نصر، الموجودة في المجمع الإسلامي للفنون والثقافة في قصر الحمراء بمدينة غرناطة الإسبانية.

يقول مورا: «إنه البلاط المفضل لدي. فيه الكثير من البهجة». «يجب أن أستخدم يدي في العمل ... وأنا بالفعل أحب التأثير الذي دخل عليه من القرن الخامس عشر. وهو شيء لا يقوم به الكثير من الناس».

يقول مورا إنه يصنع هذا النوع من البلاط منذ أن كان طفلًا: «أنا أنتمي إلى الجيل الثالث من صانعي البلاط، وأعتقد أنني لم أملك الخيار حقًا»، فيما تنظر إلينا والدته، كريستينا باين، البالغة من العمر 72 عامًا، من وراء حامل لوحات الرسم وهي عاكفة على رسم زخرفة نباتية.

بالنسبة إليه، محاكاة هذه الطريقة المورية العائدة إلى قرون مضت، ليست مجرد شكل من أشكال الفن، بل نوع بسيط من التمرد بدأ قبل عشر سنوات. يقول: «ذهبت إلى إسبانيا لبضعة أشهر حيث كان صديقي يمتلك استوديو بالقرب من إشبيلية. كنت أرغب في تعلم شيء مختلف عن أسلوب والدتي التقليدي بالأزرق والأبيض الذي يعود إلى القرن الثامن عشر».

إتقان مورا لهذا التخصص النادر فتح له باب التعاون مع شركات في منطقة الغارف جنوب البرتغال، تعمل على ترميم قصور قديمة مغطاة بالبلاط الموري. ولكنه مع ذلك، وفي لمسة وفاء لوالدته، يشير إلى أن أسلوب صناعة البلاط المستوحى من القرن الثامن عشر هو ما يبقي عمل العائلة مربحًا حتى اليوم.

ويؤكّد مورا، بصفته فنانًا، أن تحقيق الأرباح لن يكون دافعه للعمل في الثلاثين عامًا القادمة. يقول: "بالتأكيد، ليس هذا هو أساس عملي، ولكني لا أريد أن أشعر وكأنني أعمل في مصنع ينتج ملايين البلاطات المتطابقة الشكل. أريد أن أصنع شيئًا فريدًا ومميزًا. إنه شيء أفعله ليظل هذا التقليد حيًّا".

 

بقلم: جاك زاهورا.

تصوير: تارا تودراس-وايتهِل.