Hero image

مبيت وحِرفة

يوليو - أغسطس | 2025

يوليو 2, 2025

5 دقائق

شارك
ترسم التحولات المتسارعة في نمط الحياة ملامحها على إرث الحرف التقليدية في اليابان، الذي بات يواجه تحديات غير مسبوقة مع تزايد وتيرة التحضر، والانخفاض الحاد في عدد السكان. 

عوامل عديدة مجتمعة باتت تهدد بقاء كثير من الحرف اليدوية التقليدية التي لطالما عُرفت بها اليابان؛ إذ تشير الإحصاءات إلى تراجع كبير في مبيعات هذه الحرف، التي كانت قد بلغت ذروتها في عام 1975م، قبل أن تأخذ في التراجع منذ ذلك الحين، إلى أن وصلت اليوم إلى خُمس مستواها السابق، كما انخفض عدد الحرفيين خلال الفترة نفسها إلى الثُلث تقريبًا.

يرمي هذا الصراع بين الحداثة والمحافظة على التراث، بظلاله على مدن عديدة صغيرة، أبرزها مدينة إينامي في محافظة توياما، التي أصبحت رمزًا لهذا الصراع. ففي هذه المدينة الصغيرة، التي لا يتجاوز عدد سكانها 8000 نسمة، يعمل نحو 150 شخصًا في مجال نحت الخشب؛ إذ تراجعت أعمالهم بشكل كبير في السنوات الأخيرة، بعد أن كانت هذه الحرفة يومًا ما مصدر فخر لسكانها، وعامل ازدهار للمدينة برمَّتها. 
وسط هذه الظروف الصعبة، ظهرت مبادرات مبتكرة تهدف إلى إحياء الحرف التقليدية وإعادة إنعاشها من جديد، من أبرزها مشروع فندق "مبيت وحِرفة"، الذي أسَّسه شخص يُدعى "توموتسوغو ياماكاوا" عام 2016م في مدينته إينامي. لا يرتكز هذا الفندق على مفهوم الفندقة التقليدية، بل جاء بفكرة جديدة لدعم الحرفيين المحليين عبر تحويل منازل ومبانٍ تاريخية إلى فلل للضيافة، تُتيح للزوَّار تجربة إقامة من نوع آخر. فكل واحدة من تلك الفلل تمثِّل معرضًا خاصًا لأعمال أحد الحرفيين في المدينة، حيث الأثاث والديكور، حتى الأواني، هي إبداعات فريدة تروي قصة صانعها.

في هذه الفلل، لا يقتصر دور الضيف على الاستمتاع بجماليات المكان فحسب، بل يُدعى ليصبح جزءًا من العملية الإبداعية نفسها؛ إذ يُمكنه الانخراط في ورش عمل حيَّة، يتعلَّم فيها أسرار النحت على الخشب، والطلاء بالورنيش، ومختلف تقنيات التصنيع، تحت إشراف أساتذة مهرة توارثوا الحرفة عبر أجيال. في الصباح، قد يجد الضيف نفسه ينحت ملعقة خشبية بتوجيه مباشر من أحد النحَّاتين، وفي المساء يشارك في تزيين عيدان تناول الطعام بطبقات الورنيش اللامعة، من خلال ورش مُصمَّمة لتناسب جميع المستويات، من المبتدئ إلى المحترف، وتمنح كل زائر تذكارًا شخصيًا وتجربة لا تُنسى عن متعة الإبداع.

من جهة أخرى، لا تقتصر التجربة في فندق "مبيت وحِرفة" على حدود الفلل فحسب، بل تتجاوزها إلى المدينة نفسها. تنتشر في شوارع إينامي أكثر من 80 ورشة عمل، ومقاهٍ متخصصة، ومتاجر تبيع منتجات الحرف المحلية. ولا سيَّما أن "شارع يوكاماتشي"، الشارع الرئيس فيها المرصوف بالحصى والذي يعود تاريخه إلى أكثر من 600 عام، يزدان بعدد كبير من المنحوتات الخشبية التي تُصوِّر حيوانات متنوعة، وتمائم الحظ، والتعويذات، بالإضافة إلى لوحات خشبية بأسماء المتاجر المزخرفة ولوحات الإرشاد. يُشجّع الزوَّار على التجوُّل في المدينة، ولقاء الحرفيين، واكتشاف إيقاعات الحياة اليومية في مكان لا تزال فيه الحرفة جزءًا أصيلًا من المشهد الطبيعي. 

بذلك، أصبح مشروع فندق "مبيت وحِرفة" أكثر من مجرد محاولة لإنقاذ حرفة تقليدية من الاندثار، بل تحوَّل إلى مصدر حياة مُتجدِّد للمجتمع المحلي في إينامي. فقد أسهم هذا النموذج السياحي المبتكر في جذب الشباب وروَّاد الأعمال إلى المدينة، وأعاد الروح إلى المباني المهجورة، وقلَّل من نسبة العقارات الشاغرة؛ حتى باتت إينامي من المناطق القليلة في محافظة توياما التي تشهد نموًا سكانيًا وعقاريًا. ولمَّا كان جزء من رسوم الإقامة في الفندق يذهب مباشرة للحرفيين، فقد وفر ذلك لهم دخلًا مستدامًا وفرصة لعرض أعمالهم أمام زوَّار من مختلف أنحاء العالم. وغالبًا ما تتوطد علاقات شخصية بين الضيوف والحرفيين، وهو ما يفتح الباب أمام طلبات خاصة لأعمال فنية مميزة.

في المحصلة، يمثِّل مشروع "مبيت وحِرفة" رؤية معاصرة لصون التراث المحلي؛ إذ تلتقي الحرف اليدوية مع الحداثة في تجربة سياحية فريدة تعيد الاعتبار لفن النحت على الخشب، وتمنحه فرصة جديدة للازدهار في قلب المجتمع المحلي، وعلى الساحة العالمية أيضًا.