Hero image

المنازل الحيوية

يوليو - أغسطس | 2025

يوليو 1, 2025

5 دقائق

شارك

في سلسلة الخيال العلمي "فارسكيب"، تنطلق سفينة فضاء في استكشاف المجرة، وهي عبارة عن سفينة هجينة بيو – ميكانيكية؛ أي تحتوي على مكونات بيولوجية وتكنولوجية لها القدرة على النمو والتكاثر أيضًا. وعلى الرغم من أن هذه السفينة فكرة خيالية بحتة وبعيدة كل البعد عن تطبيقات البيولوجيا التركيبية، فإنها تلهمنا في ابتكار تقنيات جديدة مثل البناء الحيوي أو الهندسة المعمارية الحية.
 
بعدما طال اعتماد المهندسين المعماريين على المواد الصلبة مثل الفولاذ والألمنيوم والخرسانة في بناء البيوت، وبعد تكشُّف التداعيات البيئية لإنتاج هذه المواد واستهلاكها، تبدت الحاجة إلى تغيير الطرق التي نبني بها بيوتنا. ووسط البحث عن مواد بناء جديدة ظهرت فكرة تطوير تقنيات حيوية بالاعتماد على البيولوجيا التركيبية في برمجة كائنات دقيقة لإنشاء جيل جديد من المباني الحية المستدامة. 
يمكن أن يكون لهذه المباني المتخيلة تأثيرات إيجابية على البيئة؛ إذ تولّد الطاقة من ضوء الشمس وتصلح نفسها، وتتكيف مع محيطها، وتعمل على مكافحة البكتيريا الضارة، وتنظّف الهواء، وتلتقط ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي. فتخيّل أن تعيش في منزل له القدرة على النمو والتنفس والتكاثر ويصلح نفسه بنفسه! يبدو الأمر برُمَّته خياليًا، لكن هذه الفكرة الخيالية من الممكن تحقيقها من الناحية العلمية، وقد تكون الأعداد الكبيرة من الكائنات الدقيقة المبرمجة بيولوجيًا، هي التي ستبني مدن المستقبل. 

من الخيال العلمي إلى العِلم
تعتمد الفكرة الأساسية لهذا التصوّر على دمج الأنظمة البيولوجية في الأبنية لخلق بيئات أصح وأكثر استدامة؛ وذلك بتحويل هياكل البناء إلى مواد بيولوجية ومفاعلات حيوية. وهذه الرؤية المستقبلية تتضمن تقنيات ونماذج جديدة لمواد بناء تستخدم العمليات البيولوجية لتوليد الضوء والحرارة والتخلص من النفايات من منازل المستقبل. فهناك كائنات حية دقيقة تتولى عملية البناء الضوئي وتستخدم ثاني أكسيد الكربون لتحويل النفايات المنزلية إلى كتلة حيوية. وهناك كائنات دقيقة لا هوائية يمكنها تحويل مياه الصرف الصحي إلى كهرباء ومياه نظيفة، ويمكن استخدامها لشحن الهواتف وتشغيل الشاشات الرقمية، كما ورد في موقع (singularityhub) في 30 يناير 2019م. 

أبنية تنمو من تلقاء نفسها
تستكشف وكالة "ناسا" تقنيات جديدة في البناء يمكن استخدامها على سطحي القمر والمريخ بدلًا من المساكن المصنوعة من المعدن والزجاج. وسيكون لهذه الأبحاث الفضائية انعكاسات إيجابية على الأرض؛ إذ يمكنها أن تؤدي إلى تطوير أبنية حيوية أكثر استدامة.

فمشروع الهندسة المعمارية الفطرية في مركز أبحاث "أيمس"، التابع لوكالة "ناسا" في وادي السيليكون في كاليفورنيا، يدرس حاليًا كيفية استخدام الحياة نفسها بوصفها تقنية بناء بواسطة الفطريات، وذلك بإنشاء نماذج أولية من الفطريات يمكنها تنمية الموائل على القمر والمريخ، عندما نصل إلى هناك. إذ يمكن لروَّاد الفضاء إحضار منزل إلى القمر أو المريخ من مادة خفيفة الوزن مع فطريات خاملة، وعند الوصول يُنشر هذا الهيكل الأساسي ويضاف الماء. وستتمكن الفطريات من النمو حول الهيكل وتحويله إلى مسكن بشري متكامل. 

لا يقتصر مشروع العمارة الفطرية على تصميم هياكل حيوية فحسب، بل يُعدُّ نظامًا بيئيًا متكاملًا، يضم أنواعًا متعددة من الكائنات الحية الدقيقة إلى جانب البشر الذين يسكنون بداخلها. ومع أن الطريق ما زال طويلًا أمامنا لتحقيق هذا الخيال الجامح وبناء منازل حيوية على سطحي القمر والمريخ، فإن الأبحاث جارية لإثبات إمكانات هذه الحلول الإبداعية انطلاقًا من تجربة الفطريات، كما جاء في نشرة "ناسا" الإخبارية في 14 يناير 2020م. 

وتشفي نفسها بنفسها وتتنفس
تُعدُّ الخرسانة من أكثر المواد استخدامًا على كوكب الأرض بعد الماء. وعلى الرغم من فوائدها العديدة، فإن لها انعكاسات سلبية على كوكب الأرض وصحة الإنسان، كما جاء في موقع "ناسا" المذكور آنفًا. ومن أجل الحد من استخدامها بكثرة، طوَّرت جامعة دلفت للتكنولوجيا، خرسانة ذاتية الشفاء قائمة على البكتيريا، وهي طريقة واعدة لمعالجة تشققات الخرسانة؛ وذلك عن طريق غرس جراثيم بكتيرية بوصفها بذورًا للبكتيريا في خليط الخرسانة. فعندما يتسرب الماء عبر الشقوق المجهرية، يجري تنشيط البكتيريا وتصبح المادة حية فعليًا وتحفّز عملية كيميائية تؤدي إلى نمو بلورات كالسيت جديدة تعالج التشققات في الهياكل الخرسانية ذاتيًا؛ وهو ما يحسّن من متانة الهيكل الخرساني بشكل كبير ويطيل مدة صلاحيته. وهذا يعني تقليل الطاقة المستخدمة في تصنيع الخرسانة. ومن ثَمَّ، فإن استخدام الخرسانة ذاتية الشفاء لن يسهم فقط في خفض التكاليف المالية فحسب، بل ستكون له آثار إيجابية على البيئة من خلال خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.

إضافة إلى ما تقدّم، طوَّرت مجموعة هيرونشي إيشي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الأمريكي، مواد قادرة على تغيير شكلها استجابة للماء. وتتكوَّن هذه المواد من طبقات من أبواغ البكتيريا واللاتكس. فعندما تجفُّ المادة تنكمش ويتغيّر شكلها. باستخدام هذه الطريقة، أُنتِجت ملابس تستجيب لتعرُّق الإنسان، بحسب مختبر الوسائط في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. 

 وبعد ذلك، بدأ الفريق بتوسيع نطاق هذا البحث لإنشاء أغشية مبنى كاملة قادرة على التعرق مع ارتفاع الرطوبة الداخلية، وذلك باستخدام أغشية لاتكس مغلفة بأبواغ بكتيرية، تجعل المادة تنثني وتفتح المسام مثل الغدد العرقية، وهو ما يسمح للهواء بالتدفق عبر الجدران.

أبنية ذات مفاعلات حيوية
وفي مشروع تابع للاتحاد الأوروبي يُطلق عليه اسم "الهندسة المعمارية الحية"، يعمل فريق من الباحثين على تطوير مفاعل حيوي. وهو نوع جديد من خلايا الوقود الميكروبية، التي تعالج النفايات المنزلية وتولّد كميات صغيرة من الطاقة، وذلك في إطار مشروع أوسع نطاقًا يستكشف قدرة الميكروبات على معالجة النفايات في المباني. 

ويصف مقال نشر في مجلة "فاست كومباني" في 12 يوليو 2018م، مبنى BIQ "حاصل الذكاء الحيوي" في هامبورغ، المُصمم على هذا الأساس، حيث استُبدلت مفاعلات حيوية بأقسام جدران الغرف. وأحد أنواع المفاعلات الحيوية هو خلية وقود تحتوي على بكتيريا لا هوائية لإنتاج الكهرباء والمياه النظيفة. وهناك نوع آخر هو مفاعل حيوي ضوئي من الطحالب ينتج الكتلة الحيوية للوقود أو الغذاء. أمَّا النوع الثالث، فهو مفاعل حيوي صناعي يمكنه إنتاج الكحول أو مواد نباتية أخرى. وهذه المفاعلات لا تعتمد على الكهرباء بوصفها مصدرًا للطاقة، وإنما على عملية التمثيل الغذائي للكائنات الحية. 

الخوارزميات البيولوجية
يُعدّ مجال البيولوجيا التركيبية من المجالات الواعدة التي تبشّر بكثير من الاختراقات التكنولوجية وتقدّم رؤية مستقبلية واعدة للمنازل. فهي تمثّل إحدى أقوى التقنيات التي توصل إليها الإنسان في هذا القرن. وباستخدامها الأمثل، يمكننا الارتقاء بمستوى جودة الحياة على كوكب الأرض وخارجه.

إن قدرتنا المتسارعة على تعديل الشفرة الوراثية تفتح آفاقًا جديدة واعدة. لقد أصبحنا قادرين اليوم بالفعل على تصميم أنظمة بيولوجية على المستوى الخلوي أو البكتيري. مثال على ذلك، نباتات منزلية تضيء في الظلام ويمكن استبدالها بإنارة الشوارع أيضًا، وذلك عن طريق إدخال جين التلألؤ الحيوي من البكتيريا في الحمض النووي للأشجار. ويذهب الباحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى أن النباتات المُصدرة للضوء سوف تستخدم في المستقبل بوصفها مصابيح لإضاءة المباني الداخلية دون الحاجة إلى كهرباء.

والتلألؤ الحيوي ليس الهدف الوحيد الذي يسعى إليه مهندسو الوراثة. فخلال جائحة كوفيد - 19، عدّلت شركة نيوبلانتس الفرنسية الناشئة نبات البوثوس الذهبي المنتشر في كل مكان لتعزيز قدرته على تنقية الهواء من مختلف الملوثات. ويتمثّل الهدف من ذلك في استبدال أجهزة تنقية الهواء الكهربائية. 

 وعلى جانب آخر، كلَّما تأملنا في الطبيعة ازدادت دهشتنا من أناقتها وتعقيدها. فالأشجار تُنشئ كثيرًا من الأشكال والهياكل المتنوعة، التي يمكننا تسخيرها ومعرفة كيفية التحكُّم في هذه الخوارزميات البيولوجية لبناء منازلنا! فالخلايا البيولوجية تعدُّ مثل أجهزة كمبيوتر صغيرة قابلة للبرمجة والتحكم فيها للوصول إلى هدف محدد.