
تُعدُّ الصداقات من أقدم وأعمق الروابط الإنسانية التي تنشأ في وقت مبكر من حياة الطفل؛ إذ تظهر ملامحها الأولى حين يبدأ الطفل بالانتقال التدريجي من الاعتماد الكامل على والديه إلى التفاعل مع أقرانه وتكوين صداقات وروابط اجتماعية مستقلة. وتُشير الدراسات الحديثة إلى أن الصداقات لا تُسهم فقط في تقليل الشعور بالوحدة وتحسين المزاج، بل تمتد إلى إعادة تشكيل مسارات عصبية عميقة متعلقة بالمكافأة والانفعالات واتخاذ القرار. ففي بحث رائد أجراه شين س. وزملاؤه، ونُشر في كتاب صادر عن (Elife) عام 2023م، وشمل أكثر من 23,000 طفل، وجد الباحثون أن العلاقة بين عدد الأصدقاء المقربين وأداء الدماغ ليست خطية، بل تتبع نمطًا منحنيًا؛ إذ تبيَّن أن امتلاك أربعة إلى خمسة أصدقاء مقربين، له التأثير الأكثر إيجابية على الوظائف المعرفية والصحة النفسية. والأطفال الذين يمتلكون هذا العدد المثالي أظهروا أداءً أعلى في اختبارات الذكاء اللفظي وأعراضًا أقل لاضطرابات فرط الحركة وتشتت الانتباه.
أهمية التوازن في العلاقات
أمَّا من لديهم أصدقاء أقل أو أكثر من ذلك، فغالبًا ما تظهر عليهم مؤشرات ضعف معرفي أو توتر نفسي أكبر. ويُفسَّر ذلك بأن الدماغ، في سعيه لتحقيق التوازن، يتفاعل مع بيئة اجتماعية معتدلة أكثر من تفاعلِه مع العزلة أو الانغماس الاجتماعي الزائد. هذا التوازن يتجلى بوضوح في صورة الدماغ من خلال التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي. إذ تُظهر المناطق المرتبطة بالتفاعل الاجتماعي، مثل القشرة الحزامية الأمامية واللوزة الدماغية والقشرة المدارية الجبهية، نشاطًا أعلى لدى الأطفال الذين يتمتعون بعدد مناسب من الأصدقاء. فهذه المناطق لا تعمل بمعزل عن مشاعرنا، بل تحتوي على مستقبلات عصبية ترتبط بأنظمة المكافأة التي تعمل كمستقبلات أشباه الأفيونيات في الدماغ. وهذا ما يعني أن التفاعل مع الأصدقاء يشبه إلى حدٍّ بعيدٍ تلقي مكافأة بيولوجية، تجعل الطفل أكثر استعدادًا للتفاعل والتعلُّم وضبط انفعالاته.
وقد بيَّنت دراسات متعددة أن الأطفال الذين يتمتعون بعلاقات صداقة مستقرة يُظهرون معدلات أقل من الاكتئاب والقلق، وسلوكيات أكثر توازنًا، بالإضافة إلى تحصيل أكاديمي أعلى. في حين أن العزلة الاجتماعية أو العلاقات المتوترة قد ترتبط بزيادة السلوكيات الخطرة والانطواء والمشكلات السلوكية. وتُظهر هذه المؤشرات أن الصداقة لا تُشكِّل محفزًا عصبيًا داخليًا فقط، بل تمتد آثارها لتنعكس على الأداء اليومي والسلوك التكيفي في بيئة الطفل التعليمية والاجتماعية.
الجدير بالذكر أن جودة الصداقات لا تقل أهمية عن عددها. ففي دراسات طولية (منهج معين في البحث العلمي) تتبعت الأطفال والمراهقين لسنوات، وُجد أن استقرار الصداقة؛ أي استمرار العلاقة نفسها على مدى زمني طويل، يُحدث فرقًا في المسارات النمائية للدماغ. مثلًا، الأطفال الذين حافظوا على علاقات صداقة ثابتة أظهروا تغيرات مميزة في نشاط النواة المتكئة، وهي أحد المراكز الرئيسة في نظام المكافأة في الدماغ. وكان النشاط في هذه المنطقة يبلغ ذروته عند الفوز بشيء ما لصالح الصديق، وهو ما يعكس تداخلاً عصبيًا بين الفرح الشخصي والمكافأة المشتركة. أمَّا مَن تبدَّلت صداقاتهم كثيرًا، فكانت استجابتهم لهذه المكافآت أقل وضوحًا، وهو ما يُشير إلى أن الاستقرار العاطفي في العلاقات يُترجم إلى استقرار في أنماط النشاط العصبي.
فالاستقرار في الصداقة يساعد الدماغ على بناء روابط عصبية صحية تعزِّز التعاطف والمشاركة الوجدانية، بينما عدم الاستقرار يُضعف هذه الروابط. والعلاقات المستمرة تُتيح للدماغ أن يكرر أنماطًا من التفاعل العاطفي والتفكير بالآخر، وهو ما يقوِّي دوائر التعاطف والانتماء. في المقابل، فإن تبدُّل الأصدقاء بشكل متكرر يعوق الدماغ من ترسيخ هذه الأنماط، ويجعل الطفل أقل حساسية لمشاعر الآخرين وأقل قدرة على بناء روابط عميقة ومستقرة.

لا تقتصر فوائد الصداقات على تحفيز مناطق المكافأة فقط، بل تشمل أيضًا العمليات الذهنية الأعمق التي تُعرف بـ"التمييز العقلي"؛ أي قدرة الطفل على فهم نيَّات ومشاعر الآخرين. هذه المهارة تُعدُّ حجر الزاوية في كل علاقة إنسانية ناجحة، وتُبنى تدريجيًا من خلال التفاعل المتكرر مع الأصدقاء.
فالدراسات التي تناولت هذا الجانب أظهرت أن الأطفال والمراهقين يستخدمون القشرة الجبهية الوسطى والوصل الصدغي الجداري بشكل أكثف حين يتخذون قرارات اجتماعية تتعلق بأصدقائهم، مثل تقاسم الموارد أو اتخاذ موقف من شخص آخر. ومع تطوُّر هذه المناطق، يصبح الطفل أقدر على التعاطف، وتوَقُّع ردود الفعل، وتنمية وعي اجتماعي أكثر دقة. ومع ذلك، فإن عدم توفر صداقات مستقرة أو ذات جودة عالية، قد يحدُّ من نضج هذه القدرات، وهو ما يجعل الطفل أكثر عرضة للتأويلات الخاطئة لسلوك الآخرين، أو للانعزال الاجتماعي.
ولعلَّ أبرز ما تكشفه الدراسات الحديثة هو وجود نوع من "التشابه العصبي" بين الأصدقاء المقربين.
أمَّا في حالات الطفولة التي تشهد صدمات، أو محنًا مثل الإهمال أو التنمر أو الفقد، فتبرز الصداقة بوصفها عامل حماية عصبيًا ونفسيًا. والمراجعات المنهجية التي درست الأطفال المعرضين للشدائد أظهرت أن وجود صديق داعم في حياة الطفل يُخفِّف من حِدة استجابات الدماغ للمواقف الاجتماعية الضاغطة. ويُعتقد أن هذا يحدث عبر تقليل نشاط اللوزة الدماغية، وهي مركز الإنذار العاطفي في الدماغ، وهو ما يساعد الطفل على تهدئة استجاباته الفسيولوجية تجاه المواقف الصعبة. وعلى المدى الطويل، فإن هذا التنظيم العاطفي قد يقلِّل من احتمالية الإصابة باضطرابات القلق والاكتئاب، ويعزِّز من مرونة الطفل في التعامل مع التحديات.

الصداقة ضرورة بيولوجية عصبية
لكن ما يتجاوز هذه الآليات البيولوجية هو البُعد الإنساني العميق للصداقة. فهي تمنح الطفل شعورًا أصيلًا بالانتماء والقبول والفرح، وهي عناصر أساسية للنمو النفسي السليم. غير أن هذه المشاعر، كما تكشف الأبحاث الحديثة، لا تنفصل عن وظائف دماغية ملموسة، بل تنعكس مباشرة على أنماط الاتصال العصبي والنشاط الانفعالي، وهو ما يُعيد تعريف الصداقة من كونها رفاهة اجتماعية إلى كونها ضرورة بيولوجية عصبية. فالطفل المحروم من الصداقة ليس وحيدًا عاطفيًا فقط، بل محروم أيضًا من "تغذية عصبية" حيوية لا تقل أهمية عن النوم أو الغذاء.
وإذا كانت المدارس والأنظمة التعليمية قد ركّزت طويلًا على تنمية المهارات المعرفية، فقد آن الأوان لتوسيع هذا الأفق، بإدماج مفهوم "الرعاية الاجتماعية العصبية" ضمن سياسات الطفولة. فالصداقات ليست هامشًا ترفيهيًا، بل هي مكون رئيس في بيئة النمو المتكاملة التي تُدعم وتُراقب وتُثمَّن، لا أن تُترك للصدفة أو الظروف.
في هذا السياق، لا يُصبح المعلم الذي يلحظ عزلة طفلٍ ما مجرد مراقب لسلوك غير مرغوب فيه، بل مستشعرًا لإشارة إنذار عصبية تنموية تستوجب التدخُّل. ويغدو صانع السياسات الذي يُعيد النظر في تصميم المناهج والأنشطة اليومية، بحيث يفسح المجال أمام بناء العلاقات الاجتماعية، إنسانًا لا يُضيف ترفًا عابرًا ليوم الطفل، بل يضع لبنة أساسية في بناء دماغه.
فكلُّ لحظة يقضيها الطفل في تفاعل اجتماعي صادق مع أقرانه تُسهم في نضج دوائره العصبية، وتعزِّز قدرته على التعاطف، وتُنمِّي مرونته الانفعالية، وتُرسِّخ مهاراته في فهم الآخر واتخاذ القرار. لذا، فإن منح الوقت للَّعب المشترك والتفاعلات الاجتماعية الحية لا يُعدُّ إضاعة للوقت، بل استثمارًا طويل الأمد في الصحة النفسية والمعرفية للأطفال، وفي قدرتهم على بناء عالم أكثر تماسكًا وإنسانية.
باختصار، نحن اليوم أمام لحظة علمية فارقة. فقد أصبحت أدوات التصوير العصبي، والبيانات الطولية، والمعالجة الدقيقة لأنماط النشاط الدماغي، تضع أمامنا حقيقةً واضحة: لا يمكن للدماغ أن ينمو نموًا أمثل من دون صداقة. ليس فقط لأن الأصدقاء يشاركوننا الضحك والدعم والاهتمامات؛ بل لأنهم، ببساطة، يحفّزون أدمغتنا على النمو، ويعيدون تشكيل شبكاتها الدقيقة، ويمنحوننا الأدوات النفسية والعصبية اللازمة لعبور الحياة بثقة ومرونة وتوازن. ولهذا، فإن تمكين الصداقة في الطفولة ليس ترفًا تربويًا، بل ضرورة عصبية من الطراز الأول.
رسوم: أسماء خوري