Hero image

روائي وخطَّاط

يوليو - أغسطس | 2025

يوليو 4, 2025

13 دقيقة

شارك

كانت الكلمة، ولا تزال، حاملة الثقافة والتقاليد والحضارة. فأبسط الكلمات وأشدّها تعقيدًا تنطوي على دلالات وسياقات متعددة. وفن الخط، من الفنون التي تبعثُ النص أو الكلمة حيَّة أمام أعيننا، ولمَّا كان الأدب يحوِّلُ الكلمات إلى أفكار، فإنَّ فن الخط يحوِّلُ الكلمات إلى صور. وهذا أحد وجوه التأثير المتبادل بين الفنون. وإن كان الخط العربي قد ارتبط بـالتراث والتاريخ العربي والإسلامي، فإنَّ فن الخط الصيني ارتبط كذلك بالتراث الثقافي والإبداع والشعر والسياسة والمكانة الاجتماعية في الصين.


حين نقول الكلمة ينصرف الذهن في العادة إلى الكاتب، وحين نقول الخط ينصرف الذهن إلى الخطَّاط، وفي الصين تشير أي من الكلمتين إلى الإبداع الأدبي والفني معًا. فعلى مدى التاريخ الصيني كان هناك من يجمع بين "الأدب والخط"، بعضهم تتوازى شهرته بوصفه خطاطًا مع شهرته بوصفه كاتبًا أو تزيد، ومن هؤلاء: لو شون، وشين تسونغ وِن، ومويان، وجيا بينغ وا، وأويانغ جيانغ خي، وغيرهم. 

عُشب تحركه الرياح

تاريخيًا، ظهرت أقدم كتابة للرموز الصينية على عظام الحيوانات أو دروع السلاحف، ويُطلَقُ على تلك النصوص "جيا غو وِن"، ويمكن تتبعها إلى عهد "أسرة شانغ" (1600 سنة قبل الميلاد). تلا ذلك شكل من أشكال الكتابة على الأوعية البرونزية المرتبطة بتقديم القرابين للأسلاف، ويُعرف باسم "جين ون". وكان الخط محتفظًا بالبنية العامة لنصوص "جيا غو ون"، لكنَّه أجمل وأكثر وتعقيدًا. واندرجت هذه النقوش تحت ما يسمى بـ"دا تشوان - خط الختم الكبير"، وهي الخطوط ما قبل "شياو تشوان - خط الختم الصغير"، الذي يتميز بخطوط ذات سماكة متساوية، ويميل كل رمز إلى ملء مربع وهمي، وقد ظهرَ لتلبية الطلب المتزايد على تسجيل الوثائق الرسمية.

ولأن خط "شياو تشوان" لم يكن مناسبًا للكتابة السريعة، انتقلت الخطوط في تطورها إلى خط "لي شو" أو "الخط الرسمي"، الذي يُعَدُّ أسلوبَ كتابةٍ مهمًا في فن الخط الصيني، نشأ في عهد "أسرة تشين"، وبلغ نضجه في عهد "أسرة هان"، ويُمثِّل نقطةَ تحوِّلٍ مهمة في تطور الرموز الصينية. وتتميز أشكال الرموز "في الخط الرسمي" بأنَّها عريضة ومسطَّحَة، وتسود الخطوط الأفقية القصيرة والعمودية الطويلة، وبزوايا مربعة، وهو ما جعل الهيكل أبسط، والرموزَ أسهلَ في الكتابة. 

وعلى الرغم من ذلك، حدَّ هذا الخط من حرية اليد في التعبير عن الذوق الفني للفرد، فتطوَّر إلى الخط المعروف باسم "الكايشو"، وهو "الخط العادي أو خط النسخ"، الذي تطوَّر تدريجيًا من الخط الرسمي، ليصبح أبسط مع طغيان الخطوط الأفقية والعمودية؛ إذ يمكن تشكيل كل ضربة، وكل زاوية وكل رمز، حتى كل نقطة، وفقًا لرغبة الخطَّاط وذوقه، وهو ما أتاح مساحة أكبر للتعبير. ومن الخطاطين الذين أبدعوا في فن الخط، الخطاط "وانغ شي تشي" (321 - 379م)؛ إذ لم يقدم أعظمَ نموذج للخط العادي فقط، بل "خفف ترتيب ضربات الفرشاة، وأضفى على حركتها انسيابية تتيحُ الانتقال بسلاسة من كلمة إلى أخرى"، وأصبح ذلك ما يُعرف بـ"شينغ شو" أو "الخط الجاري"، الذي أدَّى إلى ظهور "تساو شو" أو "الخط العُشبي" أو "الخط الارتجالي"، وسُمِّي بهذا الاسم لتشابهه مع العشب الذي تحركه الرياح. 

ومن الناحية التقنية، فالأدوات المستخدمة في فن الخط الصيني قليلة، وهي: الحبر وحجر الحبر والفرشاة والورق، ويفضِّلُ البعضُ استخدامَ الحرير. فماذا يمكن أن تخبرنا ضربة الفرشاة عن معنى الكلمة؟ 

chinese writing 2

مويان: حقق أمنية الطفولة بعد الخمسين.

الكلمةُ بالخط واللون 

يستندُ فن الخط والأدب على "الكلمة - الرمز"، ويوفر الأدب مادة غنية وثرية لفن الخط. وفي الثقافة الصينية التقليدية، لا يُعدُّ الخط مجرد فن، بل تجسيد للكلمة، وتعبير عن المشاعر يبدأ أولًا من المستوى البصري. 

الكاتب الصيني مويان، حامل جائزة نوبل، الذي لفتت لوحاته في الخط نظرَ الجمهور، يتحدث عن هذا المعنى قائلًا: "في عالم فن الخط، كل رمزٍ يشبه الحلمَ، يحمل مشاعر عميقةً وخيالًا لا حدود له. إنها ليست مجرد تكوينات بسيطة من الخطوط، بل أيضًا انعكاسات لروح المبدع. من خلال حركة الفرشاة، يدمج الخطَّاطون في كل كلمة أفكارهم ومشاعرهم ورؤيتهم للحياة". 

وإذ تحمل الكلمات المختلفة أساليب متنوعة ومشاعر مختلفة، فإنَّ الخطَّاط يحتاج إلى تبني أساليب فنية تناسب الكلمة أو النص. ومن خلال مزيج من التقنية والخيال، يُضفي الخطَّاط أشكالًا مميزة على ضربات الفرشاة، من دون أي تصحيحات، وهذا يتطلب سنوات من الممارسة والتدريب المتواصل. 

كما تعكس الكلمات طبيعة كاتبها، تعكس لوحات الخطَّاط شخصيته وتفاعله مع محتواها. ولأن فن الخط يُجسّد المشاعر، تنتقل مشاعر الخطَّاط عبر حركة الفرشاة، فتُضفي على الكلمات صورةً متكاملةً تجمع في تكوينها بين المعنى والإيقاع والجمال، بل قد يغيِّر الخطَّاط أسلوب الخط نفسه ليتناسب مع طبيعة المحتوى. وبذلك، لا يسمح فن الخط بانتقال الثقافة التقليدية فحسب، بل أيضًا أي نص إبداعي في شكلٍ أجمل. 

القدماءُ لا يزالون مُعلِّمين

تعلّم مويان، فن الخط في الخمسين، وكان عليه أن يخوض تجربة الفرشاة بعد القلم، حتى إنَّه استدعى القدماء ليتتلمذَ على فنِّهم في الخط، ويقول: "من الصعب محو تجربة الكتابة بالقلم وذكرياتها طوال حياتي، فلم يكن فن الخط إلا تكبيرًا للكلمات التي كُتِبَت بالقلم. لم أفهم في البداية العلاقة بين خصائص الفرشاة وبين الورق والحبر، لكن بعد تجاوز هذه المرحلة أصبحتُ أمهر من السابق. لكن عادتي في الكتابة بالقلم يمكن أن تؤثر في طريقة كتابتي بالفرشاة، وهو ما كان مصدرَ قلق لي. ولحلّ هذه المشكلة، لم يكن أمامي خيار إلا التعلّم من القدماء، والتدرّب على نماذج خطوط اللوحات الحجرية". 

ثمة عبارة قالها والد مويان: "الخط هو أفضل ملابس للرجال، وهو أيضًا أفضل ملابس للنساء". وقد سُئِلَ مويان: هل كانت ممارسته للخط مرتبطةً بهذه الجملة؟ فقال: "في زمن والدي، كان عدد قليل جدًا من عامة الناس يستطيعون القراءة والكتابة، وكانت القرية تنظر بإعجاب إلى أولئك الذين يجيدون الكتابة بالفرشاة. لذلك، أردتُ منذ صغري إتقان فن الخط". 

حين كبر مويان، عاد إلى أمنية طفولتِه بشكل متقطِّع، لكنَّه سافر عام 2005م إلى الخارج، وأراد إهداء عدة لوحات لأصدقائه الأجانب، فكتب اللوحات بنفسه، وبعد عودته إلى الصين بدأ ممارسة فن الخط والتدرّب دون انقطاع.

 
chinese writing 3

جيا بينغ وا: منحتني الفرشاة وورق الأرز إحساسًا بالأُنس.

تكامل الأدب والخط والرسم

لا تقتصر شهرة الكاتب "جيا بينغ وا" على إبداعه الأدبي فقط، بل تمتد أيضًا إلى براعته في فن الخط والرسم، وهو ما جعله شخصية مميزة بين الكتَّاب والخطَّاطين. ومن منتصف التسعينيات إلى أواخرها، حظيت لوحات "جيا بينغ وا" في الخط بشعبية بين القرَّاء.

يقول هذا الخطَّاط: "أستمتع بالكتابة لأنَّني منغمس في كتابة المقالات ولا أستطيع الاستغناء عنها. فالسلاح لا يعشقه إلَّا الجندي، وأعترف أنَّني لم أتدرب على نماذج من أساليب خط اللوحات الحجرية، وبعد أن كتبتُ ملايين الكلمات بالقلم الرصاص والقلم الحبر، توصلتُ إلى فهم جذور الرموز الصينية التصويرية وبنية تكوينها، واختبرت متعة كتابتها من خلال تأمل كل شيء حولي". 

ويكشف الكاتب "جيا بينغ وا" عن علاقته بتلك الفترة من خلال غرامه بفن الخط الصيني، قائلًا: "كنتُ أكتب باستخدام الفرشاة على ورق الأرز، وأحسستُ بشعور غريب لم أستطع التخلص منه بعدها. منحتني الفرشاة وورق الأرز إحساسًا بالأُنس، وبدأتُ قراءة نصوص العديد من اللوحات الحجرية، وأصبح بوسعي تقريبًا فهم أساليب خطوط القدماء، واختبار ما شعروا به أثناء الكتابة". وعن علاقة الأدب بالفنون الأخرى، يقول: "إن الأدب وأي فن آخر متوافقان في جوهرهما، لكنَّهما مستقلان، ولا يمكن لأحدهما أن يحل محل الآخر. بعض الأمور لا يمكن التعبير عنها من خلال الكتابة، لذلك أمارس الخط والرسم؛ إذ يشكلان فنَّين يُكمل أحدهما الآخر، كما أنَّني أدرك فوائد هذا التكامل". ويرى كذلك أنَّ الرسم والخط، كان لهما أثر كبير على إبداعه. 

في الثقافة الصينية التقليدية، لا يُعدُّ الخط مجردَ فن للكتابةِ، بل تجسيدٌ للكلمة، وتعبيرٌ عن المشاعر يبدأ أولًا من المستوى البصري.

chinese writing 4

الخطاط والشاعر أويانغ جيانغ.

الخط وشخصية كاتبه 

كما أن للخط أنماطًا مختلفة ومدارس متعدِّدة، من حيث الشكل والإبداع، فإنَّه كذلك يعكس شخصيةَ كاتبِه، ويُرَى ذلك مثلًا في لوحات الخط التشكيلية. وإذا كان الخط في النهاية هو "لغة"، فماذا عن علاقته بالأدب؟

يتحدث الكاتب "نينغ كِن" في حوار خاص بهذا المقال، عن العلاقة بين الخط والأدب، قائلًا: 
"لا توجد علاقةٌ مباشرة بين فن الخط والأدب، مثلما لا توجد علاقةٌ مباشرة بين الموسيقى والرسم وبين الأدب، لكن العلاقة الضمنية بينها وبين الأدب تظل متشابهة. إن الخط الصيني أكثر تجريدًا وغير مباشر. ولذا، فإن تأثيره أيضًا أكثر تجريدًا وغير مباشر. ولأنه كذلك، فإن تفسيره يصبح معقدًا. هناك مقولة صينية قديمة تقول: "الخط يعكس شخصية كاتبه"؛ أي أن أسلوب الكتابة يعبِّر عن شخصية الإنسان وطباعه، وليس "الموسيقى تعكس شخصية مؤلفها"، أو "اللوحة تعكس شخصية رسامها"؛ إذ يبدو أنَّ صلةَ الإنسان بالكلمات أقربُ مقارنةً بالموسيقى والرسم. ولا يزال من الصعب تفسير ذلك، فلم أتمكن من العثور على تفسير محدد في الأدب الصيني حول هذه المقولة، ربَّما لأنَّ التفسيرَ غيرُ واضح أو غيرُ ضروري، أو كما يُقال "يُدرَكُ دون تفسير". لأنَّ مع مقولة "الخط يعكس شخصية كاتبه" تأتي عبارة "النص مرآةُ كاتبه" وهي سهلة الفهم، لكن لا يمكن شرحها بالتفصيل. ففي النهاية، هناك أمر واضح جدًا، هو أنَّ العلاقةَ بين الإنسان والكلمات والكتابة وثيقةٌ جدًّا. فكيفما كانت كلماتُك وأسلوبُ كتابتك، فسيكون ذلك انعكاسًا لك، والعكس صحيح. لذلك، لا شكَّ في أن الخط أثَّر في الإبداع الأدبي من خلال تأثيره على البشر". 

يرى "نينغ كِن" أنَّ الخط يمتلك آلاف الرموز وأشكالًا لا حصر لها، ويُفضِّلُ الخطَّ الذي له تأثير عليه؛ إذ من البديهي أن ينعكس في إبداعه. ويقول، مُتعلِّمًا من القدماء كما مويان: "أحبُّ التدرُّب على نماذج خطوط اللوحات الحجرية، أولًا لأنَّها قديمة؛ إذ يعود تاريخها إلى نحو ألفي عام. وثانيًا، لأنَّ الخطَّ القديم يميل إلى أن يكون غيرَ مكتمل، وغيرَ واضح، بل يزداد غموضه بمرور الوقت. باختصار، أجدُ جاذبيةً في القِدَم، وعدم الوضوح، والافتقار إلى الاكتمال، وقد أثر ذلك في إبداعي".

ترابط الفنون 

يشيرُ "نينغ كِن" إلى مقولة في الثقافة الصينية التقليدية مفادها "الشعر والخط والرسم لا ينفصلون"، بما يعني أنها فنون مترابطة ومتكاملة، وغالبًا ما تكون هذه الفنون الثلاثة موضوعات للإبداع ومصادرَ إلهامٍ بعضها لبعض. لكنه يَعدُّ الخط فنًا قائمًا على المشاعر، حين يصبح المرء خطَّاطًا أو عازفَ بيانو بعد الممارسة والتدريب، لا تعود التقنية عقبة، فما يبقى هو المشاعر. لذلك، يُعدُّ الشعر الكلاسيكي مصدرًا جاهزًا للمشاعر، تمامًا مثل معزوفات الموسيقي، فكما يعزف عازفو المقطوعات الكلاسيكية، يكتب الخطَّاطون القصائد الكلاسيكية مثل قصائد لي باي، ودو فو، ووانغ وي، وسو دونغبو، تمامًا كما يعزف عازفو البيانو أعمال بيتهوفن، وباخ، وموزارت، وشوبان". ويرى الكاتب الصيني "ليو ليانغ تشنغ" في مقال عن فن الخط والرسم أن: "الجمل المكتوبة بالخط تنفصل عن الكتاب، وتنفصل عن النص الأصلي، وتصبح عملًا مستقلًا. لقد حقَّق الخط حلمًا من أحلام اللغة، إنه كلمات تتجاوز الكلمات، الخط سيّد الكلمات.