
يتردد كثيرًا على مسامعنا أن لكل عملة وجهين ظاهرين، ولا خلاف في ذلك لما تحمله من شعارات ورموز وتصاميم، سواء أكانت معدنية أم ورقية. غير أن العملات تخفي، في الوقت نفسه، أوجهًا أخرى أكثر تأثيرًا وفاعلية على ساحة الاقتصاد، مثل قوتها الشرائية وقوتها الرمزية، بما تحمله من دلالات تاريخية وثقافية تُسهم أحيانًا في تأريخ حضارات بعض الدول من ناحية، وتقييم مكانتها في مضمار تنافسية العملات العالمية من ناحية أخرى.
رموز العملات هي مجموعة من الشعارات أو الاختصارات البصرية أو الأكواد الرقمية التي تميّز هوية العملات، وتربطها بشكل واضح بالدولة التي تصدرها من أجل التعرُّف عليها في أسواق التجارة العالمية. فهي بحقٍّ جزء من أبجدية لغة الاقتصاد، وهوية يمكن أن تُترجم إلى قيمة مادية.
تتكوَّن هذه الرموز غالبًا من ثلاثة أحرف: يمثّل الحرفان الأولان اسم الدولة، في حين يُشير الحرف الثالث إلى اسم العملة، مثل: (USD): الدولار في الولايات المتحدة الأمريكية، و(JPY): الين في اليابان، و(SAR): الريال في المملكة العربية السعودية. وهناك أيضًا أكواد رقمية للعملات تُستخدم على نطاق التداول في سوق العملات الأجنبية (Forex)؛ فنرى، على سبيل المثال، رمز الدولار الرقمي 840، واليورو 978. أمَّا النوع الثالث من الرموز، فهي تلك التي تخاطب الحواس البصرية للعامة وأسواق المال على حدٍّ سواء؛ لذا، تعتمد على رموز شكلية (على هيئة شعار) تميّز العملات الأكثر انتشارًا وحضورًا في الأسواق العالمية.
كانت الغاية من ابتكار رموز العملات تيسير التمييز بين العملات الدولية من دون الحاجة إلى الأساليب الأولية التي كانت تلجأ إلى كتابة اسم الدولة وعملتها إلى جوار المبلغ. فكانت بذلك ضربًا من الاختزال الذي لا يستدعي مساحات كبيرة في الفواتير والشيكات وبطاقات الأسعار وشاشات التداول، وحتى على صفحات المتاجر الإلكترونية التي شهدت في العقد الأخير انتشارًا واسعًا، وبات من الحتمي أن يواكبها استخدام رموز موحَّدة ومعتمدة يُلتزم بها عالميًا. ومن ناحية أخرى، كان مبتكرو تلك الرموز يضعون نصب أعينهم سهولة التعرُّف عليها في السياقات الدولية من دون الحاجة إلى معرفة لغتها؛ فالرمز بات كافيًا لأن يُعبِّر عن هوية الدولة وعملتها ووضعها المالي.
مَن يصدر رموز العملات؟ وكيف؟
وراء كل تصميم وتخصيص رمز لعملة ما جهة موثوقة تضمن توحيده واعتماده دوليًا. وفيما يتعلق بالرموز الحرفية، فقد عمدت المنظمة الدولية للمعايير (ISO)، المعنية بتطوير المعايير العالمية مثل الأكواد اللغوية ورموز العملات، إلى إصدار الرموز الخطية وتحديدًا بالمعيار رقم (ISO 4217). أمَّا الرموز الشكلية، فقد جاءت مختلفة عن سابقتها، خاصة أن تصميم الرمز فيها يستند إلى قواعد ومنطلقات محلية. وهنا يبرز دور البنوك المركزية في كل دولة أو بعض الجهات والمنظمات المالية.
تتولى البنوك المركزية مهمة اختيار التصميم من بين نماذج عديدة تطرحها الجهات المختصة بالتصميم، أو من خلال المسابقات المحلية، سواء أكانت فردية أم مؤسسية. ومن ثَمَّ، يقع الاختيار على التصميم الأنسب لاعتماده رسميًا والترويج له على المستويين المحلي والدولي ليشغل موقعه بين الرموز الدولية وترتيبه بينها وفقًا لقوة العملة ومدى تأثيرها.
ليس من الحكمة أن يُخيَّل إلينا أن بلوغ هذا المسعى أمر يسير. فلكي تلقى تلك الرموز انتشارًا وتعميمًا واسعين، لا يتوقف الأمر على نشرها في أوساط المؤسسات المالية فحسب، بل يحتاج أيضًا إلى تفعيلها على أنظمة التشغيل الكمبيوترية والهواتف الذكية، وكذلك المتاجر الإلكترونية. هذا، فضلًا عن تخصيص الرمز على لوحات المفاتيح على جميع أنماط الأجهزة، وأيضًا على تصاميم العملة الورقية والمعدنية، وهو ما يتطلب مراحل تدريجية على المدى الطويل.

رموز العملات.. تاريخ يُكتب وأثر يبقى
لا ريب في أن رموز العملات الشكلية، على وجه التخصيص دون غيرها من الرموز الحرفية أو الرقمية، تستند إلى أصول تتفاوت ما بين أيديولوجية أو تراثية أو سياسية. وفي أبسط حالاتها، جاءت هذه الرموز تحريفًا خطيًا أو لغويًا لكلمات وعبارات كانت معروفة وشائعة في الوثائق التجارية لتلك الدول في عصورها القديمة. ومن أقدم تلك الرموز في الظهور من الناحية الزمنية، رمز الجنيه الإسترليني (£)، الذي يُعدُّ في الأصل اختصارًا لـ(libra pondo)، وهي عبارة لاتينية تعني "رطلًا من الوزن"، وكانت تمثِّل وحدة وزن رئيسة في الإمبراطورية الرومانية؛ أي خلال القرون الأربعة الأولى للميلاد. وبمرور الزمن، أُضِيف إليه خط أفقي في منتصفه ليظهر على شكله الحالي.
أمَّا الرمز الخاص بالدولار الأمريكي ($)، فيعود إلى القرن الثامن عشر الميلادي، ويرجع أصله إلى العملة الإسبانية (PESO)، التي تُعدُّ اختصارًا لـ(peso de ocho reales)؛ أي "وزن ثمانية قطع"، وهي وحدة نقدية فضية شهيرة في الإمبراطورية الإسبانية، ثم أصبحت قيد التداول في المستعمرات الأمريكية بعد ذلك. وكان أول ظهور لها في المعاملات التجارية والسندات المالية على هذا النحو (PS). ثمَّ شهد الرمز تطورًا طفيفًا بظهور حرف (S) يعلو حرف (P). وفي مرحلته الأخيرة من التطوير استُعيض عن حرف (P) بالخط التقاطعي الرأسي وأحيانًا بخطين، فظهرت علامة ($) للمرة الأولى بعد عام 1800م، وظهرت رسميًا على أول إصدار للدولار الورقي عام 1875م؛ لترسِّخ بذلك جزءًا من تاريخ الهوية والثقافة الأمريكية.
وانتشر هذا التقليد تباعًا في كل ربوع العالم، ولا سيَّما في الكيانات الاقتصادية المؤثرة. فظهر الين الياباني (¥)، وهو مشتق من الحرف (Y)، الحرف الأول من اسم العملة، مُضافًا إليه خطان أفقيان. وجدير بالذكر أن مصطلح "ين" في اللغة اليابانية يعني "دائري" أو "دائرة"، واختِيرت هذه المفردة لإطلاقها على العملة المعدنية للتناغم مع شكلها. وعلى الرغم من أن النطق الصحيح باللغة اليابانية للعملة هو (En)، فإنه يُنطق ويُهجَّى على النطاق الدولي باسم (Yen)، وهو النطق الإنجليزي للكلمة، الذي اختارته اليابان دون لغتها المحلية عند تصميم الرمز. وهذا ما يعكس وجود أهداف اقتصادية ذات أبعاد دولية مقرونة باللحظات الأولى من إنشاء العملة ورمزها. وكذلك اليورو، العملة الرسمية للاتحاد الأوروبي (€)، فقد جاء رمزه مُقتبسًا من الحرف الأول من (Europe) في رأي، أو أن يكون من أصل الحرف إبسيلون (ϵ)اليوناني تعزيزًا للهوية التاريخية. ولعلَّه من الملاحظ أن الغالبية العظمى من رموز العملات تتضمن خطوطًا منتظمة، سواء أكانت أفقية أم رأسية، تحمل دلالات تتعلق بالاستقرار المالي.
أمَّا على المستوى العربي، فقد كان للمملكة العربية السعودية السبق في إصدار الرمز الشكلي لعملتها "الريال". إذ دشَّن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، في 20 فبراير 2025م، الرمز الشكلي للريال السعودي في خطوة تاريخية تُعزِّز هوية العملة الوطنية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، ولا سيَّما أن تصميمه جاء ليمزج ما بين الهوية الثقافية المتمثّلة في كل من اسم العملة "ريال"، الذي يمثّل امتدادًا تاريخيًا للعملة السعودية الوطنية التي صدرت عام 1346هـ في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، وكذلك استخدام اللغة العربية بوضوح في الرمز باعتبارها صاحبة الفضل في تطوير العلوم والثقافة حول العالم، مع إضافة بعض اللمسات في التصميم التي تعكس الحداثة والتطوير التي تشهدها المملكة.
ومما لا شكَّ فيه أن هذا الإجراء يُعدُّ بمنزلة قفزة واسعة نحو تسليط الضوء على مكانة المملكة بين أكبر الاقتصادات العالمية وأعضاء مجموعة العشرين. إذ يُتيح الفرصة للريال السعودي أن يواكب المعايير المالية الحديثة، خاصة بعد تنامي دوره ضمن المنظومة المالية العالمية بما يتفق مع "رؤية المملكة 2030" لتعزيز الاقتصاد الوطني والتحول الرقمي.
وقد جاء تصميم رمز الريال السعودي بشكله الذي بات معروفًا، نتيجة تضافر جهود عديدة شملت البنك المركزي السعودي، ووزارتي الثقافة والإعلام، والهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة. وفور تدشين الرمز الجديد، أعلن محافظ البنك المركزي عن بداية تطبيقه بشكل رسمي وتدريجي في المعاملات المالية والتجارية التقليدية والإلكترونية، بالتنسيق مع جميع الجهات ذات العلاقة.
حين يتحول الرمز إلى قوة اقتصادية
واكب مفهوم العولمة والأسواق الدولية المفتوحة، فتحُ آفاق جديدة للتنافس بين الكيانات الاقتصادية الكبرى في العالم، ومحاولة كلٍّ منها نيلَ نصيب وافر من حصة التجارة العالمية. ولكي تجعل لنفسها موطئ قدم وتراتبية مميزة في عالم الاقتصاد، بات على هذه الكيانات أن تستوفي متطلبات القوة والتميز. ومن بين أدوات هذا التميز، تقييم مستوى العملة ورمزها والاعتراف بها في الأسواق الدولية، حتى صارت رموز العملات بمنزلة التوقيع البصري الذي يُعبِّر عن نهضة الدولة ومكانتها الاقتصادية. وعلى جانب آخر، ومع النمو المتواصل للتجارة الإلكترونية، فقد أتيحت ميادين أوسع للمنافسة الدولية من أجل إثبات الوجود على الساحة الاقتصادية.
فقد تفرض بعض العملات قوتها وحضورها وسط السوق العالمي من خلال ظهور رمزها على عدد من الشواهد الاقتصادية، ابتداءً من أبسطها إلى أكثرها تعقيدًا؛ إذ يمكننا أن نرى رموز العملات على بطاقات الأسعار والفواتير والأسواق الإلكترونية وشاشات البورصات العالمية. وهنا، قد يغيب عنا السؤال حول أسباب ظهور رموز لعملات بعينها من دون الأخرى. وواقع الأمر أن الإجابة هنا مرهونة بمستوى القوة الاقتصادية للدولة، وهو ما ينعكس على عملتها، ومن ثَمَّ حضور رمزها. وهذا ما يتوافق تمامًا مع المرحلة الحالية التي تشهدها المملكة في مجال تعزيز هويتها المالية على المستويين المحلي والدولي، فكان الرمز الجديد للريال السعودي استجابة للاحتياجات الجديدة وليس فقط تعبيرًا عن المكانة التي باتت المملكة تحتلها بين الاقتصادات الكبرى في العالم.
ففي المحصلة، يمكننا القول إن رموز العملات ليست مجرد إشارات أو شعارات تزيّن الأوراق النقدية، بل هي لغة عالمية تختصر تاريخ الدول وقوتها الاقتصادية وتطلعاتها المستقبلية. وتظل رموز العملات شاهدة على مسيرة الشعوب، وقوة خفية تُحرِّك أسواق العالم.