
تُعدُّ النفايات الكهربائية والإلكترونية واحدة من أكثر النفايات السامة شيوعًا، وتشمل كل الأجهزة والأدوات المهملة، مثل: الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر والأجهزة المنزلية والمعدات الطبية، وما إلى ذلك. وهي ترتفع بمعدل أسرع بخمس مرات من معدل إعادة تدويرها. ووفقًا لتقرير عام 2024م، الصادر عن "معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث"، أنتج العالم 62 مليون طن من النفايات الإلكترونية في عام 2022م وحدَه. وما يفاقم هذا الوضع هو التقدُّم العلمي والتكنولوجي المتسارع، الذي لا يُعير أهمية تُذكر لما ينجم عن ذلك من نفايات متراكمة.
قدَّر "برنامج الأمم المتحدة للبيئة" في عام 2019م، وكان حجم النفايات، آنذاك، نحو 50 مليون طن، أن هذه الكمية السنوية من النفايات الإلكترونية أكبر من الوزن الإجمالي لجميع طائرات الركاب التي صنعها البشر على الإطلاق. كما قدَّر "معهد التدريب والبحث" أيضًا، أنه إذا جُمِعت نفايات عام 2024م بواسطة شاحنات نموذجية تبلغ حمولة الواحدة منها 40 طنًا، فسيتطلب الأمر 1.55 مليون شاحنة من هذا القبيل، وهو ما يكفي لتطويق الكرة الأرضية عند خط الاستواء، إذا رُتِّبت متلاصقة في خط واحد. إضافة إلى ذلك، من المتوقع أن يرتفع إنتاج النفايات الإلكترونية السنوي إلى أكثر من 74 مليون طن بحلول عام 2030م، مدفوعًا بطفرة الذكاء الاصطناعي وغيره من الابتكارات الجديدة.
هناك عدة أسباب وراء هذه المشكلة، أهمها التقادم المخطَّط له واعتبارات الموضة عند التصميم للمنتجات الإلكترونية؛ بحيث تصبح قديمة بعد فترة غير طويلة، وعدم توفر خيارات الإصلاح، والبنية التحتية المتخلفة للتخلص من النفايات الإلكترونية. وبسبب هذه المشكلات، يتوقع معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث، أن ينخفض معدل إعادة التدوير من %22.3 عام 2022م إلى %20 بحلول عام 2030م، بفعل اتساع الفجوة بين إنتاج النفايات الإلكترونية، التي فاقمتها التطورات العلمية والتكنولوجية المتسارعة وإعادة التدوير.
بانتظار تفعيل الحافز الاقتصادي
على الرغم من الصورة السوداء هذه، هناك جانب مضيء قد يحفّز على إعادة تدوير هذه الفئة من النفايات في حال تفعيله: فعلى عكس كثير من أنواع النفايات الأخرى، فإن إعادة تدوير النفايات الإلكترونية لا تمتلك فائدة بيئية فحسب، بل فائدة اقتصادية أيضًا. إذ يُقدِّر المعهد نفسه، أن النفايات الإلكترونية التي جرى توليدها في عام 2022م تحتوي على معادن أرضية نادرة تبلغ قيمتها 91 مليار دولار أمريكي. وبحسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة، فإن كل طن واحد من النفايات الإلكترونية يحتوي على ذهب أكثر بمائة مرة من طن واحد من خام الذهب. تُبدَّد هذه الإمكانات الاقتصادية الهائلة؛ إذ تجري إعادة تدوير أقل من ربع النفايات الإلكترونية بشكل صحيح.
مخاطر إعادة التدوير غير السليم
في حين أن صناعة إعادة التدوير تتجاهل إلى حدٍّ بعيد هذا المصدر للمعادن الثمينة، فإن العمل على استخراجها من النفايات يحصل جزئيًا وبشكل غير رسمي من قِبل عمَّال غير مهرة، يشكِّل عملهم خطرًا على أنفسهم وعلى محيطهم. لأنه بالإضافة إلى المواد المفيدة، يحتوي كثير من الأجهزة الإلكترونية أيضًا على مواد سامة، تكون محتواة بأمان بداخلها أثناء تشغيل الأجهزة. لكن بمجرد وصول الجهاز إلى نهاية دورة حياته والتخلُّص منه بشكل غير صحيح، يمكن أن تتسرب هذه العناصر السامة وتُلوث البيئة. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية في أكتوبر 2024م، فإن إعادة تدوير النفايات الإلكترونية بشكل غير صحيح تُطلق ما يصل إلى 1000 ملوث مختلف في التربة والمياه والهواء، ومن بينها السموم العصبية مثل الكادميوم والرصاص والزئبق، التي يمكن أن تضر بتطور الجهاز العصبي المركزي. ومن ثَمَّ، تتأثر به النساء الحوامل والأطفال والمراهقون بشكل خاص.
أصبحت هذه الممارسة غير الصحية وغير القانونية تُعرف بـ"التعدين الحضري"؛ أي استخراج المكونات القيِّمة من نفايات المناطق الحضرية ومناطق الدول المتقدمة. وعلى الرغم من وجود لوائح وتعليمات دولية متعلقة بالنقل السليم للنفايات الإلكترونية، فإنها غالبًا ما تُنقل بشكل غير قانوني من الدول ذات الدخل المرتفع إلى دول العالم النامي، وفقًا لمصدر منظمة الصحة العالمية المذكور.
وفي هذا السياق، أجرت وكالة حماية البيئة الأمريكية وجامعة سينسيناتي، دراسة عام 2016م، تناولت فيها كثيرًا من هذه الممارسات غير السليمة والشائعة في مواقع التخلُّص منها وحولها. وأظهرت أن هذه الممارسات تشمل تحطيم أنابيب أشعة الكاثود بالمطارق لجمع النحاس الموجود بداخلها، وهو ما يُطلق غبار الفوسفور السام؛ وطهي لوحات الدوائر الإلكترونية على لهب مكشوف لتفكيكها، وهو ما يُطلق أبخرة الرصاص كمنتج ثانوي؛ وغمْر الرقائق الإلكترونية في الأحماض لاستخراج الذهب، وهو ما يترك وراءه رواسب سامة.
أكثر هذه الممارسات انتشارًا وخطورة هو الحرق في الهواء الطلق؛ إذ تُحرق الأغلفة لكشف المكونات الثمينة بداخلها مثل الأسلاك النحاسية. ويحتوي البلاستيك، الذي تُصنع منه الأغلفة، على معادن ثقيلة ارتبطت بالإصابة بالسرطان. ويمكن للعناصر السامة المنبعثة في الهواء عن طريق الحرق في الهواء الطلق أن تنتقل إلى مسافات طويلة وتُلوث مساحات واسعة.
“
لا يزال جزءٌ كبيرٌ من إعادة تدوير النفايات يجري بطرق بدائية على أيدي جهات تعتمد على عمالة الأطفال، ويُلحقون أضرارًا فادحة بالصحة العامة والبيئة.
تشمل بعض الآثار الصحية السلبية الناتجة عن التعرّض للمواد السامة المنبعثة من إعادة تدوير النفايات الإلكترونية غير السليمة، حالات الإملاص أو موت الجنين، وصعوبات النمو العصبي والتعلُّم (بسبب التعرّض للرصاص)، ومشكلات الجهاز التنفسي، والربو (بسبب الحرق). ومن المعروف أن الزئبق تمتصّه المشيمة وحليب الأم، ومن ثَمَّ، يُمكن أن يُؤثّر في الجهاز العصبي المركزي للأطفال. كما يُمكن أن تُقوّض الملوثات السامة الأخرى جهاز المناعة وتؤثر في نموّ الرئتين.

بينما يتسابق العالم لتطوير تكنولوجيات جديدة، غالبا ما يُتجاهل سؤال بالغ الأهمية: ماذا يحدث للتكنولوجيات القديمة؟ علَّقت على ذلك الباحثة في النفايات الإلكترونية من جامعة شيكاغو، ياسمين لو، بالقول: "مع ازدياد معرفتي بأبحاث الحوسبة وحضوري للمؤتمرات، أذهلني مدى سرعة ابتكارنا لتقنيات جديدة. وأذهلني أيضًا ندرة تركيزنا على النفايات الناتجة عن كل تقنية جديدة تُطرح في السوق. وعلى سبيل المثال، تخيلوا كم من الناس يُحدّثون هواتفهم فور إصدار طراز أحدث. ونظرًا لأن النفايات الإلكترونية تُعدُّ أسرع مصادر النفايات نموًا في العالم، فقد رغبتُ بشدة في استكشاف كيفية الحد من إنتاجها".
الذكاء الاصطناعي والنفايات النتاجة عنه
غير أن دراسة جديدة أجراها باحثون من الأكاديمية الصينية للعلوم وآخرون، ألقت نظرةً خاصة على نماذج اللغات الكبيرة مثل (ChatGPT)، ودرست تأثيرها البيئي المحتمل في المستقبل. وقد أثارت القدرات الخارقة لهذه الأنظمة في إنتاج نصوص مقنعة وأداء مهام معينة، مثل كتابة الأكواد، بعض المخاوف. إذ لا يعتمد الذكاء الاصطناعي فقط على التقدُّم في تطوير البرمجيات، بل يعتمد أيضًا على التحسينات التكنولوجية في الرقائق الدقيقة والبنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات. ويستلزم تطوير هذه الأنظمة التخلُّص من الإصدارات القديمة وتفكيكها، وهو ما يجعل كثيرًا من الأجهزة الشائعة متقادمة، فيزيد من كمية النفايات الإلكترونية. ونتيجة لذلك، كما تستنتج الدراسة المذكورة آنفًا، سيُحاكي الذكاء الاصطناعي أحد أكثر جوانب البشرية ضررًا: التدمير البيئي.
لكن لعالِم المستقبليات في العلوم والتكنولوجيا المعروف، بيتر لايدن، رأيًا آخر. فهو يقول إننا نعيش لحظة تاريخية استثنائية. إن الاكتشافات العلمية الأساسية والاختراعات التكنولوجية المتفرقة في الحقبة السابقة تكثّفت في عام 2025م؛ لتشكِّل نقطة التقاء بين حقبتين تاريخيتين مختلفتين تمامًا. إننا نشهد نهاية القرن العشرين الطويل، ونبدأ برؤية عالم القرن الحادي والعشرين الجديد ينبثق أيضًا. وكل المشكلات الكبرى التي شهدها القرن العشرون من أزمة المناخ والبيئة إلى مشكلة النفايات وغيرها، ستجد لها حلولًا، وسيشهد العالم في مرحلة 2025م – 2050م ازدهارًا مستدامًا غير مسبوق.
طرق الحد من النفايات الإلكترونية
يمكن اتخاذ تدابير معينة لتقليل النفايات الإلكترونية الناتجة عن التطورات التكنولوجية المتسارعة بنسبة تصل إلى %86. فوكالة الطاقة الدولية، إضافة إلى عديد من شركات التكنولوجيا، تُروِّج لمفهوم الاقتصاد الدائري، الذي يُمكن استخدامه للحد من النفايات الإلكترونية. ويتطلب ذلك أولًا إطالة عمر المنتجات الإلكترونية وما يتعلق بها، ثم إعادة استخدام أجزاء ومواد الأجهزة المُتوقَّفة عن العمل لبناء أجهزة جديدة. أمَّا بالنسبة إلى الأجهزة التي لا يُمكن إصلاحها، فهناك كثير من خيارات إعادة التدوير الجديدة الناشئة. فقد طوَّر باحثون من جامعة كورنيل، مثلًا، طريقة جديدة لاستخراج الذهب بكفاءة من المكونات الإلكترونية وفقًا لتقرير (Nature Communications) في 30 ديسمبر 2024م. بينما تستخدم الطرق التقليدية لاستخراج الذهب وسائل غير سليمة تعتمد على محاليل كيميائية خطرة مثل السيانيد.
وأيضًا تُعالج النفايات الإلكترونية بتحويلها إلى غبار نانوي، وفقًا لتقرير "ساينس أليرت" في مارس 2017م. فقد وجد باحثون من جامعة رايس في تكساس طريقة لطحن لوحات الدوائر الإلكترونية وتحويلها إلى غبار ناعم داخل مطاحن التبريد العميق في درجات حرارة منخفضة جدًّا، وهو ما يسمح بفصل جميع المكونات عن بعضها. إنها طريقة اقتصادية لإعادة تدوير النفايات الإلكترونية، لا تعتمد على المواد الكيميائية السامة ودرجات الحرارة العالية، التي تميل إلى دمج العناصر معًا بدلًا من فصلها، وهو ما يستهلك كثيرًا من الطاقة.