
في عالم تتسارع فيه وتيرة الحياة وتزداد التحديات الأكاديمية والمهنية، لم يعد التعليم مقتصرًا على الفصول والمقررات الأكاديمية، بل أصبح النجاح الحقيقي يُصاغ، أيضًا، خارج حدود المنهج، في مساحات الإبداع والتجربة التي توفرها الأنشطة اللامنهجية. هنا، حيث تلتقي الرياضة بالفن، والاستكشاف بالتجارب، وتتفعل مواهب الطلاب في الأندية والمبادرات التطوعية، يبدأ التشكُّل الحقيقي لشخصية الطالب، وتُزرع بذور القيادة والابتكار.
الأنشطة اللامنهجية ليست مجرد ترف أو وسيلة لتمضية الوقت بعد انتهاء الدوام المدرسي، بل هي مختبرات حية تُصقل فيها المهارات وتُبنى فيها العلاقات وتُكتشف فيها الذات. إنها المساحة التي يختبر فيها الطالب معنى العمل الجماعي، ويتعلم كيف يواجه التحديات، ويطوّر قدراته على حل المشكلات والتواصل الفعّال. في كل تجربة خارج الصف، يكتسب الطالب خبرات جديدة لا يمكن للكتب وحدَها أن تمنحها؛ من تنظيم الوقت إلى تحمل المسؤولية، ومن ضبط النفس إلى تعزيز الثقة بالنفس والانفتاح على الآخر.
تتجاوز رحلاتنا التعليمية الكتب المدرسية والفصول الدراسية، فتُشكّل الأنشطة اللامنهجية نسيجًا حيويًا متداخلًا في سنواتنا الدراسية لتُقدّم فرصًا قيّمة للتعلم والنمو والتطور. في تعريفها، الأنشطة اللامنهجية هي برامج أو فعاليات منظمة يشارك فيها الطلاب خارج إطار المنهج الدراسي الاعتيادي. وعادة ما تكون تطوعية، ولا تخضع لأي تقييم، ولا تُمنح نقاطًا أكاديمية، كما يمكنها أن تكون أكاديمية أو غير أكاديمية بطبيعتها، بحيث تشمل مجموعة واسعة من الاهتمامات، مثل: الرياضة والفنون والموسيقى والأندية وخدمة المجتمع ومجموعات الاهتمامات الخاصة.
من السمات المميزة للأنشطة اللامنهجية أنها تُنظَّم خارج إطار الفصل الدراسي الاعتيادي، وهي ليست جزءًا من المقررات الدراسية المطلوبة. وبينما تُنظمها أو تُشرف عليها المؤسسات التعليمية غالبًا، فقد تُقدمها أيضًا جهات خارجية. أمَّا المشاركة فيها، فتكون اختيارية عمومًا، وهو ما يسمح للطلاب باختيار الأنشطة التي تتوافق مع اهتماماتهم ومواهبهم وتطلعاتهم.
وثمَّة نقطة مهمة أخرى، وهي ضرورة التمييز بين الأنشطة اللامنهجية والأنشطة المصاحبة للمناهج الدراسية؛ إذ بينما تُنظَّم كلتاهما خارج نطاق التدريس الصفي الاعتيادي، فإن الأنشطة اللامنهجية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمنهج الأكاديمي، وهي مُصممة لتعزيز التعلم الصفي.
في المقابل، قد لا تكون الأنشطة اللامنهجية مرتبطة بالمحتوى الأكاديمي، بل تُركز بشكل أوسع على التنمية الشاملة للطالب.
جذورها التاريخية
من ناحية جذورها التاريخية، تعود أصول الأنشطة اللامنهجية إلى التجمعات الطلابية غير الرسمية في الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، في مؤسسات تعليمية مرموقة مثل جامعات "هارفارد" و"يال" و"برينستون"؛ إذ شكَّل الطلاب في تلك الفترة جمعيات أدبية ونوادي مناظرة، غالبًا بشكل مستقل عن إشراف أعضاء هيئة التدريس. ومع مطلع القرن العشرين، توسع نطاق هذه الأنشطة ليشمل الفرق الموسيقية، ونوادي الدراما، والمنظمات الخدمية.
في البداية، كان المعلمون ينظرون إلى هذه الأنشطة بعين الريبة؛ إذ عدُّوها مُشتتات للانتباه عن الدراسة الأكاديمية، إلا أن حماس الطلاب المُستمر والفوائد الجلية للمشاركة في تلك الأنشطة أدت تدريجيًا إلى قبول أكبر لها. وهكذا شهدت الفترة الممتدة من عشرينيات إلى خمسينيات القرن الماضي تحولًا ملحوظًا في المواقف تجاه الأنشطة اللامنهجية، وبدأت المدارس والكليات تُدرك قيمتها التعليمية، ودمجتها بصورة أكثر رسمية في الأنظمة التعليمية. وبشكل تدريجي انتشرت في معظم المؤسسات التعليمية في العالم وترسَّخت مكانتها، وأصبحت تشمل مجموعة واسعة من الخيارات، بدءًا من الأندية العلمية والفرق الرياضية، وصولًا إلى الفنون والتكنولوجيا والمنظمات التطوعية.
أمَّا اليوم، فقد ثبتت أهمية الأنشطة اللامنهجية بالنسبة إلى المعلمين والباحثين وأولياء الأمور والطلاب على حد سواء، ولا سيَّما أن كثيرًا من الدراسات قد أُجريت وأثبتت أن الطلاب الذين يشاركون في الأنشطة اللامنهجية يحققون نتائج أكاديمية أفضل، ويكتسبون مهارات اجتماعية أوسع، ويصبحون أقدر على التكيف مع متطلبات الحياة الجامعية والمهنية لاحقًا. كما أن هذه الأنشطة تفتح أمامهم آفاقًا جديدة لاكتشاف شغفهم الحقيقي، وتمنحهم فرصًا لتجربة أدوار قيادية ومبادرات مجتمعية قد تغيّر مسار حياتهم.

على عكس الاعتقاد الخاطئ بأن الأنشطة اللامنهجية تُشتت انتباه الطلاب، تُشير دراسات عديدة إلى أن المشاركة في مثل هذه الأنشطة هي بمنزلة محرّك خفي للتميز الأكاديمي. ففي دراسة نُشرت في "مجلة الدراسات العليا في التربية" (2013م)، أكدت الخبيرة التربوية، كلوديت كريستيسون، أن الطلاب الذين يشاركون في الأنشطة اللامنهجية "يسجلون مستويات أعلى من التحصيل العلمي، وتطورًا في الشخصية، ومهارات تواصل استثنائية، وانخراطًا مجتمعيًا أعمق". أمَّا الباحثة نيكي ويلسون، فتشير في أطروحتها في العلوم التربوية بجامعة ويسكونسن ستوت الأمريكية (2009م)، إلى أن هؤلاء الطلاب "يحصدون درجات مميزة، ونتائج اختبارات لامعة، وحضورًا مدرسيًا منتظمًا، وتصورًا ذاتيًا مشرقًا". وذلك لأن تحقيق التوازن بين العمل المدرسي والالتزامات خارج الفصل الدراسي يتطلب من الطلاب تطوير مهارات أساسية في إدارة الوقت والتنظيم، وهو ما يُترجم تحسّنًا في التركيز والكفاءة في مساعيهم الأكاديمية. فالأنشطة اللامنهجية، إن كانت مناظرات علمية أو أنشطة موسيقية، تشحذ العقول. فأندية المناظرات، مثلًا، تُطلق العنان للتفكير النقدي والبلاغة، والمعارض العلمية تُحوّل النظريات إلى تجارب ملموسة، والأنشطة الموسيقية تحسّن التركيز وتنمّي الذاكرة، ومشاريع الروبوتيك تساعد الطلاب على اختبار هندسة الفيزياء بطرق عملية.
من ناحية أخرى، أوضحت دراسة نشرها المتخصص في الرياضيات، ستيفن ليبسكومب، في العدد ذي الرقم 26 من مجلة "مراجعة اقتصاديات التعليم" عام 2007م، أن المشاركة في الأنشطة الرياضية اللامنهجية ترتبط بارتفاع درجات اختبارات الرياضيات والعلوم بنسبة %2، كما أن الانخراط في الأندية المختلفة يرتبط بزيادة نسبتها %1 في درجات الرياضيات. في حين المشاركة في أي من هذين النوعين من الأنشطة ترفع توقعات الحصول على درجة البكالوريوس بنسبة %5. ومع ذلك، ينبغي عدم اختزال الأنشطة اللامنهجية في كونها مجرد دعم للمواد الدراسية الأساسية؛ إذ إن لكل نشاط منها قيمة ذاتية خاصة، ولكنها قد تُسهم في تحفيز الطلاب أو مساعدتهم على اكتشاف شغف سيظل معهم سنواتٍ، سواء أكان هواية أو عاملًا مؤثرًا في اختيارهم المهني مستقبلًا.

في تقرير صادر عام 2019م عن "لجنة الحراك الاجتماعي" الحكومية في المملكة المتحدة بعنوان "الأنشطة اللامنهجية والمهارات الشخصية والحراك الاجتماعي"، ثبت أن "الأنشطة اللامنهجية تمنح الشباب الثقة للتفاعل اجتماعيًا مع الآخرين، وتوسّع شبكاتهم الاجتماعية لتتجاوز حدود مجموعات الصداقة القائمة، وتزودهم بمهارات وقدرات جديدة". ذلك لأن الأنشطة اللامنهجية تعدُّ بيئة خصبة لتطوير المهارات الاجتماعية والذكاء العاطفي، فهي تُتيح للطلاب فرصًا للتفاعل مع أقرانهم خارج إطار الفصل الدراسي الرسمي، وهو ما يُعزز العمل الجماعي والتواصل والقيادة.
يقول الشاعر الإنجليزي جون دون: "لا يوجد إنسان منعزل"، ويقول ابن خلدون: إن "الإنسان مدني بالطبع"، وفي هذا ما يؤكد أهمية تنمية قدرات التواصل والتعاطف والتعاون مع الآخرين بوصفها حجر الزاوية في النجاح الشخصي والمهني. ومن هنا، تبرز أهمية الأنشطة الجماعية، سواءً أكانت تشمل الانضمام إلى فريق رياضي أم نادٍ للدراما أم مشروع لخدمة المجتمع، فجميعها تُعلّم الطلاب كيفية التعاون وحل النزاعات والعمل على تحقيق أهداف مشتركة.
إضافة إلى ذلك، غالبًا ما تؤدي المشاركة في الأنشطة اللامنهجية إلى تكوين صداقات دائمة، وتبني شبكات دعم قوية تمنح الشباب شعورًا بالانتماء والأمان العاطفي، فالاهتمامات المشتركة والإنجازات الجماعية تُنشئ روابط قوية تمنح الطلاب شعورًا بالانتماء والاستقرار العاطفي. وهذا مهم بشكل خاص خلال سنوات المراهقة المليئة بالتحديات، بحيث يصبح دعم الأصدقاء المكتسبين من هذه الأنشطة طوق نجاة حقيقي، ينعكس إيجابًا على الصحة النفسية والرفاهية.

وعلى مستوى آخر، تُعدّ الأنشطة اللامنهجية ورشة بناء شخصية حقيقية وصقلًا لمهارات الحياة التي تُرافق الطالب مدى العمر. ففي قلب هذه الأنشطة يكمن التحدي الجميل لتخطي الحدود الذاتية، وتحمّل المسؤولية، والمثابرة رغم الصعاب، تمامًا كما تؤكد أنجيلا دكوورث في كتابها "العزيمة.. قوة الشغف والمثابرة" (2016م)، حيث تربط بين الالتزام المستمر بهذه الأنشطة وتنمية المرونة وضبط النفس وعقلية النمو التي تُعدُّ مفتاح النجاح الحقيقي.
فإذا ما أخذنا الرياضة، مثلًا، ففيها يتعلم الطلاب قيمة العمل الجماعي، واللعب النظيف، وكيفية التعامل مع النصر والهزيمة برقي. بينما في ساحات الفن والموسيقى والرقص والمسرح، يُطلق العنان للإبداع، ويترسّخ الانضباط، ويتعزّز التعبير عن الذات. أمَّا في مجالس الطلاب والأندية، فتتفتح مهارات القيادة، وتُنمّى روح المبادرة، ويُكتسب فن إلهام الآخرين وتنظيم العمل.
لكن الفائدة لا تقف عند هذا الحد، فالأبحاث تشير إلى أن المشاركة المنتظمة في الأنشطة اللامنهجية تقلل من السلوكيات الخطرة؛ إذ وجدت دراسة "نيكي ويلسون"، (المشار إليها سابقًا)، أن المشاركين كانوا أقل عرضة لاستخدام المخدرات والكحول، وأقل تسربًا من المدرسة، وأقل تورطًا في السلوكيات الإجرامية. ويعود ذلك إلى شعورهم العميق بالهدف، والانتماء، والهيكلية التي توفرها هذه الأنشطة، وهو ما يجعلهم أكثر توازنًا واستقرارًا نفسيًا.
باختصار، الأنشطة اللامنهجية هي المختبر الذي يُكوِّن فيه الطالب شخصيته المتكاملة، ويبني مهارات الحياة الأساسية التي لا تُدرَّس في الكتب، بل تُعاش وتُختبر؛ لتصبح أساسًا قويًا لتحقيق الإنجازات والطموحات في المستقبل.
وفي المحصلة، يمكننا القول إن الأنشطة اللامنهجية ليست مجرد صفحات هامشية في كتاب الحياة المدرسية، بل قد تكون أهم الفصول التي تُكتب فيها قصص النجاح الحقيقي. وكما قال ألبرت أينشتاين إن: "التعليم هو ما يبقى بعد أن ينسى الإنسان ما تعلمه في المدرسة"، فإن ما يكتسبه الطلاب خارج الصفوف من مهارات وتجارب هو ما يشكِّل رصيدهم الحقيقي في مواجهة تحديات الحياة. لذلك، لنجعل من الأنشطة اللامنهجية جسرًا نعبر به نحو مستقبل أكثر إشراقًا، ولنمنح أبناءنا الفرصة ليكونوا قادة ومبدعين وأفرادًا فاعلين في مجتمعاتهم. فالحياة ليست ما نتعلمه في الكتب فقط، بل ما نصنعه بأيدينا، ونعيشه بقلوبنا، ونحلم به في أذهاننا.