
يشكِّل تأمين الغذاء للشعوب تحديًا تاريخيًا لكل دول العالم، الغنية والفقيرة على حدٍ سواء. فالدول الغنية تخطط لتأمين الغذاء على الآجال الطويلة، فيما الفقيرة منها تتخبط اليوم، وأكثر من أي وقت مضى لدرء شبح الجوع عن شعوبها. ولا عجب في أن عشرات الحروب الطاحنة التي راح ضحيتها الملايين على مدار التاريخ اشتعلت بين شعوب مختلفة، بل بين أبناء الشعب الواحد، بسبب الخلافات على ملكية مصادر المياه والغذاء من أنهار وأراضٍ خصبة. والدليل على ذلك، أن كثيرًا من الحروب نفسها سُمّيت بأسماء أطعمة، مثل حرب "سمك القد"، التي اندلعت بين بريطانيا وأيسلندا على مدار سنوات في منتصف القرن الماضي. والسبب الرئيس فيها كان الصراع على المياه الإقليمية في المحيط الأطلسي، التي اشتهرت بوفرة أسماك القد ذات القيمة الغذائية والاقتصادية العالية للدولتين. فماذا عن حال الغذاء في عالم اليوم؟
واحد من المؤشرات التي يُعتمد عليها لتقييم إمدادات الغذاء للأفراد حول العالم، هو الإمداد اليومي المُتاح للسعرات الحرارية لكل فرد، الذي تعتمده منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "الفاو" منذ ستينيات القرن الماضي. وعندما نتحدث عن الإمداد المُتاح، فنحن لا نحسب الطعام المُهدَر الذي ينتهي في النفايات وغيره، بل كمية السعرات الحرارية المُتاحة لكل فرد للاستهلاك، سواء استهلكها أم لا، وسواء كان مصدرها حيوانيًا أم نباتيًا. وفي إحصاءات عام 2022م الصادرة عن "الفاو"، يتذيّل المواطن الإفريقي هذه القائمة بـ2530 سعرًا حراريًا متاحًا في اليوم، يليه المواطن الآسيوي بـ2930 سعرًا، ثم مواطنو أمريكا الجنوبية بـ3156 سعرًا، ثم أوروبا بـ3452 سعرًا، ويحتل قمة هرم السعرات المتاحة لكل فرد مواطنو أمريكا الشمالية بـ3573 سعرًا حراريًا.
وجدير بالذكر أيضًا أن هذه الأرقام تحسّنت كثيرًا على مدار العقود السابقة. فمثلًا، في إفريقيا كان متوسط السعرات اليومي لأفرادها في بدايات الستينيات من القرن الماضي نحو 2012 سعرًا؛ أي أنه زاد بمقدار 500 سعر. كما أن حال آسيا في هذا المجال خلال الستينيات كان دون مستوى إفريقيا، خلافًا لما هو الحال في وقتنا الحاضر، وفي هذا ما يشير إلى جهود بُذلت في آسيا وتغيُّر في الأحوال الاقتصادية، وهو ما أدى إلى هذا التحسُّن.
هناك مشكلة أخرى تتضح في إفريقيا، وهي أن هناك تفاوتًا كبيرًا بين أبناء البلد الواحد في القدرة على الحصول على هذا الإمداد من السعرات. لذلك، نرى أعدادًا كبيرة جدًا من أبناء القارة السمراء يعانون أمراض سوء التغذية، على الرغم من أن المتوسط العام قد يعطي مؤشرًا أن الحال ليس بذلك السوء. ففي عام 2020م، مثلًا، كانت سبع دول إفريقية ضمن أسوأ عشر دول عالميًا في عدالة توزيع الإمداد الغذائي من السعرات.
حجم المشكلة بالأرقام
على الرغم من هذا التحسُّن في إمدادات الغذاء، واجه حوالي 733 مليون شخص الجوع في عام 2023م؛ أي ما يعادل واحدًا من كل أحد عشر شخصًا على مستوى العالم، وواحدًا من كل خمسة في أفريقيا. وازداد عدد الجياع بين عاميْ 2019م و2023م نحو 152 مليونًا، وفقًا لأحدث تقرير عن "حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم" الذي نشرته خمس وكالات متخصصة تابعة للأمم المتحدة في 24 يوليو 2024م. وأضاف التقرير: "تتفاوت الاتجاهات الإقليمية بشكل كبير؛ إذ تستمر نسبة السكان الذين يعانون الجوع في إفريقيا في الارتفاع لتصل إلى %20.4، وتظل مستقرة في آسيا بنسبة %8.1، وإن كانت لا تزال تُمثّل تحديًا كبيرًا. فالمنطقة تضم أكثر من نصف مَن يعانون الجوع في العالم، وتُظهر تقدُّمًا في أمريكا اللاتينية بنسبة %6.2. ومن عام 2022م إلى عام 2023م، ازداد الجوع في غرب آسيا ومنطقة البحر الكاريبي وأنحاء عديدة في إفريقيا".
إضافة إلى ذلك، فإن التقرير نفسه يُسلّط الضوء على أن الحصول على غذاء كافٍ لا يزال بعيد المنال بالنسبة إلى مليارات البشر. ففي عام 2023م، واجه حوالي 2.33 مليار شخص حول العالم انعدام أمن غذائي متوسطًا أو شديدًا. هذا الرقم لم يتغير بشكل ملحوظ منذ التحسُّن الكبير الذي شهده عام 2020م في ظل جائحة كوفيد-19. ومن بين هؤلاء، عانى أكثر من 864 مليون شخص انعدام أمن غذائي حادًا، حيث حرموا أنفسهم من الطعام يومًا كاملًا أو أكثر في بعض الأحيان. وظل هذا العدد مرتفعًا بشكل مستمر منذ عام 2020م. وبينما تُظهر أمريكا اللاتينية تحسنًا، لا تزال هناك تحديات أوسع نطاقًا، ولا سيَّما في إفريقيا التي يعاني %58 من سكانها انعدام أمن غذائي متوسطًا أو شديدًا.
عوامل فاقمت الأوضاع
والحال أن ما فاقم هذا الوضع سوءًا هو الجائحة التي اجتاحت العالم بدءًا من ديسمبر 2019م، وعرقلت جهود الوصول إلى هدف القضاء التام على الجوع بحلول عام 2030م. فمع فترات الإغلاق، التي حدثت في مناطق عديدة في العالم، تعرقلت جهود نقل الطعام وتوزيعه، بالإضافة إلى الآثار الاقتصادية التي أفقدت الكثيرين وظائفهم، وهو ما زاد من صعوبة الحصول على القدر الكافي والجودة المطلوبة من الطعام.
على جانب آخر، فإن أكثر الأنظمة الزراعية المُستخدمة حاليًا حول العالم، التي تحاول تغطية الفجوة الغذائية، مسؤولة عن ثُلث انبعاثات غازات الاحتباس الحراري إلى الغلاف الجوي، وتستهلك نحو %70 من الاستهلاك الكلي للبشر من الماء. كما أن محاولة التوسع في الأراضي الزراعية مسؤولة بشكل مباشر عن %80 من أنشطة قطع الغابات حول العالم. وكل ذلك ينعكس في النهاية سلبًا على إنتاج الغذاء.
ويمكن إرجاع مشكلات الجوع في العالم إلى أسباب متعددة، في مقدمتها النزاعات المسلحة التي تُعطّل الزراعة أو تربية الحيوانات أو المصانع في المناطق المنكوبة. إن نسبة كبيرة من المسؤولية عن هذا الجوع تقع على التدمير الناجم عن الصراعات والنزاعات، أو عدم القدرة على مزاولة أنشطة الزراعة والصناعة بسبب الخطر.
وهناك سبب آخر لمشكلة الجوع في العالم، وهو الزيادة السكانية، ولا سيَّما في الدول الفقيرة. فمع كل الأسباب السابقة لنقص الطعام، يسبب زيادة أعداد البشر ضغطًا على الموارد المتناقصة أصلًا. كما أن هذه الزيادة تدفع في كثير من البلدان إلى التوسع العمراني على حساب الأراضي الزراعية، التي تتناقص مساحتها باستمرار.

السوق يظلم المزارعين
استنتجت دراسة أجراها "معهد بوتسدام لأبحاث تأثيرات المناخ" الألماني، أن الضريبة على المناخ وعوامل السوق الأخرى تؤثر سلبًا في إنتاج الغذاء. فبموجب هذه الضريبة، يحصل المزارعون على نسبة أقل مما ينفقه المستهلكون على الغذاء، وهو ما يقلّل من إجمالي الإنتاج. على سبيل المثال، تشتري الدول الغنية بشكل متزايد المنتجات المصنعة، مثل الخبز والجبن والحلوى وغيرها، حيث لا تُشكّل المكوّنات الخام، مثل القمح، غير جزء ضئيل من التكلفة أو السعر النهائي للسلعة؛ وهو الجزء الخاضع لضريبة المناخ. بينما يُنفق الجزء الأكبر من السعر على المعالجة، والبيع بالتجزئة، والتسويق، والترويج والنقل؛ أي على القيمة المضافة. وهذا يعني أن المستهلكين يتمتعون بحماية كبيرة من تقلبات أسعار المنتجات الزراعية الناتجة عن سياسات المناخ، مثل فرض الضرائب على التلوث أو القيود المفروضة على توسيع الأراضي. ولكنه في المقابل، يُبرز ضآلة دخل المزارعين الفعلي، كما ورد في الدراسة التي نُشرت في مجلة "نيتشرفود" (naturefood) في 3 يناير2025م.
للوصول إلى هذه الاستنتاجات، جمع فريق العلماء بين الإحصائيات والنمذجة القائمة على عمليات المعالجة لتقييم مكوّنات أسعار المواد الغذائية في 136 دولة و11 مجموعة غذائية. وخلص إلى أنه مع تطور الاقتصادات وتصنيع أنظمة الغذاء ودخول الروبوتات، سيتراجع بشكل متزايد نصيب المزارعين من إنفاق المستهلكين، وهو مقياس يُعرف بـ"حصة المزرعة" من أموال الغذاء. يؤدي ذلك إلى انخفاض إنتاج الغذاء ورفع أسعاره، وهو ما يزيد من أعداد الجياع ويفاقم مشكلة نقص الغذاء ويجعلها مستعصية.
حلول غير تقليدية
يتمحور بحث هذه القضية العالمية حول حلول غير تقليدية وإيجاد طرق مبتكرة لإنتاج المزيد من الطعام، مع الأخذ في الاعتبار الآثار البيئية الناتجة عنها. فاستخدام الأسمدة والمواد الكيميائية الزراعية لزيادة الإنتاجية، مثلًا، قد يُقلّل من فجوة النقص، لكن أثره البيئي مدمّر على المدى الطويل. فعمليات صناعة الأسمدة نفسها تُطلق غازات الاحتباس الحراري، وهذا يجعل الأسمدة والمخصبات حلًا غير مرشح إذا أردنا مخرجًا طويل الأمد من مشكلة نقص الغذاء.
أتاحت ثورة الذكاء الاصطناعي الاستفادة القصوى من الموارد المُتاحة بتطبيق ما يُعرف بـ"الزراعة الدقيقة"، من خلال تحليل بيانات الطقس ومتابعة المحصول، لمد المزروعات بكميّات المياه الدقيقة اللازمة لري النبات في تلك الفترة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي التنبؤ المبكر بالأمراض عن طريق تحليل البيانات، بما يمكّن المزارعين من اتخاذ التدابير اللازمة في الوقت المناسب. ولكن هذا يتطلب بالتأكيد مزارعين مدربين على إدارة هذه الأنظمة لتحقيق أقصى استفادة منها.
إضافة إلى الحلول المقترحة، هناك أيضًا دور مجتمعي كبير في الإسهام في حل مشكلة الغذاء عالميًا. فجزء كبير من المشكلة يمكن أن يُحل ببساطة عن طريق التوعية بأنماط استهلاكية تستهدف تقليل هدر الطعام حتى الحد الأدنى. فثلث الطعام المُنتج يصل في نهاية المطاف إلى النفايات (بسبب الأنماط الاستهلاكية الخاطئة، أو بسبب تلف المواد الغذائية أثناء النقل والتخزين)، وهو ما يُقدّر بنحو 1.3 مليار طن. والحد من تلك النفايات سيُسهم في حل المشكلة من جانبين: أولًا، أن استهلاك الفرد نفسه من المواد الغذائية المُشتراة سيقل، وهو ما يخلق وفرة تؤدي إلى انخفاض أسعار السلع الغذائية. ثانيًا، تُعدُّ معالجة النفايات نفسها مستهلكة لموارد كبيرة، بل وتُطلق إلى الغلاف الجوي نحو 3.3 بلايين طن من غازات الاحتباس الحراري، وفقًا لما ذكره موقع مؤسسة (Concern wordwide us).