
في أكتوبر من عام 2010م، أعلنت الأكاديمية السويدية فوز الكاتب البيروفي، ماريو فارغاس يوسا، بجائزة نوبل "لرسمه خريطة لبُنى السُلطة وما يرتبط بها من صور المقاومة والتمرد وهزيمة الفرد".
كان يوسا، حينئذٍ، في الرابعة والسبعين، وقد بدأ مسيرته الأدبية منذ نحو خمسين عامًا تقريبًا، وحاز كل الجوائز الأدبية الكبرى في أمريكا اللاتينية وإسبانيا ودول أوروبية عديدة. وقد عدَّه النقَّاد منذ الستينيات أحد أعمدة تيار الانفجار العاصف، إلا أنه في عام فوزه بنوبل لم يكن من ضمن سلّة الرهانات. لكنه حصل على الجائزة بفارق 28 عامًا بين فوزه وفوز ابن قارته ورفيقه في تيار الانفجار غابرييل غارسيا ماركيز. ولطالما كان اسماهما مرتبطين حبًا وحربًا، وتنافسًا وتعاونًا. ربَّما يجعلنا ذلك نتوقف قليلًا أمام مسيرة يوسا، الذي ودّع الحياة في 13 أبريل عن عمر يناهز 89 عامًا.
حين قرَّر ماركيز المنتمي للأرض الكولومبية هجرها، ذهب إلى المكسيك، بينما كانت عينا يوسا منذ البداية على الهرب إلى أوروبا والنظر من مسافة بعيدة إلى أرضه، متحرِّرًا من سؤال الهوية الواحدة، ومستوعبًا لتعدد الهويات. فقد كان يرى أوروبا يوتوبيا يتحقق فيها الكاتب، وأرضًا تتمتع بالحرية التي يتطلع إليها جاهزةً، والنضال منها من أجل أرضه. وعلى عكس ماركيز، المؤمن بأن الفن هو الموهبة، كان ماريو يعتقد أن الموهبة وحدَها لا تكفي، وأن الاجتهاد والعمل على الموهبة وتغذيتها لا يقل عن المنحة الإلهية. بهذين المنطقين، كانت لندن وباريس محطاته الأولى.
تزوّج يوسا من قريبة له وهو في التاسعة عشرة، وسريعًا ما أدرك أن هذه الحياة لا تعبّر عن طموحه. وفي الثانية والعشرين شدَّ الرحال إلى فرنسـا لتبدأ أولى تأثيرات سارتر عليه: الفن التزامًا، والكاتب مصلحًا اجتماعيًا وسياسيًا، والأدب وسيلةً لتغيير العالم. والحقيقة أن يوسا بوصفه ابنًا لبلد يعاني الديكتاتوريات المتوالية والتوق للحرية، وابن قارة مأزومة على الرغم من ثرائها، وجد في أفكار سارتر ما يتلاقى مع رؤيته.

حصل يوسا على جائزة نوبل بفارق 28 عامًا بين فوزه وفوز ابن قارته ورفيقه في تيار الانفجار ماركيز، ولطالما كان اسماهما مرتبطين حبًا وحربًا، وتنافسًا وتعاونًا.
تشكُّل هويته الأدبية
على الرغم من أنه يصغر ماركيز بعشر سنوات تقريبًا، وكذلك يصغر كورتاثار وفوينتس، وعلى الرغم من أن أعماله تنتمي إلى روايات المدينة وليس لتيار الواقعية السحرية، فإن تيار الانفجار استوعبه؛ لأنه من ناحية، بدا من أعماله الأولى مجدِّدًا ومشغولًا بالتكنيك السردي. ومن ناحية أخرى، يمثّل بلدًا كانت "عصابة" الواقعية السحرية تحتاج إليه. إذ بالنظر إلى تكوينات التيار: كورتاثار يمثّل الأرجنتين، وفوينتس يمثّل المكسيك، وماركيز كولومبيا، ويوسا البيرو، وبالرجوع إلى المراسلات المتبادلة بينهم، يتضح أن تكوين التيار لم يكن بمحض صدفة، وإنما بمخطط يدعم فيه كل كاتب الآخر، سواء في المهرجانات الأدبية أو الجوائز.
كانت سمات المنتمين للتيار واضحة كذلك: أبناء اليسار، مؤيدون للثورة الكوبية، ويتمتعون بكتابة فائقة الجودة ومجدِّدة في السرد، ولديهم إيمان مطلق بالأدب النابع من أرضهم وابن ثقافتهم البدائية. غير أن هذا التلاقي سيهزمه يوسا سريعًا ليستقل بنفسه بعيدًا عن المجموعة.
تبدّل موقفه السيـاسي
ربَّما يطفو على السطح أن اللكمة التي سدَّدها الكاتب البيروفي لصديقه اللدود، ماركيز، هي سبب هذا الانفصال. غير أن رواية صدرت، مؤخرًا، للكاتب البيروفي خايمي بايلي، تتناول ما وراء الخلاف بين العبقريين، وتؤكد أن اللكمة لم تكن إلا خلافًا شخصيًا. فالخلاف الأيديولوجي، الذي تجلى في أواخر الستينيات، وأساسه انقلابه على الثورة الكوبية بعد تأييد مطلق، ومهاجمة كاسترو لتعديه على حرية التعبير وتمثيله لصورة المستبد التي رفضها دومًا، كان بداية حقيقية لقطيعة بين الكاتبين وميلادًا جديدًا ليوسا الذي سيصير عليه في المستقبل.
ثمة أمران يبدوان من النظرة الأولى متناقضين، غير أنهما متكاملان: رواياته التي تفكك مفاصل السلطة وتنتصر للمواطن والفرد، وعنايته بالجانب الحسي في الإنسان وتمجيده باعتباره جزءًا من إنسانيتنا. وفي المقابل، تحوّله إلى التأييد المطلق لليبرالية السياسية والرأسمالية الاقتصادية، من دون التخلي عن إيمانه بفكرة المثقف العضوي، بحسب جرامشي؛ إذ للمثقف دور في تغيير المجتمع، وهو دور حتمي لا يمكن التخلي عنه. لكن ما الدور الذي أراده يوسا لنفسه؟
تنوّع مشروعه الأدبي
لقد آمن يوسا في البداية بأن مهنته هي الكتابة، وأي مهنة أخرى، سواء كان أكاديميًا في الجامعة أم مراسلًا صحفيًا، ليست إلا وسيلة لأكل العيش. بهذا المنطق عمل يوسا على تطوير فن السرد وسلّط بؤرة اهتمامه على التكنيك ليكون واحدًا من أهم المجددين فيه في القرن العشرين، ليس فقط في اللغة الإسبانية، بل في العالم.
ومن "حوار في الكاتدرائية" إلى "حفلة التيس"، ومن "في امتداح الخالة" إلى "حرب نهاية العالم"، تنوّع مشروعه الأدبي بين نقد الكنيسة والسلطة السياسية من ناحية، والتعمق في الذات الإنسانية وتشريح المجتمع من ناحية أخرى، إضافة إلى قدرته على رسم المدينة الحديثة بكل ما فيها من صراعات تواجه الفرد. في هذا الجانب، تلقى القرَّاء والنقَّاد يوسا بكل ترحيب؛ فقد حقَّقت كتبه مبيعات طائلة، وتناولته دراسات بلا حصر، وفاز بجوائز مهمة ومتعددة وفي فترات قريبة، وربَّما على كل عمل كتبه. غير أن جانبه السياسي ظل مثيرًا لكثير من الجدل.
بعد إقامات تنوَّعت بين فرنسا وإنجلترا وبرشلونة، وانتقاداته اللاذعة لليسار اللاتيني المؤيد في أغلبه لفيدل كاسترو، وتهكُّمه على السياسات الاشتراكية التي أدت، في رأيه، إلى إفقار الشعوب اللاتينية، وغياب الحرية والديمقراطية؛ قرَّر في التسعينيات خوض الانتخابات الرئاسية. وعلى الرغم من أنه لم يكن قد أعلن عن برنامجه، فإن المواطنين البيروفيين كانوا يعرفون آراءه مسبقًا، فخسر الانتخابات أمام فوجيموري، البيروفي من أصول يابانية. وقرَّر إثر ذلك ألا يعود إلى البيرو أبدًا، واستقرَّ به الحال في إسبانيا ونال جنسيتها.
“
حصل يوسا على الجائزة بفارق 28 عامًا بين فوزه وفوز ابن قارته ورفيقه في تيار الانفجار ماركيز، ولطالما كان اسماهما مرتبطين حبًا وحربًا، وتنافسًا وتعاونًا.

مفهومه للحرية يفسِّر الكثير
انتقل يوسا من اليسار إلى اليمين في تحوُّل لافت وبقدرة على التعبير عن رأيه مثيرة للإعجاب. في كثير من مقالاته بجريدة "الباييس" الإسبانية، حيث كان يكتب مقالين شهريًا، أكد أن نجاة القارة الأمريكية اللاتينية يتمثَّل في الاتجاه للنظام الرأسمالي وللسوق الحرة والأعمال الخاصة، وأن ترفع الدولة يدها عن المواطن وتمنحه الحرية المطلقة، سواء للتعبير والنقد أو للعمل. هذا النوع من الآراء كان يتلقاه مواطنون يفتك بهم الجوع بوصفه رفاهية لا ينطق به إلا المواطن الأبيض؛ إذ الدعم الحكومي هو ما ينقذ ملايين المواطنين من الجوع. هل يتناقض هذا التوجه السياسي مع كتابته؟
يبدو للوهلة الأولى، نعم، لكن جزءًا من فلسفة يوسا الروائية هو حرية التعبير وحرية الفرد، وهذه الحرية لا تتحقق، ولم تتحقق في رأيه، على مدار سنوات طويلة من الحكم الاشتراكي والعسكري في قارته، والمثال دولة مثل كوبا، التي تحوَّل فيها كاسترو الثوري إلى طاغية. إن مناداته بالديمقراطية بوصفها نظامًا للحكم هو التمثيل الواقعي لرواية "حفلة التيس" و"حرب نهاية العالم"، من بين أعمال أخرى، وفي عمقها نقد للنظم الشمولية اللاتينية. الفقراء والمحتاجون والمهمشون لا يظهرون في أعماله؛ لأنه يؤمن بالماركسية، أو يرى أن دور الدولة يقتصر على منحهم مساعدات اجتماعية وتوفير مساكن وبطاقات تموينية فحسب، وإنما يظهرون بهذا الشكل لأن هذه النظم نفسها نزعت عنهم حرية الاختيار وجودة التعليم، وصنعت منهم مواطنين يحتاجون إلى الدولة، في حين ينادي هو بالفردانية. وهذه الفكرة، الفرد لا الجماعة، ما وضعت بينه وبين أبناء تيار الانفجار حاجزًا، والحاجز نفسه وُضِع بينه وبين كثير من القرَّاء الذين أحبوا أدبه ورفضوا توجهه السياسي الذي تلقوه كلكمة، مثل لكمته التي وجهها لماركيز.
غير أن أهم ما يميز يوسا، بوصفه صورة للمثقف، هو قدرته على مواجهة المجتمع وتفكيك سردياته الثابتة، بلا خوف من خسارة قرَّائه. لم تحقق آراؤه أي مكسب شخصي، ربَّما كان سيكسب أكثر لو تجنَّب الخوض في كثير من المسائل، لكنه مخلص لأفكاره مهما كان الثمن. ولربَّما كان الثمن تأخر جائزة نوبل عليه بعد خمسين عامًا من الكتابة فكك فيها الثقافة البيروفية واللاتينية، وصنع أعمالًا دخلت التاريخ وأصبحت من الكلاسيكيات. فروايته "حرب نهاية العالم" رؤية شاملة لا تقل في أهميتها عن "الحرب والسلام" لتولستوي. أمَّا "شيطنات الطفلة الخبيثة"، فهي إعلاء لقيمة الحب بوصفه عاطفة، وتمجيد له، وأفق جديد لفهم جزء من الطبيعة الأنثوية. وأخيرًا، روايته "أهديك صمتي" وهي نبش في الموسيقى الشعبية البيروفية وعودة لمعانقة الفولكلور المسموع.
من بين أشياء كثيرة يمكن قولها عن يوسا في تلويحة الوداع هذه، أن عظمته، بوصفه روائيًا، توارت كثيرًا وراء كُتَّاب مثل ماركيز وكورتاثار وكارلوس فوينتس. لكنها، فوق ذلك، توارت وراء وجهه السياسي والأيديولوجي، ولم يُلتفت له حقيقةً إلا قرب زوال الكبار من تيار الانفجار. وليس أدل على ذلك مما ذكره بايلي في روايته "اللكمة" عن مشاجراته مع زوجته في سنوات إقامتهما ببرشلونة، حين كانت تسأله لماذا لا نعيش مثل ماركيز ومرسيدس، جيراننا، وأنت تكتب مثله، فكان ردُّه أن ماركيز يبيع بالملايين.
لقد ترك يوسا البيرو؛ لأن أنظاره كانت متجهة نحو أوروبا التي قضى فيها سنوات شبابه وشيخوخته. لكنه منذ أشهر عديدة، وفي مرضه الأخير، أيقن أنه على وشك الموت؛ فعاد إلى وطنه ليموت فيه ويُدفن في ترابه. وهذا أيضًا أحد تناقضات يوسا المثير للجدل.