
من كان يظن أن البلاستيك، هذه المادة التي طالما عُدَّت سحرية لكثرة استعمالاتها المتنوعة، والتي دخلت في حياتنا اليومية والصناعية، ستصبح يومًا ما مادة خطرة على الإنسان والطبيعة وتنوُّعها الحيوي. فهي عندما تتحلَّل وتتفتَّت، تتحوَّل إلى جزيئات دقيقة أو ما يُعرف بـ"المايكروبلاستيك"، الذي ينتهي به المطاف في جميع الأنظمة البيئية إلى المياه والتربة والهواء والسلسلة الغذائية.
يزيد عدد هذه المواد الكيميائية البلاستيكية على 16 ألف مادة سامة، يُصنَّف معظمها على أنه مسرطن، بالإضافة إلى تسببها في أمراض خطيرة أخرى، وذلك وفقًا لما جاء في مجلة "سميثيسونيان" في 19 مارس 2024م.
تنتهي هذه الجزيئات وتتراكم في أجسامنا عبر الغذاء والماء والهواء الذي نستنشقه، وكذلك عبر كثير من المواد التي نستعملها في حياتنا اليومية مثل معجون الأسنان والكريمات، خاصة تلك المستعملة للوقاية من الشمس؛ إذ تدخل إلى أجسامنا عبر الجلد.
في جميع أنحاء أجسامنا
في السنوات القليلة الماضية، اكتشف العلماء وجود جسيمات بلاستيكية دقيقة ونانوية في أدمغة البشر، حتى وإن كانت بمقادير ميكروغرامية. وتكشف الدراسات على الحيوانات الآن عن "روابط بين جسيمات المايكروبلاستيك وضعف الإدراك والسلوكيات الغريبة". وتؤكد مجلة (Nature Medicine) في عددها الصادر بتاريخ 29 أبريل 2024م، "أن تركيز المايكروبلاستيك في الدماغ ازداد بنسبة 50% منذ 2016م". واستنادًا إلى معهد "بانستيت للطاقة والبيئة"، فقد عُثر على المايكروبلاستيك في جميع أنحاء جسم الإنسان، بما في ذلك في الدم واللعاب والكبد والكلى والرئتين والمشيمة.
تشمل المشكلات الصحية المرتبطة بالمايكروبلاستيك ومواده الكيميائية، أمراض الباركنسون ومشكلات المناعة الذاتية والسرطانات، إضافة إلى مشكلات تتعلق بالجهاز الهضمي والغدد الصماء والإدراك والولادات المبكرة لدى النساء. وجاء في مقالة نشرتها مجلة (Harvard Health) بتاريخ 1 يونيو 2024م، أنه "عندما اختبر الباحثون اللويحات المأخوذة من شرايين الرقبة لدى 257 شخصًا، وجدوا جزيئات صغيرة من البلاستيك، معظمها من البولي إيثيلين، بالإضافة إلى بولي فينيل كلوريد، لدى 58% منهم. وبعد نحو ثلاث سنوات، كان معدل النوبات القلبية والسكتات الدماغية والوفاة أعلى بأربع مرات ونصف لدى الأشخاص الذين تحتوي لويحاتهم على جزيئات بلاستيكية دقيقة مقارنةً بمن لا تحتوي على هذه الجزيئات.
وعادةً ما يكون تركيز جزيئات البلاستيك في الهواء أعلى في الأماكن المغلقة، حيث تُطلق مواد البناء البلاستيكية، مثل الدهانات والأرضيات والأنابيب والأثاث، جزيئات بلاستيكية دقيقة ونانوية باستمرار وتتراكم في الغبار المتطاير الدقيق داخل المنازل. ويمكن لأنظمة التهوية أيضًا أن تنفث الكثير من هذه الجزيئات لمسافات بعيدة، لتختلط بالسحب والغيوم وتعود لتسقط مع الأمطار.
أمَّا في الخارج، وعلى الطرقات تحديدًا، فينتج عن احتكاك إطارات المركبات بالأرض كميات كبيرة من المايكروبلاستيك، التي تجرفها مياه الأمطار وتنقلها إلى التربة والوديان والأنهر والبحار وتلوثها.
الوقاية اللازمة
عمليًا، البلاستيك موجود وسيبقى في عالمنا، نظرًا لميّزاته العملية والاقتصادية، وحتى العلمية التي لا يُستغنى عنها على المدى المنظور. هذا الأمر يستوجب مزيدًا من الوعي في التعامل معه، وهو ما يتطلب العمل على مستويين: صانعو السياسات والأفراد.
على صعيد السياسات، في عام 2019م، عدَّلت 187 دولة عضوًا في الأمم المتحدة اتفاقية "بازل"، التي أُبرمت عام 1989م، والمعنية بالتحكم في التجارة في المواد الخطرة عبر الحدود؛ لتشمل النفايات البلاستيكية، وتجعل التجارة العالمية بها أكثر شفافية وتنظيمًا. وكان الهدف من هذا التعديل، الذي أداره برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، جعل المحيطات أنظف في غضون خمس سنوات. وكان برنامج الأمم المتحدة للبيئة، قد نشر تقارير عديدة أكدت أن التلوث الناجم عن النفايات البلاستيكية، المعترف به بوصفه مشكلة بيئية رئيسة ذات أهمية عالمية، وصل إلى مستويات وبائية.
وعلى صعيد الأفراد، يقول الدكتور الجراح الأميركي بيل فريست، في مقالة له بمجلة "فوربس" في 13 مارس 2025م: يُنصح بالتقليل من تعريض الطعام والشراب للبلاستيك. مثلًا، تجنُّب تسخين الطعام في الميكروويف في أوعية بلاستيكية، وتفضيل المياه المعبأة بقوارير زجاجية على البلاستيكية، واختيار الأطعمة الطازجة بدلًا من الأطعمة المصنعة.
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي للأفراد التحقُّق من منتجات العناية الشخصية والتنظيف، التي تحتوي على كميات كبيرة من المواد البلاستيكية الدقيقة، واختيار البدائل الطبيعية قدر الإمكان. فعند قراءة الملصقات، يجب البحث عن "البولي إيثيلين" الشائع في مقشرات البشرة ومعاجين الأسنان وتجنبه، و"البولي بروبيلين" الموجود في مستحضرات التجميل والمرطبات ومزيلات العرق، و"البولي ميثيل ميثاكريلات" المُستخدم في واقيات الشمس وكريم الأساس، و"النايلون-12 والنايلون-6" الشائعين في المَسكَرَة، و"البولي إيثيلين تيريفثالات" المُستخدم في الجليتر والمقشرات.