
في إمبراطورية جنكيز خان وسهوب منغوليا
أسَّس جنكيز خان إمبراطورية مترامية الأطراف، امتدت من أطراف جنوب شرق الصين شرقًا إلى حلب والشام غربًا، وحكمت ما يزيد على 001 مليون نسمة؛ أي ربع سكان العالم، آنذاك. أمَّا اليوم، فقد تحوَّلت تلك الإمبراطورية التي كانت تُعدُّ الأضخم في التاريخ إلى دولة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة، لكنها بقيت تحتفظ بإرثها العظيم من خلال التماثيل، والمناهج التعليمية، ومطار دولي يحمل اسم مؤسس البلاد، بلاد المغول وبلاد جنكيز خان.
هذا ما يرويه الرحال والفنان الفوتوغرافي خالد صديق من زيارته إلى منغوليا.

على مقربة من العاصمة أولان باتور، يقف مجسم الفروسية.
يظهر إجلال المنغوليين وتقديرهم لقائدهم التاريخي في مطار سُمِّي تيمنًا به وهو مطار "جنكيز خان الدولي" في العاصمة أولان باتور، وفي تمثال عملاق نُصب وسط العاصمة كحارس صامت لتراث إمبراطورية حوّلت سهوب منغوليا إلى عاصمة للعالم القديم. كما يتجلى بكل ما يُعلّمون به أبناءهم من حكايات مغروسة في المناهج الدراسية بأن الرجل لم يكن سوى محارب عظيم سعى لتوسيع نفوذه بلا خطيئة تُذكر.
ذهبنا من موسكو إلى أولان باتور في رحلة قطار استمرت أسبوعًا كاملًا، اجتزنا خلالها الحدود البرية بين الغابات السيبيرية والسهوب المنغولية. وعند الساعة السادسة من صباح اليوم السابع، وجدنا أنفسنا في محطة قطار متواضعة تعج بالباعة المتجولين والمسافرين المتعبين، ومن بينهم سائح وحيد يحمل حقيبة، وأسئلة لا تنتهي عن أرض المغول وأسرار إمبراطوريتها الضائعة.
يعيش ثلثا سكان منغوليا في البادية، متوزعين بين السهول والصحاري والجبال، ويعيش الثلث الآخر في العاصمة، أولان باتور، التي توصف بأنها أبرد عواصم العالم؛ إذ إنها تتحول في فصل الشتاء إلى كتلة جليدية قاسية، بينما يمتزج حرّها عند الظهيرة ببرودة المساء اللطيفة صيفًا. وما إن ابتعدنا عن أطراف المدينة، حتى وجدنا أنفسنا أمام صحراء جوبي، إحدى أكبر صحاري العالم.

خيمة تقليدية
بعض طقوس الضيافة
في خيم بلا مسمار واحد
حاولنا التعرُّف على حياة هذا الشعب الذي لا يتبع معظمه أي دين، وإن كان القليل منهم يتبع الديانتين البوذية والشامانية. يقطن البدو المغول في خيام "الجير" (أو اليورتا لدى القيرغيز والكازاخ)، وهي هياكل بمنزلة تحف معمارية تُبنى من دون مسمار واحد، معتمدة على أضلاع خشبية مربوطة بجلود الإبل لمتانتها. كما أنها ليست مسكنًا فحسب، بل نظام ثقافي متكامل: فقواعد الدخول والجلوس فيها صارمة، تصل إلى حدّ المنع الديني. وفي الخيمة المغولية توجد عتبة عند باب المدخل، الذي يكون دائمًا باتجاه الشمال لتجنب الرياح الجنوبية، ولا يجوز للزائر أو الداخل أن يدوسها، بل عليه تجاوزها.
وتُقسم الخيمة إلى قسمين اثنين: قسم إلى يمين الخيمة لسكانها، يمنع الجلوس فيه؛ وقسم إلى اليسار للضيوف. وهناك عمودان في منتصف الخيمة، يرمزان إلى الزوج والزوجة لا ينبغي المرور من خلالهما؛ لأن ذلك يعدُّ من المحرَّمات. وفي إحدى الزيارات لإحدى العوائل المغولية، أُعجِب رب الأسرة بالشاب العربي الذي يراه أوَّل مرة، إلى درجة أنه سمح له بتجاوز القواعد المغولية الصارمة، وطلب إليه أن يجلس في القسم الأيمن الخاص بأسرته، وسط ترحيب الزوجة وطفلهم الصغير!
خلال تجوالنا بين كثبان صحراء جوبي، دعتنا عائلة مغولية تمتلك قطعانًا من الجمال إلى خيمتها الرئيسة. جلسنا في القسم الأيسر المُخصص للضيوف، وقدَّم لنا رب الأسرة عطرًا قويًّا وفق الطقوس: وضع كفّ يده اليسرى تحت كوعه الأيمن، ماسكًا العطر بيمينه مع انحناءة خفيفة للأمام، وهي إيماءة تُعبّر عن الاحترام المُطلق للضيف. وكما تعلَّمنا مسبقًا، استلمنا العطر بالحركة الدقيقة نفسها، وشممناه باحتراس قبل إعادته إليه. ثم أخذنا كوب الشاي المغولي المميّز بالطريقة نفسها، مع حرصنا على عدم لمس يد المضيف مباشرة كعلامة على التواضع. شربنا منه قليلًا قبل وضعه على الطاولة، بحسب التقاليد المغولية التي لا يجوز كسرها مهما تطلب الأمر.
تتزيَّن الخيمة المغولية من الداخل بالألوان الخمسة "المقدَّسة": الأزرق الذي يُشير إلى السماء، والأحمر الذي يرمز إلى النار، والأصفر الذي يرمز إلى الأرض، والأخضر الذي يعكس الطبيعة، والأبيض الذي يرمز إلى الحليب. وهذه الألوان ليست مجرد زخارف، بل هي تعبير عن نظام فلسفي يعكس رؤية سكان منغوليا للكون.

يعيش ثلثا سكان منغوليا في البادية، متوزعين بين السهول والصحاري والجبال
الغناء الحلقي
عندما تتحوّل الحناجر إلى أوتار كونية
لا يمكننا الحديث عن منغوليا من دون الإشارة إلى نوع خاص من الغناء، وهو الغناء الحلقي المنغولي، المعروف باسم "كومي"، وهو تقليد صوتي مميز يسمح للمغني بإصدار نغمات متعددة في آنٍ واحدٍ، وهو ما يخلق مشهدًا صوتيًا آسرًا ومتناغمًا. وتعود أصول هذا الغناء إلى نمط حياة البداوة للشعب المنغولي، الذي يرجع إلى أكثر من ألف عام. ويُرجّح أنه ظهر بين الرعاة في جبال ألتاي وسايان، عندما تحوَّلت حناجرهم إلى أوتار كونية تُحاكي أصوات هبوب الرياح وخرير المياه ونداءات الحيوانات، فأصدرت سمفونية بشرية تكرم الطبيعة بكل أشكالها.
لم يكن غناء "الكومي" يومًا مجرد وسيلة للترفيه، بل مرآة تعكس هوية يتجذَّر في أعماقها سرُّ الوجود الإنساني. فغالبًا ما تُنظَّم العروض خلال الاحتفالات المهمة والطقوس الدينية والتجمعات الجماعية؛ إذ يُعتقد أن الموسيقى تربط بين العالمين الإنساني والروحي. واليوم، بعد أن أصبح غناء "الكومي" إرثًا إنسانيًا تحتفي به اليونيسكو ضمن التراث الثقافي غير المادي للبشرية، بقي هذا الغناء صوتًا يختزن في جوفه ذاكرة ثقافة لا تزال تتناغم بين أصالة الماضي وحضارة المستقبل.

الخيل ليست مجرد وسيلة تنقل في منغوليا، بل روح متجذرة في ثقافة الشعب.
في سهوب منغوليا
فلسفة خاصة للطعام
يعتمد المطبخ المغولي التقليدي على خمسة أنواع من اللحوم تتشكّل من أكثر من 60 مليون رأس ماشية، تشمل الخيول والإبل والأغنام والماعز والأبقار. تُهيمن لحوم الأغنام، تحديدًا، على موائدهم من الفطور إلى العشاء، حيث تُذبح وفق طريقة "البُقر"، وهي ممارسة قديمة تهدف إلى الاحتفاظ بالدماء داخل الجسد لضمان طراوة اللحم، على الرغم مما يحيط بها من جدل حول قسوتها. إلى جانب ذلك، يشتهر المغول بشراب "القمز" المخمّر من حليب الفرس، الذي يُعدُّ رمزًا للتراث البدوي المتوارث.
في ترحالنا بين سهوب منغوليا المترامية، حيث الحر اللاهب نهارًا والبرد القارس ليلًا، تتبدّى حياة البادية بتناقضاتها الساحرة. تحت سماء صافية تزدان بالنجوم كاللآلئ، تختفي مظاهر الحداثة لتحلَّ محلّها هدأة لا تُقارن. هنا، حيث تُذبح الخرفان وتُخمّر الألبان، تتجسّد فلسفة حياة بسيطة قائمة على التكيّف مع الأرض، على الرغم من التحديات التي تُحوّل كل يوم إلى معركة للبقاء. هذه الحياة، التي قد تبدو قاسية للغريب، تحمل في طياتها سلامًا داخليًّا نادرًا، يجعل من صفاء الليل البدويّ ملاذًا أخيرًا للروح.

تبدو الحياة في منغوليا مثل لوحة فنية: خيام، وخيول، وماء يجري في صمت الطبيعة.
