Hero image

الفنَّان راشد الشعشعي

يوليو - أغسطس | 2025

يوليو 2, 2025

10 دقائق

شارك
رسَّخ الفنَّان راشد الشعشعي لنفسه مكانًا بارزًا في مشهد الفن المعاصر في السعودية، لا بوصفه فنَّانًا فحسب، وإنما باعتباره فاعلًا ثقافيًا يُوزِّع نشاطه بين ممارسته الفنية من جهة، وبين التعليم والتدريب والاستشارات حتى الإنتاج الفني من جهة أخرى. واكتسب من هذه النشاطات خبرة واسعة وإدراكًا خاصًا بالعملية الإبداعية وإدارتها. أمَّا من ناحية الممارسة الفنية، فلعلَّ أبرز ما يميز راشد الشعشعي معرفته بالمادة، وهي معرفة عميقة مكَّنته من التعامل مع المواد والخامات بسهولة، وتسخيرها لصالح رؤيته الفنية وتطويعها لمقاصده. ولطالما كانت الإستوديوهات والمعامل التي يعمل فيها ورشًا حيَّة وفضاءات طموحة للتجريب والابتكار واستكشاف الفرص التي تخبِّئها المادة في انتظار من يستخرجها.
 
Rashid Shashay 2
تنعكس ممارسة الشعشعي الفنية على الطريقة التي يتطوَّر بها العمل الفني لديه؛ إذ يمر بمراحل متداخلة تبدأ غالبًا من ملاحظة أو سؤال، وليس من إجابة مستقرة. فقد تُولد الفكرة من موقف بصري يومي، أو من استجابة داخلية لحالة وجدانية أو اجتماعية. فالشعشعي، بحسب شهادته، يُشير إلى أنه لا يتعامل مع الفكرة بوصفها شيئًا مغلقًا ومنتهيًا، بل باعتبارها كيانًا قابلًا للتفاعل مع الزمن والمكان والخامة. ولذلك، فالبدء في عمل فني لا يحدث بقرار عقلي دائمًا.

يُعبِّر الشعشعي عن هذه النقطة بقوله: "أحيانًا، يمر وقت طويل وأنا أعيش الفكرة، أراقبها، أؤجلها، ثم تأتي لحظة صامتة تشبه النضج الداخلي. كأن العمل يطلب الخروج، لا لأني أريده، بل لأن بقاءه في الداخل لم يعد ممكنًا. أشعر بتلك اللحظة حين يصبح الصمت أثقل من الفعل، وحين تبدو الخامة كأنها تنتظر أن تُستخدم". بعد ذلك تبدأ مرحلة التجريب واختبار الفكرة. يرسم ويُدوِّن ويُجرِّب موادَّ مختلفة، وأحيانًا يضع الفكرة جانبًا لفترة ثم يعود إليها، وهكذا. وعلى هذا الأساس، فتنفيذ العمل الفني لا يكون تطبيقًا للفكرة، بل هو امتداد لها.

 

أعمال تعيش أكثر من حياة واحدة

 يقول الشعشعي: "إن التنفيذ يشكِّل أحيانًا بالنسبة إليَّ لحظة فهم متأخرة لما ظننته مفهوما مسبقًا". إذ تتطوَّر الفكرة لديه أثناء العمل وتُعيد تشكيل نفسها كلما تقدَّم في التجريب أو اصطدم بتحديات المكان أو الخامة. وحتى حين اكتمال العمل وعرضه، فمن الملاحظ أن الشعشعي يُعيد إنتاجَ بعض أعماله وعرضَها في أكثر من مكان وأكثر من مرة، وهو ما يُشير إلى تصوُّر خاص للطريقة التي ينمو بها العمل الفني أحيانًا ويستدعي الحاجة إلى استكماله أو تطويره. 
يُبرِّر الشعشعي هذا الجانب في ممارسته الفنية بقوله: إن بعض الأعمال تنتمي إلى ما يسميه "النسق المفتوح"؛ أي أن تلك الأعمال لا تنتهي ولا تنغلق على ذاتها، والسبب يكمن في أنها تحتوي على طاقة خاصة بها ومستمرة تدعو إلى إعادة التفكير فيها وتشكيلها من جديد. وفي كل مرة يُعرض فيها عمل من هذا النوع في سياق جديد، يتغيَّر معه شيء حتى إن لم تتغيَّر عناصره المادية. فعلى سبيل المثال، يتغير الضوء، وزوايا المشاهدة، ونوعية الجمهور، حتى تاريخ العرض. وفي أحيان كثيرة يُعيد الفنَّان تركيب العمل أو يُضيف إليه أو يستخرج منه عنصرًا كان هامشيًا فيُبرزه. وكل هذه التدخلات الجديدة تجعل الشعشعي يُعيد تقديم العمل، ليس رغبةً في التكرار، بل إحساس بأن لديه المزيد ليقوله عن طريق هذا العمل، وكأن العمل يعيش أكثر من حياة.
 
Rashid Shashay 3

ولا تخلو العملية الفنية عند الشعشعي من الشكوك، بل إنه يتعامل مع الشك في جدوى العمل الفني أو أثره باستمرار. ويعترف بأن الشك يرافقه على الدوام، وهو يراه مؤشرًا صحيًّا؛ لأنه يخشى، حين لا يشك، أن يكون قد دخل منطقة الأمان التي لا تدفع العملية الإبداعية إلى الأمام، على عكس لحظات الشك التي تدفع الفنَّان إلى المراجعة والتأمل والحفر نحو العمق. ويقول: "الأعمال التي لا تُربكني أثناء إنتاجها، لا أثق بها كثيرًا. ما ينجو من الشك، غالبًا ما يكون ناضجًا. ليس لأنني وجدت له جوابًا، بل لأنني احترمت تساؤله. الفنَّان الحقيقي، في رأيي، هو من لا يتعوَّد الإجابات السهلة، بل يتعلَّم العيش داخل علامات الاستفهام". 

تجربة المتلقي..
أثر يرافق العابر إلى بيته

تتباين الأعمال الفنية التي ينفِّذها الشعشعي بوضوح، خاصة من ناحية حجمها. فقد نفَّذ الفنَّان أعمالًا متناهية الصغر، كما نفَّذ أعمالًا كبيرة الحجم معروضة في الفضاء العام. وعمَّا يعنيه هذا التباين يقول الفنَّان إن الأعمال الصغيرة تمنحه عزلة وتركيزًا بصريًا شديدًا أشبه ما يكون بالحوار الداخلي مع الذات. إنه يعاملها وكأنها كائنات مستقلة صامتة تتطلب تأملًا خاصًا بها. في حين أن الأعمال الكبيرة هي أقرب إلى الخطاب العام، تتطلب هندسة مكانية وفهمًا لحركة الناس والضوء والزمن. أمَّا من الناحية الإنتاجية، فالعمل الصغير يمكن أن يُدار بشكل فردي، في حين يحتاج العمل الكبير إلى فريق وتنسيق، وغالبًا ما يتطلب شراكات تقنية أو لوجستية. أمَّا المتلقي، فيتفاعل مع كلٍّ من تلك الأعمال بطريقة مختلفة، يقترب من العمل الفني الصغير ويُحاط بالعمل الكبير. وكلتا التجربتين ضروريتان لفهم الفنِّ عمومًا، وتوفران شعورين وإدراكين مختلفين. 

 

تتطور الفكرة لدى الشعشعي أثناء العمل وتُعيد تشكيل نفسها كلما تقدَّم في التجريب، أو اصطدم بتحديات المكان أو الخامة. وقد يُعيد إنتاجَ بعض أعماله أكثر من مرة.

حتى بالنسبة إلى الفنَّان نفسه، فإنه يتلقى ردود الفعل بطريقة مختلفة في كل مرة. ففي حال الأعمال الكبيرة المعروضة في الفضاء العام، يكون تفاعل المتلقي أو الجمهور مميزًا من حيث إنه لا يُقاس بكلمات تُقال أمام الفنَّان، بل بلحظة صمت، أو بتوقُّف غير مبرر، أو بنظرة طويلة يتقاطع فيها الداخل مع الخارج. يقول الشعشعي: "لا أنتظر من المتلقي أن يفهم العمل كما أردت، بل أن يُدخِل إليه جزءًا من تجربته الخاصة. لا يمنحك الفضاء العام جمهورًا نخبويًا أو فنيًا فقط، بل يمنحك الإنسان في حالته الطبيعية: المارّ، المتأمل، المتجاهل، حتى المتفاجئ". ويضيف: "أحيانًا أراقب من بعيد شخصًا يمرّ بالعمل، يتباطأ، يلتفت مرتين، ثم يُكمل طريقه. هذه اللحظة عندي تساوي أكثر من أي تعليق في صحيفة. وأحيانًا يقترب طفل ويسأل والدته: لماذا هذا الشيء موجود؟ فأعلم أن العمل أحدث أثرًا؛ لأن السؤال هو بداية الحضور". ووفق هذا التصوُّر لا يمنح الفضاء العام الفنَّانَ رفاهية العزل، بل يضعه في مواجهة مباشرة مع مجتمع متنوع وغير متوقع. ومن هذه المواجهة تُولد قيمة العمل الحقيقية: ليس فقط بما يقوله، بل بما يستفزّه في الوعي الجمعي. لذا، لا يبحث الشعشعي عن رأي يُقال، بل عن أثر يبقى. فهو، بحسب تعبيره، لا يريد تصفيقًا، بل ارتباكًا صغيرًا، أو تساؤلًا منبثقًا، أو شعورًا مبهمًا يرافق العابر إلى بيته.

الفنَّان منتجًا

إلى جانب ممارسته الفنية، يعمل الشعشعي في مجالات أخرى، مثل: التدريس والتدريب والاستشارات والتفعيل الثقافي. وأمدّته هذه الأدوار المختلفة ببُعد إضافي في فهم الفن، ليس بصفته عملية إنتاج فقط، بل باعتباره فكرًا وبُنية وتأثيرًا اجتماعيًا. فيصف هذه الأبعاد بقوله: "التدريس، مثلًا، يُجبِرني على تفكيك تجربتي ومشاركتها، مما يُعيد ترتيب مفاهيمي ويقوّي لغتي البصرية. أمَّا الاستشارات، فعرّفتني على احتياجات مختلفة ومشكلات التنفيذ والتمويل. لكنها قد تُثقِل أحيانًا؛ لأن الفنَّ يتطلب عزلة ووقتًا غير خاضع للجدولة. لذلك، أحرص على المحافظة على مناطق صمت أعود فيها إلى الفنِّ من دون ضغط الأداء المؤسسي أو الزمني". 

 
Rashid Shashay

ولمناسبة الحديث عن الإنتاج، فإن المشهد الفني في السعودية دائمًا ما عانى وجود فجوة بين الفنَّان والمنتج، وقد ألقت هذه الفجوة بظلالها على كثير من الفنَّانين السعوديين. غير أن الشعشعي تعامل معها بطريقة مثيرة للاهتمام؛ نظرًا لأنه واحد من أولئك الفنَّانين الذين استطاعوا تحويل الصعوبات إلى ممكنات. فقبل سنوات قليلة، كان المشهد في عوز شديد إلى بيئة فنية متكاملة تشكِّل نظامًا بيئيًا يُعين الفنَّانين ويرفد تجربتهم. فاستغل الشعشعي معرفته الكبيرة بالمواد والخامات واستطاع بكثير من الدأب والأناة أن يخوض غمار الإنتاج الفني، وما زال إلى اليوم ينتج أعماله الفنية بنفسه ويُعين زملاءه من الفنَّانين في هذا الجانب. ويرى أن لعمله في مجال الإنتاج أثرًا مزدوجًا على نشاطه بكونه فنَّانًا. فمن جهةٍ، منحه أدوات التنفيذ من دون الاعتماد على أطراف لا تفهم طبيعة الفكرة. ومن جهة أخرى، زاد من عبء التنظيم والاهتمام بالتفاصيل الإدارية، وهو ما يُقلّل أحيانًا من التركيز على الجانب الإبداعي. لكن بوجه عام، مدَّه هذا المسار بوعي حول كيفية تحويل الفكرة إلى واقع، وعلَّمه كيف يُدير مشروعه الفني بطريقة مستدامة. 

خطوة نحو الاقتصاد الإبداعي

يضطلع اليوم "إستوديو شعشعي" بدور مهم في مشهد الفنِّ السعودي المعاصر لا يقتصر على إقامة المعارض وتنظيم الفعاليات الفنية فقط، بل يشمل تفعيله إقامة المحاضرات والندوات وورش العمل، إضافة إلى الشراكات الثقافية المتعددة. وعمَّا يتميز به الإستوديو وعن مستهدفاته، يقول الشعشعي: "نحن لا نُدير المعارض الفنية بوصفها حدثًا مؤقتًا، بل باعتبارها جزءًا من بناء بيئة إبداعية مستدامة. إننا نستهدف الفنَّانين الذين يبحثون عن أصواتهم البصرية الخاصة ويملكون رغبة كبيرة في التجريب". ويضيف: "لا نهتم بالشكل الجاهز للأعمال الفنية، بل بما يُمكن تطويره داخل المساحة التي يوفرها الإستوديو". وعلى هذا الأساس، فإن ما يُميز هذا الإستوديو هو المزج بين التجربة الفنية والبحث، وبين العرض والنقد. إذ لا يوفر الإستوديو منصة عرض، بل يخلق مساحة حوار وتحولات في النظرة تجاه الفنِّ وتفاعلًا معمّقًا بين العمل وسياقه. 

وفي هذا الصدد، يُولي الشعشعي التفكير في الاقتصاد الإبداعي أهمية كبرى، فهو بالنسبة إليه ليس إطارًا خارجيًا يضيفه إلى الفن، بل امتداد طبيعي له حين ينضج. حين يُحوَّل الفنُّ إلى مشروع مستدام لا يفقد بالضرورة روحه، بل يجد وسيلة للبقاء والتأثير والتوسع. ويقول: "من خلال عملي في تحالف (أزين) اختبرنا هذه الفكرة عمليّا: كيف يمكن للفنَّان أن يُصبح مؤسسًا لا مجرد مبدع مستقل؟ كيف تكون له شركة تُعبّر عن رؤيته ومنصة تُمكّنه من تحويل أفكاره إلى منتجات ثقافية أو تجارب جماهيرية، دون أن يُخضعها لسطوة السوق؟ ما نحاول فعله هو تفكيك الفكرة القديمة بأن الفنَّ إمَّا حرٌّ أو تجاري». ويدعم قوله بالإيمان أن الفنَّ يمكن أن يكون حرًّا ومُنتِجًا في آنٍ واحد، ولا سيَّما إذا بُني على وعي وشراكات عادلة ونظام إداري لا يختزل الفنَّان في الأداء، بل يعترف بدوره مفكِّرًا وصاحبَ رؤية اقتصادية أيضًا. 

 
Rashid Shashai

الفنان راشد الشعشعي أثناء العمل على أحد مشاريعه الفنية. (تصوير: عارف عبده مانع).