Hero image

موائل السلاحف البحرية على شـواطئ المملكة

فاطمة البغدادي

يوليو 1, 2025

11 دقيقة

شارك

منذ أكثر من مئة مليون عام، والسلاحف البحرية تواصل رحلتها على كوكبنا. مخلوقات وادعة، لكنها عنيدة، شهدت تحولات الأرض الكبرى، ونجت من موجة انقراض جماعي طمست ما هو أعظم منها حجمًا وأكثر قوة. وبينما تغيّرت الخرائط وتبدلت الأنظمة البيئية، ظلّت السلاحف تمخر عباب المحيطات، وتعود إلى الشواطئ التي وُلدت فيها، بدقة غريزية لا تخطئ، لتواصل دورة الحياة عامًا بعد آخر. رحلتها المذهلة هذه باتت اليوم مهددة، فقد التهمت المدن موائلها الحيوية على السواحل، وأثقل التلوث البحار، وتغيرت حرارة الرمال التي تحتضن بيضها، وتراجعت أعداد السلاحف البحرية في كثير من المناطق حول العالم، حتى أصبحت بعض الأنواع في دائرة الانقراض الأقصى.

سلحفاة منقار الصقر. (تصوير: هيثم خياط).

في السعودية، تحتضن الشواطئ والجزر على البحر الأحمر والخليج العربي خمسة من أصل سبعة أنواع من السلاحف البحرية المعروفة عالميًا. تتلقى هذه الكائنات الرعاية، وتُكرَّس موارِد عديدة لصون موائلها. من مراكز الأبحاث إلى حملات تنظيف الشواطئ ومن تقنيات التتبع إلى التشريعات والأنظمة البيئية، تتكامل الجهود لحمايتها من المصير الذي لحق غيرها من الأنواع. ولتستمر تلك اللحظة التي تحمل معاني الجمال والسحر؛ حين تخرج صغار السلاحف من رمال الشاطئ، متجهة، لأول مرة، نحو موج البحر.

"اللَّجَأة": الاسم الذي حمَل البحرَ في معناه
في اللغة العربية، يُطلق على السلحفاة البحرية اسم "اللَّجَأة"، وهو اسم فصيح ورد في عدد من المعاجم والكتب، ويميزها عن السلحفاة البرية التي تُعرف بالاسم الأكثر شيوعًا: "سلحفاة". تعود الكلمة إلى الجذر "لجج"، المرتبط بـكلمة "اللُّجّة"، أي البحر الواسع، وهو ما يعكس البيئة الطبيعية لهذا الكائن.

اليوم، يُستخدم اسم "سلحفاة بحرية" على نحوٍ شائع في الأبحاث والمقالات والمقررات الدراسية، وهو وصف سهل التلقي، يعكس الحاجة إلى الوضوح المباشر، خاصة في المجالات التي تتوجه إلى جمهور متنوع. لكن يبقى في اسم "اللجأة" شيء من الإيقاع والخيال، ومن العلاقة بين الكائن وموطنه، كما لو أن الاسم نفسه مأخوذ من حركة الموج أو خفوت السباحة في الأعماق.

 

سلحفاة خضراء في البحر الأحمر. (تصوير: سعد ماهر العياضي)

رحلات السلاحف إلى المملكة: التعشيش على امتداد الساحلين
بين البحر الأحمر والخليج العربي، تحتضن شواطئ المملكة العربية السعودية مناطق تعشيش السلاحف البحرية، التي تتوزع بين الجزر والسواحل المفتوحة، وقد أظهرت المسوحات أن السلاحف الخضراء وسلاحف منقار الصقر هما الأكثر حضورًا على سواحل المملكة، ورَصدت عددًا من المواقع التي تفضلها هذه الأنواع، على شواطئ البحر الأحمر والخليج العربي. 

في تقرير أعده ج. د. ميلر لمجموعة خُبراء السلاحف البحرية (MTSG) التابعة للاتحاد الدولي لحماية الطبيعة، يرد أن الشعاب المرجانية الضحلة الممتدة من خليج العقبة حتى حدود اليمن تُعد من أهم المواطن التي تلجأ إليها السلاحف البحرية. وتشير أحدث الدراسات إلى أن أرخبيل جزر فرسان يُعد أحد أكثر البيئات حيوية لسلاحف منقار الصقر.

وفي الخليج العربي، تُعد الجزر مناطق رئيسة للتعشيش، فيما تصنف المواقع الساحلية على الشاطئ، مناطق تعشيشٍ ثانوية، إلّا أنها تظل ذات أهمية بيئية وتتطلب جهودًا لحمايتها والمحافظة عليها. وتتوزع السلاحف البحرية حسب النوع على الجزر، حيث تنمو أعشاب البحر والطحالب بكثافة في الشمال الشرقي لمدينة الجبيل، وحول جزيرة أبو علي، وبينها وبين السفانية، وتشكل بذلك مناطق تغذية. وتم رصد نشاط سنوي دائم لبعض السلاحف في تلك المناطق.

أعشاش السلاحف في جزيرتي جنا وكران

بالقرب من الساحل الشرقي للمملكة، شمال شرقي مدينة الجبيل، تقع جزيرتا جنا وكران في موضع هادئ من الخليج العربي. في هاتين الجزيرتين، تحضر السلاحف البحرية كل عام في مواسم تعشيشها: سلاحف منقار الصقر تسبق بالحضور مع بدايات الربيع، ثم تلحق بها السلاحف الخضراء في فصل الصيف، ما بين شهري يونيو وأغسطس، ويحدث التلاقي بين السلاحف من النوعين على رمال الجزيرتين في أول أيام الصيف.
لكن هذا التوازن في موسم التعشيش لا يخلو من تهديدات. ففي دراسة نُشرت مطلع عام 2021م في مجلة "المؤشرات البيئية"، نبّه أخصائي البيئة الأول في فريق حماية البيئة بأرامكو السعودية، روميل هـ. مانيجا، إلى خطورة تآكل شواطئ جزيرتي جنا وكران، بوصفها ظاهرة تؤثر على نحو مباشر على المساحات الرملية التي تحتاجها السلاحف للتعشيش. تمثل الدراسة دعوة مفتوحة لمواصلة حماية موائل هذه الكائنات التي لا تملك من أدوات الدفاع سوى إيقاعها الطبيعي الهادئ، وعودتها السنوية المتكررة للتعشيش على الشواطئ.
Abu Ali baby turtle

تُعد الجزر مناطق رئيسة للتعشيش وتبدو سلحفاة صغيرة على شاطئ جزيرة أبو علي

خريطة السلاحف على رمال البحر الأحمر
على امتداد الساحل الغربي للمملكة، وتحديدًا في القسم الأوسط من شواطئ البحر الأحمر، كشفت الأبحاث والمسوحات عن فصلٍ جديد في حكاية السلاحف البحرية. ففي سلسلة من الزيارات الميدانية استخدمت فيها تقنيات الاستشعار، نفّذها فريق من الباحثين في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، ظهرت دلائل جديدة على أن هذه الشواطئ هي محطاتُ عبورٍ موسمي للسلاحف ومواطن تعتمد عليها للتعشيش. توصل الفريق إلى توثيق مواقع تعشيشٍ لم تُسجَّل من قبل في جزيرتي أم مسك وأبو جيشة، وكذلك في الشريط الساحلي بالقرب من رابغ.

وفي نوفمبر 2024م، كشفت المؤسسة العامة للمحافظة على الشعب المرجانية والسلاحف في البحر الأحمر "شمس"، عن أكبر موقع لتعشيش السلاحف في البحر الأحمر، وذلك في منطقة جزر الأخوات الأربع وهي (مرمر، دهرب، ملاتو، وجدير)، حيث سُجّلَ أكثر من 2,500 عشّ، تتواجد ضمن نظام بيئي منتظم ودقيق. هذا الاكتشاف أدى إلى الاعتماد الرسمي لهذه الجزر كموقعٍ محمي للتعشيش، في خطوة تؤسس لبداية جديدة تتظافر فيها الجهود لحماية السلاحف والحفاظ على موائلها.

 
see turtle

سلحفاة منقار الصقر. (تصوير: سعد ماهر العياضي).

جهود أرامكو السعودية في حماية موائل السلاحف البحرية
تسهم عدد من المؤسسات الكبرى في المملكة في دعم الجهود الوطنية لحماية السلاحف البحرية وصون بيئاتها عبر مبادرات بحثية وميدانية متخصصة. وتُعد أرامكو السعودية من بين الجهات التي كرّست جزءًا من خبراتها البيئية لدعم حماية حياة السلاحف البحرية.

على سبيل المثال تعمل الشركة بالتعاون مع جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية عبر مركز البحوث البيئية البحرية، الذي يضطلع بدور مهم في تتبّع نشاط السلاحف على ساحل البحر الأحمر، وفهم أنماط حركتها وتكاثرها، وتحديد العوامل التي تؤثر على استقرار موائلها.

كما ساهمت الشراكة الطويلة بين أرامكو السعودية ومعهد الأبحاث بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن في إنتاج قاعدة بياناتٍ غنية عن نشاط السلاحف البحرية على الساحل الشرقي للمملكة، وذلك من خلال برنامج متخصص بدأ العمل به قبل 10 سنوات، يتضمن دراساتٍ لتتبع حركتها، وحساب معدلات الفقس الناجحة، وبحث آثار التلوث الضوئي ليلًا عليها، واستطلاع بيئات شواطئ التعشيش، وأظهرت نتائج البرنامج أهمية ساحل الخليج العربي كموطن حيوي لهذه الكائنات البحرية النادرة والمهددة.

هذا وتعمل أرامكو السعودية على تعزيز نمو الحياة البحرية عبر مبادرة مستقلة لنشر الشعب المرجانية الاصطناعية ما يساهم في خلق بيئة مناسبة لتكاثر وازدهار الكائنات البحرية.
هذه المساهمات تأتي ضمن جهودٍ وطنية لمواجهة التحديات، وتُشكّل جزءًا من الصورة الأوسع التي تتطلب تضافر الجهود المستمرة فيها بين الجهات البيئية، والمؤسسات البحثية، والقطاعات المختلفة للحفاظ على إيقاع الحياة الفطرية في المملكة.

 

مركز إنقاذ السلاحف البحرية في رأس تنورة

مركز إنقاذ السلاحف البحرية في رأس تنورة
على الساحل الشرقي للمملكة، وتحديدًا في رأس تنورة، أسست أرامكو السعودية في العام 2012م مركزًا بيئيًا متخصصًا في إنقاذ السلاحف البحرية، ضمن منطقة التقاء النشاط البشري بدورة حياة السلاحف. بُني المركز لرعاية السلاحف المصابة أو المجهدة، والتي تخضع لعلاجٍ بيطري ثم تعاد إلى البحر بعد التأهيل. 

كما يشارك المركز في جهود التوعية المجتمعية، من خلال فعاليات تعليمية ومبادرات تطوعية، أبرزها حملات تنظيف الشواطئ التي تسبق مواسم التعشيش، والتي أصبحت تقليدًا سنويًا يشارك فيه موظفو أرامكو السعودية ومتطوعون وسكان محليون.

 
شرح الصورة أعلى الصفحة: سلحفاة خضراء البحر الأحمر. (تصوير: سعد ماهر العياضي).