
يحكي العمل قصة "جيمي ميلر"، وهو طفل عادي في الثالثة عشرة، قد يكون طفلك أو نسخة عن طفولتك لو قاربت بين ما يمرُّ به، وبين ما قد يمرُّ به أحد في محيطك. لم يُعنَّف قطُّ، ولم يُحرم من شيء. بل نشأ في بيت محب ودافئ. لم يواجه صدمة فعلية كتلك التي نسمع عنها في ماضي بعض المعتلين نفسيًّا. ولو أجري له تشخيص سريريّ أوليّ، لما ظهرت فيه أي علّة. ومع ذلك، يجد هذا الفتى نفسه متهمًا بقتل زميلته بسبع طعنات نافذة. فما الذي قد يدفع طفلًا سعيدًا سليمًا إلى اقتراف جريمة كهذه؟
يطرح هذا المسلسل القصير قضيته عبر تجربة بصرية خانقة؛ إذ يقع في أربع حلقات، وفي كل حلقة أربع لقطات. فمخرج المسلسل، فيليب بارانتيني، صاحب فِلم "نقطة الغليان" (Boiling Point) (2021م) الذي رُشّح لعدد من جوائز "البافتا"، يعيد هنا استخدام أسلوبه الأثير: اللقطة الواحدة المستمرة من دون أي انقطاع.
تبدأ الأحداث مع الفجر، حين يستعد المحقّق "لوك باسكومب" لاعتقال الطفل، وفقًا لبروتوكولات دقيقة تزعم حماية القاصرين، لكنها لا تخفي وحشية ما ينتظرونه. ومن تلك اللحظة، تنطلق الكاميرا بلا توقف: من الزقاق، إلى اقتحام المنزل، إلى رحلة مربكة نحو مركز الاحتجاز. يغدو "جيمي" وأهله في متاهة بيروقراطية، فيما يؤدي الضباط الإجراءات ببرود وكأنهم مرّوا عليها مئات المرات، فلا يبدو أن اقتراف طفل لجريمة قتل حادثة غير مألوفة؛ يدخل المحامي، ويتدخل الطاقم الطبي، وتظل العائلة مسكونة بقلق لا ينطفئ: أيمكن لطفلهم المحبوب أن يرتكب جميع هذه الفظائع التي يتحدثون عنها؟
ثم يأتي التحقيق، والسيناريو الذي أعدّه المحققون للإيقاع بطفل ذكي مثل "جيمي" في شِراك روايتهم المشروخة، التي بدت متماسكة لأول وهلة، لكن سرعان ما نصل إلى لحظة الانهيار المشتركة أمام الدليل الدامغ، بين الطفل الذي لا يبدو مُصدّقًا لما فعل، والأب الذي لم يتخيل يومًا أن ابنه سيقترف ذلك.
كل ذلك يحدث في خمسٍ وخمسين دقيقة متصلة، لم تشعر معها برتابة أو افتعال، بل بانسياب لا يُصدَّق، كأنك محاصر داخل الكابوس نفسه. من الصعب تصديق أن مثل هذا ممكن: أن يُحاك نص بهذه الطريقة، ويُنفَّذ إخراجًا وتصويرًا وتمثيلًا من دون أن يتسرب إليه الوهن. لكنه حدث بالفعل، وتكرّر ثلاث مرات أخرى، في حلقات أعقد وأشدَّ تشابكًا. مشاهد تُكشَف طبقة بعد طبقة، وقضية تتفجر أبعادها تدريجيًّا أمام الطفل وأسرته ومجتمعه في قلب المدرسة التي كانت منطلقًا لكل شيء.

ضياع المسؤولية بين الأب والمدرسة
تدور أحداث الحلقة الثانية في أرجاء المدرسة التي ظنّ "باسكومب" أنها ستكشف سلاح الجريمة، وستكشف أيضًا أعوان "جيمي" أو المحرّضين عليه. في نظره، لا بدَّ أن الفتى شرير بالكامل، يقود جوقةً من المتنمرين، وأن والديه مقصّران، وأن عليه هو أن يكون أبًا ومنفّذًا للقانون معًا. لكن الأحداث بعدها ستنفي وهمه؛ فالمدرسة ليست سوى مؤسسة مشغولة بسمعتها، وتحاول التغطية على الحادثة وتقديمها وكأنها واقعة فردية مرتبطة بطفل "معتل" ليس أكثر. والأطفال أنفسهم جدارٌ من الغموض؛ أصدقاء الضحيّة، وأصدقاء "جيمي"، والعابرون في حياته، جميعهم يرفضون الانفتاح أو يتعمّدون العرقلة. حتى ابن "باسكومب" بدا شبيهًا بـ"جيمي"؛ طفل محاصَر بالخوف، يتظاهر بالمرض ليهرب من المدرسة، في حين كان أبوه يومًا قائدًا محبوبًا.
عندئذٍ يتكشف للضابط أن المشكلة أعمق؛ إذ إن "جيمي" ليس شيطانًا، بل ضحية تنمُّر وضغط اجتماعي خانق، فهو قد وُسِم بـ"العازب القسري"، لا لأنه ناقص، بل لأن ميزان القوى في المدرسة حكم عليه بوصمةٍ لا فكاك منها.

المقتول هو الجاني والقاتل هو الضحيّة
هذا الإدراك يتعزّز حينما يواجه الضابط أصدقاء "جيمي": "رايان"، مَن سلّمه السكين وأخفاه، كان يعاني من إهمال والديه فوقع بسهولة في الاستجواب، أما صديقه الآخر فقد كان مُحاطًا بحماية قانونية صارمة تجعله عصيًّا على أي مساءلة. هكذا ندخل المنطقة الرمادية، فالقاتل ليس شريرًا مطلقًا، والضحيّة ليست بريئة على نحو بديهي. العالم هنا يكشف عن حقيقته المشوّهة، فقد يكون المقتول جانيًا، والقاتل ضحيّة. والسؤال: هل يبدأ المشاهد فعلًا في التعاطف مع "جيمي" حتى وهو مُتَّهم بقتل زميلته؟
في الحلقة الثالثة نتابع "جيمي" بعد ثلاثة أشهر من احتجازه، حين تزوره اختصاصية نفسية بوصفها وسيطًا مستقلًّا طالبت به عائلته. ومع حرصها على الموضوعية، يلوح الأمل بأن يُنصَف "جيمي" بكونه ضحيّةً أكثر منه جانيًا، وربما يُستصلح بدلًا من أن يُدان.
تبدأ الاختصاصية رحلة تنقيب دقيقة بأسئلة تفتش في وعيه: الخير والشر، علاقته بالنساء، ميوله إلى العنف، هل يحمل كراهية للمرأة؟ هل خذله والده أو أجبره على ما لا يريد؟ بدا الحوار اختبارًا لطباعه، والمخرج يترجمه بلغة بصرية متوترة بين صعود وهبوط. ويتأكد لنا أن "جيمي" طفل طبيعي: ذكي، حسّاس، لم يتعرض لعنف أسري. أبوه يحبه ويحاول تجنيبه نوبات غضبه، لكنه حين تركه وحده أمام قسوة العالم بدا صمته خيبة أمل قاسية، فهجر هواياته الرياضية والرسم من غير أن تسأله العائلة عن السبب، فتبدو مشكلاته أقرب إلى مشكلات مألوفة في أي بيت.
وحين يُسأل عن النساء، يصرّ على أنه لا يكرههن؛ فعلاقته بأمه وأخته جيدة، وزواج والديه قائم على حب منذ الطفولة. إذًا أين الخلل؟ هنا ينكشف جوهر المسلسل: جيمي وُصم في مدرسته بـ"العزوبية القسرية"، لا لأنه معيب، بل لأن ميزان القوى حكم عليه بوصمة أبدية. والفتاة التي اتُّهم بقتلها كانت قائدة هذا التنمر لتحصد ضحكات المدرسة وتصعد على سلّم الشعبية. لكن لماذا تعزِّز فتاة شابة هذه المفاهيم الذكورية السامة؟

ضحايا الفضاء الرقمي
يضعنا المسلسل أمام حقيقة أعقد: "جيمي" و"كيتي"، كلاهما ضحية لفضاء رقمي خانق، يغذيه الغضب والخوارزميات. وإذا اختلط هذا بقدر من الاستعداد الجيني والانفعال البيئي، يتحول المرء إلى خطر على نفسه ومن حوله. وهذا ما تدركه الاختصاصية حين تقطع جلستها فجأة، تاركةً "جيمي" غارقًا في أسئلته الموجعة: ماذا فعلت؟ هل أنا قبيح؟ هل يمكن أن أُحَب؟ بماذا أخطأت؟
في الحلقة الأخيرة يعود المحور إلى العائلة، والسؤال الذي ظل يلاحقنا: من نلوم؟ من يتحمل المسؤولية؟ تبدو الأسرة سعيدة في ظاهرها؛ أب حاضر، وزوج تُقدّر معاناته، وابنة مُحبة، وابن يثق به. لكن "جيمي" يواجه مجتمعًا يمارس طهرانية قاسية، ويعامله بوصفه وصمة غريبة، فيما المراهقون يلطخون حافلته بعبارات جارحة، والأسر المحيطة تُطلق أبناءها ليؤذوا غيرهم ثم تدينك أنت لتستر عجزها.
ومع ذلك، يبقى الأب محبًّا لم يخطئ. كانت طفولته كفيلة بتحويله إلى مجرم، لكنه تجاوزها. أحبَّ وتزوج وأنشأ عائلة ورعاها، وبنى حياة مهنية ناجحة وفّر لها كل ما تحتاج إليه. فأين الخطأ؟ تأتي المكاشفة في الدقائق الأخيرة من الحلقة، من خلال حوار بينه وبين زوجته: "وفرنا كل شيء، لكن كان يجب أن نصغي أكثر، أن نخلق مساحة أوسع لحديث أبنائنا".
“
إنجاب طفل في عالم كهذا لا يكفيه الحنان والوفرة، بل يحتاج إلى يقين بأنه ليس مشروعًا علينا أن نصوغه، بل كائنًا يعيش
في معنى الأبوة والإنجاب
ما مدى المسؤولية التي يتحملها أبٌ في مثل هذه الحالة؟ وهل كان إنجاب جيمي "جناية" عليه؟
إن إنجاب طفل في عالم كهذا يحتاج إلى أكثر من الحنان والوفرة؛ يحتاج إلى يقين بأنه ليس مشروعًا علينا أن نصوغه، بل كائنًا يعيش. نعم، سيعانون كما عانينا، لكنهم سيضحكون ويحبون ويندهشون، وهذا ما يجعل الحياة جديرة بأن تُعاش. المطلوب من الآباء أن يكونوا رعاة حاضرين، لا مجرد ظل؛ أن يتيحوا للأبناء أن يُفضوا إليهم، لا أن يتكتّموا كما كان "جيمي".
ومهما خُيّل إلينا أن العالم غث وعبثي، فإن عملًا فنيًّا كهذا، مُنفَّذًا بإتقان تقني وجرأة سردية، يترك في المشاهد أثرًا مضادًّا: في وجه كل "اللاإنجابيين" يمكنك أن تقول لسنا بحاجة إلى أن نكون جميعًا عظماء لنستحق الوجود. فوجودنا، بوصفنا جنسًا بشريًّا، يضمن أن يظهر منا من يخلق الفن، ومن يشعر بالآخرين، ومن يكتب عن مآسيهم، مثل "جيمي ميلر" نفسه، الذي عاد في النهاية إلى الرسم، إلى البراءة الأولى، إلى العجلة التي تدور بذاتها. عاد نعمةً مقدّسة.