يدعو عالِم النفس السريري والأستاذ في جامعتي هارفارد وتورنتو، جوردان بيترسون، قرَّاء هذا الكتاب إلى اتِّخاذ خطوةٍ جريئة للدخول إلى عالَمٍ أطلق عليه "ما وراء النظام"، وهو الفضاء الذي يُقابِل "النظام"، أو "الأرض المُستكشَفة المعروفة لنا"، بحسب تعبير المؤلف. يسعى كل شخصٍ إلى الالتزام بقواعد هذا النظام، الذي يحقق له الأمان عادةً، وذلك من أجل مواجهة ما لم يَجْرِ التصالح معه بعدُ، أو لم يَجْرِ التكيُّف معه، مؤكدًا أنَّ الحياة لن تستقيم فقط بالمكوث في فلك الحياة المُنظَّمة والتشدُّد بالتمسك بها؛ لأن ذلك ينفي أولًا واقع أن البشر ذوو قدرات محدودة ومعرفتهم بكيفية التصرُّف في المواقف المختلفة تبقى ناقصة دومًا، ومن ثَمَّ لا يمكنهم السيطرة على كل شيء. وثانيًا إن ذلك التوجُّه في حال الركون إليه لا يضمن عدم انجراف أصحابه إلى حالة من الجمود والشمولية الناتجة عن رغبتهم في تحقيق النتائج التي يطمحون إليها على أفضل وجهٍ ممكن دون الالتفات إلى جميع التحوُّلات النفسية والاجتماعية اللازمة لذلك، التي لا بدَّ مِن مراعاتها إن أرادوا التجاوُب مع العالم الذي لا يكفُّ عن التغيير.
الأفكار المطروحة في ثنايا الكتاب تمزج بين التصورات الفلسفية ومقولات علم النفس، ويقدّمها المؤلف في اثنتي عشرة قاعدة يعدُّها كفيلةً بإحداث التوازُن بين "النظام" و"ما وراء النظام"، منها ضرورة التخلي عن الأيديولوجيات، وعدم السماح بالوقوع في شَرَكِ الاستياء أو الخداع أو الغطرسة، والفهم الواعي بالأشياء غير المرغوب فيها، وعدم الحطِّ من شأن المؤسسات الاجتماعية والإنجازات الإبداعية.
وعلى الرغم من أن الكتاب يُصنَّف ضمن مؤلَّفات تنمية الذات وتطويرها، فإن مضمونه يتجاوز الطبيعة السطحية التي عادةً ما تَسِم مضمون بعضها، التي تأتي في هيئة نصائح نظرية تُقدَّم إلى القرَّاء بصيغةٍ وعظيَّةٍ مباشرةٍ. ففي هذا العمل يُبرهن بيترسون على توجُّهه الفكري التطبيقي وصبغه بدرجة واضحة من العمق، وذلك بالاستناد إلى أطروحات عالِمَي النفس النمساوي سيغموند فرويد والسويسري كارل غوستاف يونغ، وما أشارا إليه من تعقيد النفس البشرية. فالفرد لا يحمل كيانًا واحدًا يمكن فهمه وتفسيره عبر أفعاله وتصرفاته؛ فممارساته الحياتية قد تُعبِّر عن مواقف يكون الشكُّ والتردُّد فيها هو البطل، أو تعكس رغبةً جليةً في اقتراف كل ما يراه خيرًا بشجاعةٍ، والتحلي بالقيم الأخلاقية العليا، أو على النقيض قد تحمل في طياتها نزوعًا خفيًّا نحو الشر تُعبِّر في الواقع عن "كيانات فرعية توجد بداخله"، بغض النظر عن محيطه.
ما وراء النظام
تأليف: جوردان بيترسون
ترجمة: محمد إبراهيم الجندي
الناشر: التنوير، 2025م
