
يُحدِّد مؤلِّف هذا الكتاب، أستاذ الفلسفة بجامعة ليل الفرنسية، فيليب صابو، الشروط التي يمكن أن تُؤسَّس عليها مُقاربةٌ فلسفية للأدب تكون قادرة على إبراز أشكال التفكير التي يُنتِجها الكتّاب في نصوصهم، بالاعتماد على وسائلهم التعبيرية الخاصة. ويؤكِّد، عبر مناقشة مُستفيضة للممارسات الفلسفية للأدب، أن النصوصَ الأدبية موضوعاتُ تأمُّلٍ مميّزة للفلسفة، بما تُتيحه من فضاءاتٍ للتساؤل عن اللغة نفسها، والزمن، والذات الإنسانية في علاقتها الوجودية بالعالم.
ويطرح صابو في كتابه مجموعةً من الأسئلة المركزية، منها: كيف يمكن أن نقرأ الرواية فلسفيًّا؟ وكيف نَفصِل بين ما يوجد من مفاهيم ميتافيزيقية في الرواية وبين ما يوجد من عناصر روائية في الكتابة الفلسفية؟ ويُجيب عنها عبر دراسة نقدية ومقارِنة لجُملة من قراءات الفلاسفة للأعمال الأدبية، من أمثال: جاك دريدا، وجيل دولوز، وبول ريكور، وفانسان ديكومب، وألان باديو، وميشال فوكو. فكل واحدٍ من هؤلاء الفلاسفة يقدّم تصورًا خاصًّا لعلاقة الفلسفة بالأدب، ويبرهن، بطريقةٍ ما، على تلازُم المجالين وارتباطهما معًا ارتباطًا وثيقًا، باعتبارهما شكلين متكاملين للنشاط الفكري الواعي، حتى يصعب أحيانًا تمييز الحد الفاصل بين ما هو أدبي وما هو فلسفي في كتابات الفلاسفة والأدباء على السواء، وذلك انطلاقًا من أن الفلسفة هي نفسها "جنس أدبي مخصوص".
وهكذا يُجيب صابو عن أسئلته عبر مناقشةٍ لما هو فلسفي في الإنتاج الأدبي لروائيين مثل مارسيل بروست وعمله الأبرز "البحث عن الزمن المفقود"، وتوماس ومان وروايته "الجبل السحري"، و"السيدة دالاواي" لفرجينيا وولف، وغيرهم. وعبر هذا المنهج المُؤسَّس على تحليل الخطاب الأدبي للفلاسفة والفلسفي للأدباء، يعلن المؤلف رفضه التقسيمَ "التعسفي" بين ما هو أدبي يهدف إلى الإمتاع، وبين ما يُنظر إليه على أنه ينتمي إلى المجال الفلسفي المَعْنِي أساسًا بالأسئلة الوجودية وبالحقائق الأخلاقية. لأن مثل هذا التقسيم ينفي إمكانية التأثير المُتبادَل بين الفلسفة والأدب والتداخُل الحتمي بين مقولاتهما.
ويوضِّح المؤلف عبر تحليل دراسة فلسفية، قدَّمها الفيلسوف الفرنسي آلان باديو أوردها في كتابه "الدليل الصغير للإستطيقا"، لنص قصير كتبه الأديب الأيرلندي صموئيل بيكيت بعنوان "إلى الأسوأ" (Cap au pire)، أن النص الأدبي بوسعه هو أيضًا أن يُنتج ما يمكن عدُّه "حقائق فلسفية" تُكسِب الأدب "فلسفة خاصَّة" جديرة بالتأمل، وترفع نصوصه إلى مرتبةٍ فكرية أسمى. تلك النصوص الإبداعية، من رواية وشعر، التي حاول بعض الفلاسفة، وعلى رأسهم أفلاطون في كتابه الشهير "الجمهورية"، الانتقاص منها، حين رأى الشاعر "ليس إلا صانع أوهام".
ويشير صابو في خاتمة عمله إلى أنه من الأجدر للفلسفة ألا تنظر للأدب على أنه مجرد موضوع للتأمل من بين موضوعات أخرى خارجة عن منظومتها الخاصَّة، وألّا تتعامل معه من موقع الهيمنة أو الحسم؛ لأنها "إذا ما أخذت مأخذ الجدّ النشاط التأملي الذي يتم داخل نصوصه، قد تجد نفسها موضع مساءلة من جهة مفاهيمها، وحتى من جهة طبيعة نشاطها". وتأسيسًا على هذا التصوُّر، يمكن أن تُشيَّد علاقة أُلفةٍ بين الممارسة الأدبية للكتابة والممارسة الفلسفية للفكر. وهي أُلفة تجعل وضع الفلسفة إشكاليًّا من جهة نشاطها؛ إذ طالما يُنتج الأدب آثارًا فلسفية ضمنية هي أشبه بألعابٍ فكريّةٍ لا مُبالية، على حدّ تعبير المؤلف؛ أي إنه يلهو بالتفكير بحسب الطرح المتخيَّل الحر لمُبدعيه بعيدًا عن أي ادّعاءٍ لمعنى، فإن ذلك يؤدي في النهاية إلى تساؤل عن الوضع الفلسفي للفلسفة نفسها وإلى مناقشة وظائفها من منظورٍ نقدي، وفحص تأويلاتها المتعلّقة بقضية الحقيقة وفهم العالم في أبعاده الوجودية، ويجعلها، باختصار، "تتعلّم الانفصال عن ذاتها".
الفلسفة والأدب.. مقاربات مسألة ورهاناتها
تأليف: فيليب صابو
ترجمة: أبو بكر العيادي
الناشر: صفحة سبعة، 2025م