Hero image

خرائط رقمية تساهم في إعادة الحياة إلى الصحراء

محمد الصالح

نوفمبر 6, 2025

شارك
للأنظمة البيئية مستوياتٌ مختلفة من الإنذارات التي تُرصد قبل الوصول إلى الحالات الحرجة، والتصحّر باعتباره حالة بيئية حرجة خاضعٌ لهذه القاعدة؛ فهو يبدأ بسلسلة من المؤشرات القابلة للقياس، مثل انخفاض درجات رطوبة التربة، وارتفاع منسوب الأملاح فيها، وتراجع الغطاء النباتي. لينتهي الأمر بتدهور الأراضي، وتراجع خصوبتها؛ فتزداد العواصف الترابية، وتُستنزف المياه الجوفية، ما يهدد الأمنين الغذائي والمائي. ومع تظافر الجهود البحثية في تتبع ظاهرة التصحّر ودراسة العوامل المؤثّرة فيها، يفتح التقدم العلمي والتقني اليوم آفاقًا جديدة في مكافحتها، وذلك من خلال توظيف الخرائط الرقمية لتحديد المناطق المُهدَّدة بالتصحر وتوجيه بوصلة مبادرة السعودية الخضراء نحوها.
 

أحد الغايات الرئيسة لرؤية السعودية 2030 هو بناء مستقبل مستدام. وانطلقت مبادرة السعودية الخضراء في عام 2021م لتكون قطب الرحى في مساعي حماية البيئة وبرامج الاستدامة، بما في ذلك التشجير وحماية المناطق البرية والبحرية ومكافحة التصحر. 
ولا يقتصر مفهوم التصحّر على وصف التوسع الجغرافي للرمال وحسب، بل يُقصد منه أيضًا التدهور التدريجي للأرض في المناطق القاحلة وشبه القاحلة، حيث تفقد التربة خصوبتها ويذبل غطاؤها النباتي بسبب تفاعل العوامل الطبيعية والبشرية، مثل التغير المناخي والرعي الجائر واستنزاف المياه الجوفية.
 

تقنيات خرائط التصحر


ساعد التطور العلمي والتقني الباحثين على مقاربة التصحر من جوانب مختلفة، فلم تعُد معرفة التصحر مقتصرة على البيانات والنصوص والصور، بل باتت تُقاس عبر النماذج الرقمية.
فمع التطور التقني في نظم المعلومات الجغرافية (GIS)، وتقنيات الاستشعار عن بعد، بات بالإمكان إدخال كميات ضخمة من البيانات ومعالجتها لتصبح خرائط تفاعلية. وتمثل هذه الخرائط البيانات التي بُنيت عليها النماذج، ويمكن تحديثها باستمرار، لتصبح بمثابة سجلٍّ حي يجسّ نبض الأرض. بل ويتيح للباحثين دمج البيانات التي ترصد التغير في العوامل المؤثرة بالتصحر في النماذج مباشرة للتنبؤ بالسيناريوهات المستقبلية أو دراسة أثر التغيير في العوامل المختلفة.

ويرتكز مبدأ "خرائط التصحر" على بناء نماذج تدمج طبقات متعددة من البيانات عن: المناخ، والتربة، والغطاء النباتي، والاستخدام البشري للأرض، بالإضافة إلى توظيف الصور الجوية وأدوات الاستشعار عن بُعد. وبذلك يمكن للنماذج أن تكشف درجة حساسية المناطق للتصحر.

 

النموذج الرقمي لمراقبة التصحر


سجّلت أرامكو السعودية جهودًا متقدمة في هذا المجال؛ فإلى جانب جهودها في حماية البيئة، شيّدت نماذجَ رقمية متكاملة لتحويل البيانات المناخية والبيئية إلى خرائط تقيس حساسية مناطق المملكة للتصحر.
وقد طوَّرت إدارة السياسات البيئية والطاقة الخضراء، بالتعاون مع إدارة التميّز التشغيلي في أرامكو السعودية، النموذج الرقمي للتصحر في المملكة بالتوافق مع سياسات الشركة ورؤية المملكة 2030. طُوِّر النموذج من خلال الأساليب المعتمَدة في الشركة لمعالجة البيانات المكانية وبيانات الاستشعار عن بعد، وفق إطار عمل المفوضية الأوروبية للمناطق البيئية الحساسة (ESA). وبُنيَ هذا النموذج الرقمي المتقدم على 14 طبقة من البيانات المناخية والجيولوجية والبيئية، وكانت نتيجتها خريطةً وطنية لحساسية الأراضي للتصحر، صَنّفت أراضي المملكة إلى ست درجات، تبدأ من المنخفضة وتنتهي بالمرتفعة جدًّا. وأظهرت أن نحو 62% من المناطق المدروسة تقع ضمن الفئات مرتفعة الحساسية.

النشاط البشري والتصحر: مشاهد من وادي فاطمة وحرض


في غرب المملكة، يبرز وادي فاطمة شاهدًا على العلاقة المعقّدة بين النشاط البشري والبيئة. فقد كشفت دراسة علمية حديثة، نُشرت في الدورية المصرية للاستشعار عن بعد وعلوم الفضاء (EJRS)، أن استنزاف المياه الجوفية والتوسع العمراني الذي اقتطع مساحات من الأراضي الزراعية، إضافةً إلى الرعي الجائر، كلها عوامل أسهمت في تسارع مظاهر التدهور في الوادي. وبالاستعانة بالنماذج الرقمية، برزت ملامح هذا التدهور بوضوح، مما يؤكد على الحاجة الملحّة إلى إدارة كفؤة للموارد المائية، وتنظيم الرعي، وحماية الغطاء النباتي.

في حَرَض، تتجلّى مبادرة أرامكو السعودية في استعادة الحياة إلى الصحراء بوصفها مثالًا حيًّا على ترجمة الخرائط والنماذج الرقمية إلى واقع ملموس. فالمشروع لم يقتصر على زراعة آلاف الأشجار والشجيرات المحلية في بيئة قاسية، بل ساعد على إعادة بناء التوازن البيئي عبر تثبيت التربة، ويدعم إحياء الغطاء النباتي، واستعادة التنوع الحيوي. كما اعتمد المشروع على تقنيات ذات أثر بيئي أقل، من بينها تشييد حوض مائي يعمل بالطاقة الشمسية، وبناء مساراتٍ من مواد طبيعية، وتقليص التلوث الضوئي لحماية الكائنات الليلية. وهكذا غدت المنطقة شاهدًا على أن الجهود العلمية حين تُقرَن بالتخطيط والممارسات الدقيقة، فإنها تدعم تحويل الأراضي المُعرَّضة لخطر التصحر إلى مواطن نابضة بالحياة.

الخرائط أداةً للتخطيط

تكمن قيمة خرائط التصحر في أنها لا تعرض الواقع فقط، بل تختبر السيناريوهات الممكنة: ماذا يحدث لو قُلّص الرعي الجائر بنسبة 20%؟ كيف يتغير مؤشّر الحساسية إذا زادت مساحات التشجير في منطقة معينة؟
تُسهم هذه الخرائط، إلى جانب دورها في التخطيط البيئي، في دعم قطاعات أخرى مرتبطة بها، مثل الأمن الغذائي؛ إذ تساعد في توجيه خطط الزراعة إلى المناطق الأقل عرضة للتدهور، كما تسهم في رسم استراتيجيات إدارة المياه الجوفية، وهي أحد أعمدة الحياة في البيئات الجافة.
كما يمكن الاستفادة منها في مجالات مثل التخطيط العمراني؛ إذ تساعد في تحديد أماكن التوسع السكني بعيدًا عن الأراضي الحساسة، أو في تنمية السياحة البيئية التي تحتاج إلى توازن دقيق بين الاستفادة من المواقع الطبيعية وحمايتها.
وهكذا، تسهم الخرائط في خلق فرص عمل جديدة، وتنمية القطاعات الناشئة، وتعزيز جودة الحياة. وفي هذا السياق يقول أخصائي البيئة في إدارة السياسات البيئية والطاقة الخضراء في أرامكو السعودية، زياد حاوي: "بينما تبقى محاولة تقليل أثر تغيّر المناخ أولوية في مواجهة التصحّر، فإن الإدارة البشرية هي العامل الذي في متناول أيدينا للمساعدة في الحفاظ على التنوع الحيوي في المملكة".
ولا يقتصر دور مكافحة التصحر على المؤسسات الكبرى أو المبادرات الوطنية، بل يمتد إلى الأفراد والمجتمعات المحلية. فالمُزارع الذي يستخدم تقنيات ريٍّ موفِّرة ولا يستنزف المياه الجوفية، والراعي الذي يلتزم بمواسم محددة للرعي، والطالب الذي يشارك في حملات التشجير، كلهم يمارسون دورًا مهمًّا في خفض مخاطر التصحّر. وهذا البعد المجتمعي يتكامل مع الجهود الوطنية، ويحوّل مواجهة التحدي البيئي إلى مكوِّنٍ أصيل في الثقافة العامة.
 

من دراسة الظاهرة إلى صناعة القرار


أصبحت مواجهة التصحر حوارًا مع الأرض، نصغي فيه إلى إشاراتها التي تسجلها الأقمار الصناعية، فتترجمها النماذج الرقمية إلى خرائط واضحة. وفي هذا الحوار، يتضح أن الأرض تفقد قدرتها على العطاء حين نهملها، وأنه يمكن استعادة عطائها متى أحسنّا إدارتها. ففي حرض تنمو الشجيرات من جديد، وفي وادي فاطمة تبيّن الخرائط تأثير الإنسان في الماء والتربة. هذه الأمثلة المحلية تثبت أن التصحّر ليس قدرًا محتومًا. 

لذا، فإن القيمة الأهم لهذه الخرائط تكمن في كونها أداة استباقية، تمنح صانع القرار فرصة التدخل المبكر. وتتيح للمجتمع الفرصة لتهيئة المستقبل للأجيال القادمة، بقرار يستند إلى معرفة دقيقة، وبإرادة جماعية ترى في كل خريطة طريقًا إلى بيئة أكثر حيوية. فالتصحر لا يعرف الحدود الجغرافية، والمملكة بخبراتها ومبادراتها تضع نفسها في قلب الجهد لمكافحة هذه الظاهرة، بما يتناغم مع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة.