على الرغم من كثرة الابتكارات التي دخلت إلى الممارسة الزراعية منذ ظهور العصر الزراعي حتى اليوم، لا تزال حاجة البشر المتزايدة إلى الغذاء تدفع للاستمرار في تطوير وسائل الإنتاج. ومن أحدث ما توصل إليه العلماء في سبيل ذلك: فصل الزراعة عن البيئة وتغيُّراتِها؛ وذلك بالاستعاضة عن عملية البناء الضوئي التي تمكّن النبات من إنتاج الغذاء، بالزراعة الكهربائية التي تُنتج الغذاء من دون الحاجة إلى الأراضي الواسعة وكميات المياه الكبيرة وأشعة الشمس المباشرة. وهي تؤمِّن الغذاء في جميع الحالات بفعالية عالية وكلفة أقل، ومن دون الحاجة إلى ضوء.

في مختبرات الزراعة الكهربائية، تتحوّّل الكهرباء إلى غذاء دون حاجةٍٍ إلى ضوء الشمس.
تعتمد جميع الكائنات الحية تقريبًا في بقائها واستمرارها على عملية البناء الضوئي الموجودة في النبات وبعض البكتيريا والطحالب. وتبدأ هذه العملية عندما تَمتص مادةُ الكلوروفيل، الموجودةُ في أوراق النباتات، الطاقةَ من ضوء الشمس، وتحوُّل الماءَ، الـذي تمتصه الجذور من التربة، وثاني أكسيد الكربون في الهواء، إلى أكسجين ومغذّيات على شكل كربوهيدرات. بيْدَ أنَّ هذه العملية غير كفؤة وغير فعَّالة في تحويل الطاقة؛ إذ إنها تحوِّل 1% فقط من طاقة ضوء الشمس إلى طاقة كيميائية مخزنة في النبات، بحسب مقالة نشرتها مجلة (Cell) في 20 نوفمبر 2024م. ولهذا السبب، تتطلّب كمياتُ الغذاء المطلوبة والمتزايدة أراضيَ أراضٍ شاسعة جدًّا وكمياتٍ كبيرة من المياه، وهما موردان آخذان في التناقص.
(لمزيد من المعلومات حول هذا التباين انظر "القافلة"، الزراعة في عصر الجفاف، مارس - أبريل 2021م).
“
بالرغم من أنّ فكرة استخدام الكهرباء في تغذية النبات ليست جديدة، فإنها تشهد اليوم تقدّمًا كبيرًا وتحقق نتائج واعدة
تقنية ذات جذور قديمة
اليوم، يعوِّل الباحثون على تقنية لطالما بحثها العلماء منذ أواخر القرن الثامن عشر وراكموا المعلومات والخبرات العديدة حولها، ألا وهي الاستفادة من الكهرباء في تحفيز نمو النباتات. ففي أواخر سبعينيات القرن الثامن عشر، أجرى عالم الطبيعية الفرنسي الكونت دي لا سيبيد، تجربة سقى فيها النباتات بسائل مشبع بالكهرباء، وذكر في النتائج أن النباتات نمت بفترة أسرع، وبقوة أكبر من المعتاد.
وعلى غرار بنيامين فرانكلين، الذي أطلق الطائرة الورقية لجذب البرق، ركَّب عالم الفيزياء الفرنسي بيير بيرثيلون عام 1783م، موصلات صواعق مصغّرة لجمع الكهرباء من الغلاف الجوي، ثم وزَّع الشحنة عبر الأسلاك في أرجاء الحديقة، وكتب كتابًا ضمَّنه بتجارب معاصريه في كهربة النباتات سمَّاه "كهرباء النباتات".
وفي عام 1898م، تحدَّث أستاذ الفيزياء الفنلندي، كارل لمستروم، في اجتماع الجمعية البريطانية لتقدّم العلوم، عن أن الأشجار تنمو بسرعة أكبر تحت الشفق القطبي. وهذا ما لاحظه في أثناء رحلته بالقرب من القطب الشمالي، وعزا ذلك إلى المجال الكهربائي في تلك المنطقة.
وفي عشرينيات القرن الماضي، نشر المخترع الفرنسي جوستان كريستوفلو، كتابًا عن الزراعة الكهربائية كان الأول في هذا المجال. كما أن الحكومة البريطانية أمضت عشرين سنة بين الحربين العالميتين في البحث عن إمكانية كهربة النباتات، وقد فعلت ذلك في سريَّة تامة تقريبًا.
بعد ظهور الأسمدة النيتروجينية، والفوسفورية الرخيصة، والمبيدات الحشرية، ومبيدات الأعشاب، توقّف الاهتمام بالزراعة الكهربائية. ويُذكر أن الأسمدة والمبيدات اُخترِعت في الأصل لدعم الجهود العسكرية. فعلى سبيل المثال، سوّقت أمريكا فائض نترات الأمونيوم، وهو أحد مكوّنات القنابل، بوصفه سمادًا للمزارعين. وفي القرن الحادي والعشرين، أدَّت المخاوف البيئية من الأسمدة التجارية إلى عودة الاهتمام بالزراعة الكهربائية مجدَّدًا.
تجربة صينية مهمة
حديثًا، توصل باحثون صينيون إلى إجابة عن سؤال حيَّر العلماء ثلاثة قرون: هل يمكن للكهرباء أن تزيد نمو النباتات؟ إذ أشاد عدد من العلماء بالنجاح الباهر الذي حققته تجربتهم للزراعة الكهربائية، وهي الأكبر في العالم. فوفقًا لصحيفة "ساوث تشاينا مورنينج بوست" في 16 سبتمبر 2018م، أن فإن التجارب التي أجرتها الأكاديمية الصينية للعلوم الزراعية، والتي شملت مزارع في جميع أنحاء البلاد، أثبتت أن إنتاجية المحاصيل النباتية ازدادت بنسبة تُراوح بين 20% و30%. واستُخدِمت في هذه التجارب كميات أقل من المبيدات الحشرية، إذ بلغ الانخفاض في استخدامها نسبةً تتراوح بين 70% و100%، كما بلغت نسبة استخدام الأسمدة 20% فقط. وقد بلغ إجمالي مساحات البيوت الزجاجية التي أُجريت فيها هذه التجربة حوالي 3600 هكتار (8895 فدانًا).
وتمثَّلت التقنية الجديدة بتعليق أسلاك نحاسية عارية على ارتفاع ثلاثة أمتار فوق مستوى سطح الأرض، تحيط بالبيوت الزجاجية بالكامل، وتُصدر نبضات سريعة من الشحنة الإيجابية تصل قوتها إلى 50 ألف فولت.
تقتل هذه النبضات الكهربائية ذات الجهد العالي البكتيريا والأمراض الفيروسية النباتية في الهواء والتربة. كما تؤثر في التوتر السطحي لقطرات الماء على أوراق النباتات، وهو ما يسرِّع من التبخُّر. وتساعد أيضًا على نقل الجسيمات المشحونة طبيعيًّا مثل البيكربونات والكالسيوم داخل النبات؛ وتُسرّع الأنشطة الأيضية، مثل امتصاص ثاني أكسيد الكربون. وأوصت الدراسة بزيادة استعمال الزراعة الكهربائية في جميع أنحاء الصين، كما أوردت مجلة "المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس" في 19 أكتوبر 2018م.

مدن المستقبل تُُزهر في السماء، حيث تتحوّّل ناطحات السحاب إلى مزارع كهربائية تنتج الغذاء بكفاءة تفوق ضوء الشمس.
فصل الزراعة عن البيئة
التطوُّر النوعي في هذه التقنية حقَّقه حديثًا فريق من العلماء من جامعة كاليفورنيا في ريفر سايد، بالتعاون مع جامعة واشنطن بقيادة خبير الكيمياء الكهربائية فينج جياو. تَمثَّل في ابتكار طريقة جديدة لإنتاج الغذاء يُتوقع منها أن تُحدث ثورة في الزراعة تجعلها أكثر كفاءة واستدامة، يُطلق عليها اسم "الزراعة الكهربائية".
الزراعة الكهربائية تعني، باختصار، فصل الزراعة عن البيئة وتغيُّراتها. وذلك بالاستعاضة عن الحقول الزراعية الواسعة بمبانٍ متعددة الطوابق قدر الإمكان، مُغلَّفة بألواح شمسية على جدرانها وأسطحها. تمتص الألواح الشمسية أشعة الشمس وتحوِّلها إلى طاقة تُحفّز تفاعلًا كيميائيًّا بين ثاني أكسيد الكربون والماء لإنتاج الأسيتات، وهو جزيء مشابه لحمض الأسيتيك، المكوِّن الرئيس في الخل. ويُستخدم الأسيتات بعد ذلك لتغذية النباتات المزروعة مائيًّا من دون الحاجة إلى الضوء. كما يمكن استخدام هذه الطريقة لزراعة كائنات حية أخرى منتجة للغذاء، مثل: الفطر والخميرة والطحالب.
مراحل تطورها
كانت البداية في عام 2017م، مع الكيميائي فينج جياو، الذي كان يعمل في جامعة ديلاوير، حين تساءل: ماذا لو كان من الممكن تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى مادة كيميائية يمكن للنباتات امتصاصها من خلال جذورها، ثم تحويلها إلى السكريات التي تحتاج إليها للنمو، بدلًا من الاعتماد على البناء الضوئي؟
بعد بضع سنوات، أثبت أنه بدلًا من ضوء الشمس، تستطيع الكائنات الحية القادرة على البناء الضوئي بشكل طبيعي مثل الطحالب، أن تتغذى على الأسيتات، وهو مركب كيميائي يُصنع من ثاني أكسيد الكربون باستخدام عملية تُسمَّى "التحليل الكهربائي".
والتحليل الكهربائي قديم، قد طُوِّر في أواخر القرن الثامن عشر عندما استخدمه الكيميائي البريطاني، السير همفري ديفي، لعزل عديد من العناصر الجديدة في أوائل القرن التاسع عشر. ويُذكر أن هذه العملية تُستخدم اليوم في كثير من المجالات، من تنقية المعادن إلى إزالة الشعر.
يؤدي التحليل الكهربائي لثاني أكسيد الكربون إلى إنتاج مجموعة متنوّعة من الهيدروكربونات الأساسية، والجزئيات البسيطة ذات الصلة، مثل: الميثانول والإيثانول والإيثلين والفورمات والأسيتات. وتستطيع النباتات استقلاب (أي تحويل الغذاء إلى طاقة لتشغيل الوظائف في الخلايا) الإيثانول والأسيتات، ولكن يصعب عليها نسبيًّا إنتاجها بالبناء الضوئي.
لذلك، طَوَّرت دراسة أجراها فينج جياو، ونُشرت في مجلة "نيتشر فوود" في يونيو 2022م، عملية من خطوتين تُسمَّى "التحليل الكهربائي الترادفية" (tandem electrolysis process). في الخطوة الأولى، يُحوَّل ثاني أكسيد الكربون إلى أول أكسيد الكربون، ثم في الخطوة الثانية، يُحوَّل أول أكسيد الكربون إلى الأسيتات، وهو مصدر حيوي للكربون؛ إذ إنه يوفر للنباتات الطاقة والعناصر الأساسية اللازمة للنمو. فبمجرد أن تمتص النبتة الأسيتات، تحوِّله إلى مركبات رئيسة، مثل: السكريات، والأحماض الأمينية الضرورية لعملية البناء الغذائي، وانقسام الخلايا، والنمو العام.
يحقّق التحليل الكهربائي انتقائيةً للأسيتات بنسبة 90%. أمَّا النسبة المتبقية (10%)، فهي عبارة عن منتجات ثانوية أغلبها من الإيثلين والهيدروجين، وهما من المواد الكيميائية المُستخدَمة بكثرةٍ في الصناعة، ويمكن إعادة استعمالهما في تطبيقات أخرى، مثل: تحويل الإيثلين إلى بلاستيك وبوليمرات.
ومع أن هذه التقنية لا تزال في مرحلتها التجريبية، فقد أظهرت الدراسات الأولية نتائج واعدة في المختبر؛ إذ نجح العلماء في زراعة نباتات تتغذّى على الأسيتات من دون الحاجة إلى عملية البناء الضوئي بالكامل.
“
يُعوّل على الزراعة الكهربائية في تقليل الاعتماد على الأسمدة والمبيدات والماء، وفي زيادة الإنتاج أضعافًا مُضاعفة
نجاح الزراعة الكهربائية ومزاياها
نجحت الزراعة الكهربائية حتى الآن في زراعة الفطر والطحالب والخمائر. وتركِّز تجارب الباحثين الحالية على الطماطم والخس، على أمل توسيع نطاقها لتشمل المحاصيل ذات السعرات الحرارية العالية، مثل: الحبوب والبطاطا الحلوة في المستقبل. ولكي تنجح الزراعة الكهربائية في إنتاج المحاصيل ينبغي تعديل هذه النباتات وراثيًّا لاستقلاب الأسيتات وتحويله إلى طاقة للنمو.
والجدير بالذكر أن النباتات في أثناء النمو المبكر للبذور في دورة الجليوكسيلات تستخدم الأسيتات مصدرًا للكربون ومصدرًا للطاقة لتكوين البراعم؛ إذ لا تستطيع البذور إنتاج الكتلة الحيوية باستخدام عملية البناء الضوئي بسبب عدم وجود عضو يؤدي هذه الوظيفة. ويتوقّف هذا المسار الأيضي بمجرد أن تصبح يصبح النبات قادرة قادرًا على البناء الضوئي. ومن هنا، فإن إعادة إيقاظ هذا المسار الأيضي مرة أخرى سيؤدي إلى استخدام الأسيتات بوصفه مصدرًا للطاقة والكربون.
إن للزراعة الكهربائية كثيرًا من المزايا. فهي قادرة على تقليص المساحة الأرضية والمياه اللازمة للزراعة التقليدية بنحوٍ كبير. ووفقًا للنتائج الأخيرة، التي نشرتها مجلة (Eurek Alert) في 23 أكتوبر 2024م، فإن هذه التقنية قادرة على تقليص استخدام الأراضي بنسبة 94%، وهو رقم مذهل يمكن أن يحرِّر مساحات كبيرة من الأراضي للانتفاع منها والحفاظ على البيئة. وقد توصّل الباحثون من خلال هذه التقنية إلى إنتاج الغذاء بمعدّل أربعة أضعاف مقارنة بعملية البناء الضوئي. ومن فوائدها أيضًا، تقليل الهدر في الأسمدة بنسبة 90% كما جاء في المصدر نفسه.
