
"الهيمنة الذكورية" فكرة سائدة ومتغلغلة في كل البيئات والثقافات بدرجات مختلفة. يتفق على ذلك الذين يرغبون بهذه الهيمنة ويدافعون عنها، وأيضًا الذين يرفضونها ويحاولون تفكيك مظاهرها وآثارها. والإبداع، بوصفه مرآةً للواقع، يعكس هذه الهيمنة فيما لا يُحصى من أعمال. وفي المقابل، هناك أعمال سردية تبدو فيها السيطرة الأنثوية واضحة، دون أن يتوقف النقّاد والقرّاء أمامها، كأنهم لا يريدون الاعتراف بها أو يعدّونها استثناءً لا يستحق الفهم والتفكيك، بعكس الهيمنة الذكورية.
في روايات تكتبها نساء، من المنطقي أن نجد الهيمنة النسائية بكثرة. فالسرد سُلطة، ومن الطبيعي أن تستخدم المرأة سُلطتها لصالح بنات جنسها. فلدى الرائدات، نرى صراع الإرادات بين الرجل والمرأة، كما في قصص ليلى بعلبكي وغادة السمان. لكن أجيالًا تالية من الكاتبات منحت الصوت النسائي هيمنته الفنية، ومن دون صِدام، كما في أعمال علوية صبح، وخصوصًا روايتها "مريم الحكايا".
لكن الرجال أيضًا يكتبون عن نساء مهيمنات. نجيب محفوظ مبتكر "سي السيد" هو نفسه كاتب رواية "السراب" التي سبقت الثلاثية بسنوات. في تلك الرواية عاش "كامل رؤبة لاظ" في رعاية أمه، وكان من أثر تدليلها له ومبالغتها في هيمنتها الناعمة عليه أنه فشل في علاقته الزوجية. وفي نوفيلا "الكرنك" قدَّم محفوظ شخصياتها بترتيب ظهورها في الأحداث، وعنون كل فصل باسم الشخصية التي يتناولها. وجعل الفصل الأول لـ"قرنفلة"، الراقصة المعتزلة التي تدير مقهى الكرنك، وتستمر هيمنتها على مدار النص؛ فهي التي ترعى روّاد المقهى من الطلّاب وتهيمن عليهم بطرق مختلفة؛ يتخبطون في آرائهم، ويدخلون المعتقل ويخرجون منه محطَّمين، بينما تبقى الراقصة المعتزلة متحكمة في حياتها، متحكمة في الرجال الذين يقعون في غرامها، وتمد يد العون للمحتاجين منهم، وتعرّف الاستقامة في علاقاتها العاطفية: "قام سلوكي العام على ألّا أقبل علاقةً إلا عن حب، ولا أمارسها إلا عن زواج". وكما الثلاثية، تحولت "السراب" و"الكرنك" إلى فِلمين من إخراج أنور الشناوي وعلي بدرخان على التوالي.

من أشكال الهيمنة في المجتمعات المغلقة
في المجتمعات المغلقة التي تحتفي بقيم الذكورة، يتقدم الرجال واجهةَ الأسرة في التعامل مع الآخرين، أما التي تتولى رعاية التقاليد الحسنة وغير الحسنة (ومنها تقاليد الثأر) فهي المرأة.
وقد جسَّد الروائي خيري شلبي هذه السيطرة من خلال شخصية "فاطمة تعلبة" في رباعية "الوتد"، حيث شبّه هذه المرأة بوتد الخيمة الذي يحفظ الأسرة. وقد تحوّلت إلى مسلسل تلفزيوني مثَّلت فيه الراحلة هدى سلطان دور "فاطمة تعلبة".
وفي "ساق الغراب" للروائي يحيى أمقاسم، نرى تقاليد الهيمنة الأنثوية نفسها حتى في شؤون الحرب: "... الأمهات الكبيرات يصرخن في أبناء القرية، كل أم تضرم النار في قلب ابنها، وتناديه في صراخ فاجع بأنها لم تلده، وتدخر شجاعته إلا ليوم طويل كهذا. كان الرجال يمتثلون لنداء الحرب في حناجر الأمهات، مستنشقين رائحة البارود في بنادقهم". وتبدو صورة الأم "صادقية" في رواية يحيى أمقاسم ضربًا آخر من الأم المسيطرة تشبه "فاطمة تعلبة" في حزمها، لكنها تتمتع، بالإضافة إلى ذلك، بقوى سحرية ونبوئية.
“
تتعدّد صور هيمنة المرأة في الرواية، وتُراوح بين التعالي على الزوج ورعاية التقاليد، ولم يَعد نادرًا أن تعطي اسمها عنوانًا للرواية
المرأة عنوان الرواية
في بعض الروايات يُمعن الروائي في تأكيد الهيمنة الأنثوية بجعل اسم البطلة عنوانًا للرواية، وأبرزها "مدام بوفاري" للفرنسي غوستاف فلوبير، و"عشيق الليدي شاترلي" للإنجليزي ديفيد هربرت لورانس (د. هـ. لورانس).
لم تَزل "مدام بوفاري" تحظى بالاهتمام إلى اليوم بعد 180 عامًا من كتابتها. حظيت "إيما" بحب غير محدود ولا مشروط من زوجها الطبيب الريفي "شارل بوفاري". "شارل" هو نموذج الذكورة المتفانية في الحب غير المشروط، سعيد لأن بيتًا واحدًا يحتويه مع هذا الجمال النادر، لكنها لم تبادله أي حب. وظل في نظرها طبيب أرياف خامل الذكر، لا يتذوق الفن ولا يمكنه أن يختار ثيابه، فضلًا عن أن يكون مناسبًا لارتياد حفلات الطبقة الراقية التي فتنتها. فسعت وراء مغامراتها مع رجال آخرين حتى انتحرت، وتركته مُفلسًا يسدد ديونها لدى متاجر الملابس والمجوهرات. ولم يتحوّل "شارل" عن حبها بعد أن اطلع على مراسلاتها مع عشاقها وأصر أن يبني لها ضريحًا يليق بجمالها.
اختار فلوبير للمرأة العاشقة النهاية التي يتمناها الرجال، لكن د. هـ. لورانس في "عشيق الليدي تشاترلي" منح "كوني" فرصة الحياة والإصرار على حبها لعامل المزرعة الذي بحثت عنه والتحقت به بعد أن طرده زوجها الأرستقراطي.

"مدام بوفاري".. العاشق الطيب مظلوم مع إيما والقرّّاء.
المرأة المتلاعبة عند دوستويفسكي
في عالم دوستويفسكي، الكاتب الذي ذهب بالمشاعر الإنسانية إلى أقصى إمكاناتها، لا مجال للوسطية؛ فلديه نوعان من العلاقات بين الرجال والنساء. الأول علاقات حب أساسها تضامن الفقراء بلا أي انتباه إلى موضوع الرغبة، وهذا نموذج بدأ في روايته الأولى "الفقراء" التي قامت على إنكار ذات متبادل بين بطل الرواية وبطلتها. والنوع الثاني من النساء هو نموذج المرأة المهيمنة المتلاعبة بالرجال، بسبب شرٍّ متأصل ناتج عن اضطراب نفسي أو ظلم سابق وقع على المرأة.
المثال الأبرز لقوة الشر الأنثوية هو "ناستاسيا فيليبوفنا"، صاحبة الجمال الصاخب، ومعذبة رجال مجتمع بطرسبرج الراقي وشبابهم كما في رواية "الأبله". يطلعنا دوستويفسكي على ظروف نشأتها، فهي يتيمة تولى صديق والدها تربيتها وتثقيفها لتكون محظية له، ولم تتسامح "ناستاسيا" مع هذا الاستغلال، فأخذت تتفنن في تعذيبه وتعذيب الرجال الآخرين حتى قتلها أحد عشاقها المتيّمين، إذ لم يسعه تحمُّل تلاعبها. ويعود النموذج الجمالي نفسه وظروف النشأة نفسها في شخص "جروشنكا" برواية "الإخوة كارامازوف" التي تلاعبت "بديمتري"، وإن بدا تشوُّشها في قضايا الحب غير واعٍ بنفسه، على عكس "ناستاسيا" التي تعي شرها وتستمتع بممارسته ضد الرجال دون تمييز. وهي أقرب إلى صورة "ناستينكا" في "الليالي البيضاء" التي أقبلت على الراوي الكاتب، ثمَّ صدته دون مبرر مفهوم. في كل الحالات تبدو هيمنة المرأة في روايات دوستويفسكي نابعة من قوة سحرية لا يفسرها دوستويفسكي دائمًا. العارفون بسيرة الكاتب يدركون أن النساء المتلاعبات بالرجال في رواياته، لسن سوى صدى لهيمنة بولينا سوسلوفا، أكثر تجاربه فشلًا؛ إذ طلبت منه أن يتبعها إلى باريس، وعندما وصل إلى هناك وجدها قد انخرطت في علاقة جديدة. وحملت المرأة المتلاعبة في رواية "المقامر" اسم "بولينا ألكسندوفنا"، وقد منحت بطل الرواية لحظات من العاطفة، ثمَّ انقلبت فجأة إلى التجاهل والبرود وجعلته في حالة قلق وتبعية دائمة.
وفي "الجريمة والعقاب" يمر الطالب المُفلس "راسكولينيكوف" بحانة في طريق عودته مخذولًا من لقاء المرابية العجوز، فيجد في الحانة "مارميلادوف" الذي أخذ يحدثه عن غرامه بزوجته الطيبة التي تدير البيت باقتدار وتتحكم فيه وفي ابنته من زوجته السابقة "صونيا". ثم يموت "مارميلادوف"، ويقصد "راسكولينيكوف" بيته للعزاء فيرى "صونيا" ويحبها، أو يحب العذاب في شخصها، وتبادله هذا الوله النوراني وتمارس سطوتها عليه بإجباره على الاعتراف بقتل المرابية كي يتطهر من الجريمة، ثمَّ أقامت بالقرب من السجن لتزوره كل يوم. هذا النوع من الحب بين الفقراء نجده بكثرة لدى دوستويفسكي، وهو حب يمكن أن نراه تضامنًا بين الضعفاء المنبوذين أكثر منه غرامًا.

تعدد الصور الأنثوية عند تشيخوف
صوَّر تشيخوف، القاصُّ الأعذب في العالم، الهيمنة الأنثوية في عدد من قصصه، ففي قصة "اللعوب" (الواردة في المجلد الثاني من أعماله الكاملة بترجمة أبو بكر يوسف)، نجد بطلة القصة "أولغا إيفانوفنا" تهوى الانتساب إلى المجتمع الراقي؛ فأصدقاؤها رسامون وكتّاب وممثلون، "ولا نساء حولها لأنها كل النساء"، وتتزوج بطبيب خامل الذكر، فتبدو علاقتهما مثل علاقة "شارل" و"إيما بوفاري". لكن الفرق أن "إيما" تطلّعت إلى حياة الصخب بعد زواجها، بينما تعيش "أولغا" هذه الحياة من البداية، وتزوجت فقط لإكمال الصورة، من دون أن تُكنَّ لزوجها أي حب أو احترام. ففي ليلة عرسهما قدمته لأصدقائها باستخفاف: "انظروا إليه، أليس صحيحًا أن فيه شيئًا ما؟".
وتبلغ الهيمنة الأنثوية ذروتها لدى تشيخوف في قصة "دموع لا يراها العالم" (المجلد الأول). نرى في بداية القصة مجموعة من العسكريين ووجوه مدينة تشيرفيانسك يغادرون النادي في منتصف الليل جياعًا؛ إذ لا يقدم نادي هذه المدينة الصغيرة طعامًا. ويبادر القائد العسكري "روبيروتيوسوف" إلى دعوة أصدقائه إلى البيت ليأكلوا شيئًا. يدخل إلى البيت نافشًا ريشه، ويأمر الخادم بإحضار بعض المخللات والأطعمة الخفيفة، لكن الرجل يعود ليخبره بأن زوجته "ماشا" أوصدت القبو والخزائن في وجه الخدم وأخذت المفاتيح. يذهب إليها ليستعطفها، ويعدّد لها أسماء السادة المحترمين الذين دعاهم إلى منزله وهي توبّخه وتصف ضيوفه بالطفيليين معدومي الذوق الذين يأتون في هذه الساعة "هل يظنون بيتنا حانة؟". يستمر توسله ويستمر صراخها عليه حتى إنها تضربه وتُسبِّب له كدمة في وجهه.

مشهد من فِلم "المريض الإنجليزي"، من بطولة: رالف فاينس، وجولييت بينوش، وكريستين سكوت توماس، وويليم دافو.