
ثمَّة فرضيَّات تاريخية بقيت راسخة زمنًا طويلًا، ولكنها تخضع اليوم للمراجعة بفعل مُعطيات ثورة الجينوم التي قدَّمت أدلة جديدة، من شأنها إعادة كتابة تاريخ الهجرات، ونشوء المستوطنات البشرية الأولى، وتطوُّر اللغات. إذ إن سلاسل جينومات الزمن القديم، التي استُخرِجت من الكمون الأبدي في رواسب الكهوف، أفصحت عن معلومات تاريخية مختلفة عن تلك التي عهدناها.
وفي هذا الصدد، يقول العالم الألماني من معهد ماكس بلانك، بنيامين فيرنوت: "إن بزوغ فجر تحليل الحمض النووي للرواسب، يُوسّع كثيرًا نطاق الخيارات المُتاحة لاستكشاف التاريخ التطوُّري للبشر القدماء". ويُضيف عالم الجينوم الإحصائي في جامعة أكسفورد، جورج باسبي: "إن التقدُّم السريع في التسلسل الجيني، فتح نافذة جديدة كُليًّا على الماضي. فنحن جميعًا نتاج شبكة من العلاقات الجينية بين مختلف الجماعات البشرية القديمة والحديثة".

خريطة مسارات الهجرة البشرية عبر العصور الأولى.
عِلم الجينوم هو عِلم حديث، يتجاوز عِلم الوراثة، ويُعنى بدراسة جينات الكائن الحي، المُشفَّرة وغير المُشفَّرة، في حمضه النووي، الذي يتألَّف بالأساس من سلسلتين بوليمريتين مُرَتبتين على هيئة حلزونية مُزدوجة، ومُرتبطتين معًا بروابط هيدروجينية.
وقد أُحصي في الجينوم البشري حوالي 3 مليارات نيوكليوتيد (اللبنة الأساس للحمض النووي). وعلى ضخامة هذا الرقم، فإنه يتضاءل قياسًا بعدد النيوكليوتيدات في جينوم كائنات عديدة أخرى. فشجرة الصنوبر اللوبلي، مثلًا، يصل حجم جينومها إلى نحو 23 مليار نيوكليوتيد؛ أي أكبر من حجم الجينوم البشري بأكثر من سبع مرات. ومع ذلك، يبقى أصغر بخمسين مرة مما لدى نبتة "باريس جابونيكا" المزهرة، اليابانية الأصل، التي يصل حجم جينومها إلى نحو 150 مليار نيوكليوتيد.
ولأنها تحمل جميع المعلومات الوراثية للخليَّة الجسدية، فإن سلاسل الجينومات تحظى بأهمية كبيرة في أوساط البحث العلمي، ولا سيَّما بعد اكتمال مشروع الجينوم البشري (HGP). وهو مشروع دولي ضخم، قُدِّرت تكلفته بنحو 3 مليارات دولار أمريكي في بداية الألفية، ويُعدُّ أحد أهم الإنجازات العلمية في التاريخ. فقد شارك في هذا المشروع عدد كبير من الباحثين من بلدان عديدة، تمكنوا من إنتاج التسلسل الأول للجينوم البشري. وعمليات الإنتاج هذه شديدة التعقيد، وتتطلَّب تقنيات مُتقدِّمة، فلا يمكن قراءة التسلسل من البداية إلى النهاية في خطوة واحدة. بل يُقسَّم الحمض النووي أولًا إلى أجزاء أصغر، ثم يخضع كل جزء لتفاعلات كيميائية تسمح باستنتاج هويَّة قواعدها وترتيبها، وهذا الترتيب المُحدد للقواعد، والمُشتق من كل قِطعة من الحمض النووي، يُطلَق عليه "قراءة التسلسل". ثم تُجمَّع قراءات التسلسل الناتجة حاسوبيًّا، لاستنتاج تسلسل الجينوم الأولي. وفي الوقت الحالي، صارت تتوافر تسلسلات "مرجعية" مُتاحة للجينوم البشري.
تضاعفت أهمية الجينومات في الآونة الأخير، بفضل التطوُّر الكبير الذي طرأ على علم الأحياء الحاسوبي. فقد صار بمقدور باحثي الجينوم تحليل كميات هائلة من بيانات التسلسل الجيني والحمض النووي بتكلفة أقل ووقت قياسي وجودة عالية، كما سنعرف لاحقًا. ومن ثَمَّ، زاد فهمنا لعلوم الحياة والتطوُّر البشري عبر التاريخ. يقول أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة كاليفورنيا، تيم ويفر: "يُمكنك النظر إلى كثير من المواقع المُختلفة في الجينوم، لدى عدد من الأفراد، وفي كثير من المُجتمعات، لتحقيق قوَّة إحصائية أكبر في اختبار فرضيات مختلفة".

أصبح علم الأنساب الجغرافية وتقنياته الحديثة يتيحان اليوم تتبع شجرة العائلة وهجرات الأسلاف حول العالم.
الأصول.. والهجرات البشرية الأولى
كشفت دراسة حديثة لفريق من الباحثين بمعهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية في لايبزيغ بألمانيا، عن مُفاجأة غير مُتوَّقعة حول علاقة نياندرتال، أو الإنسان البدائي، بالإنسان الحديث. والسرُّ يكمن في تسلسل جيني فريد لكروموسومات (Y)، كشف عن وجود صِلة قرابة وثيقة بينهما. ويقول المؤلف الرئيس للدراسة، مارتن بيتر: "كانت هذه مفاجأة كبيرة لنا". فقد توصَّل الباحثون إلى أن أحدث سلف مُشترك لكروموسومات (Y) في النياندرتال والإنسان الحديث، يعود إلى نحو 370,000 عام؛ أي إلى وقت أحدث بكثير مما كان يُعتقد سابقًا. وهذا دليل جديد على أن النياندرتال والإنسان الحديث المُبكِّر قد التقيا وتبادلا الجينات قبل الهجرة الكُبرى من إفريقيا، وأن سُكَّانًا ذوي صِلة بالإنسان الحديث، كانوا موجودين بالفعل في أوراسيا آنذاك. وفي هذا الصدد، يقول عالم الأحياء التطوُّرية بجامعة ميشيغان، ج. برادبورد: "نحن جميعًا مرتبطون ببعضنا ارتباطًا وثيقًا للغاية".
جدير بالذكر أن الفضل يعود إلى العالم سفانتي بابو، مؤسس معهد ماكس بلانك، وفريقه العلمي في تطوير تقنية حديثة، أتاحت لهم أولًا تسلسل الحمض النووي للميتوكوندريا (الغشاء الذي يغلف الخلية) في الإنسان البدائي، ثم لاحقًا تسلسل الجينوم الكامل له. ويُعدُّ هذا بمنزلة ميلاد عصر جديد في الفهم الجزيئي للتطوُّر البشري.
فقد أنتج المسحُ الشامل لسلاسل الجينومات المحفوظة في رواسب الكهوف القديمة خرائطَ رقمية عالميَّة عالية الدِقَّة والمصداقية، ترصد نشوء المُستوطنات البشرية الأولى، وتتتبَّع مسار الهجرات عبر قارات العالم. يقول المُحرر الأول في الدورية العلمية "ساينتيفيك أمريكان"، غاري ستيكس: "قدَّم الحمض النووي صورة أوضح للهجرات القديمة، وهو ما أفضى إلى تتبُّع الطريق الذي سلكه البشر من إفريقيا إلى الأمريكتين على مدار عشرات الآلاف من السنين على الخريطة. وأُعيدت صياغة علامات الطريق بعلامات جينية أبجدية رقميَّة أُخِذت من عيِّنات الحمض النووي لكثير من الأشخاص الذين عاشوا على طول مسارات الهجرة".
وكانت دراسة حديثة، نُشرت خلاصتها على قاعدة بيانات (bioRxiv)، في 20 فبراير 2024م، قد توصَّلت إلى "أن مُعظم التنوُّع الجيني لدى الهنود ينبع من هجرة رئيسة واحدة من إفريقيا، حدثت قبل نحو 50,000 عام، مع إسهام ضئيل من موجات الهجرة السابقة". وبحسب الخبيرة في عِلم الوراثة السُكَّانية بجامعة كاليفورنيا، والمُشرفة على الدراسة، إليزا كيردونكوف، فقد أمكن الوصول إلى هذه النتائج بعد "تحليل 2.762 جينومًا عالي التغطية".
"تويغستاتس".. وأسرار الهجرة عبر أوروبا
كشف معهد فرانسيس كريك البريطاني في يناير من العام الحالي 2025م، اعتمادًا على تقنية "تويغستاتس"، وهي طريقة جديدة لتحليل البيانات المُتشابهة وراثيًّا بدِقَّة أكبر، عن نتائج الأبحاث التي أجراها على أكثر من 1,500 جينوم قديم. وأفضت إلى تفاصيل غير مسبوقة عن موجات الهجرة البشرية عبر القارة العجوز، وربط الأدِلَّة الجينية بالروايات التاريخية للحركات الجرمانية والرومانية والفايكنج. إذ كانت هذه الروايات دائمًا موضع جدلٍ حادٍّ حول طبيعتها ونطاقها، بل حتى مساراتها. ويقول في هذا السياق، المؤلف الأول في معهد كريك، ليو سبيدل: "أصبح لدينا بالفعل أدواتٍ إحصائية موثوقة لمقارنة الجينات... وأتاحت لنا تقنية تويغستاتس رؤية ما لم نتمكن من رؤيته سابقًا للهجرات عبر أوروبا، التي انطلقت من شمالها في العصر الحديدي، ثم عادت إلى الدول الإسكندنافية قبل عصر الفايكنج".
“
الأبحاث المُتقدِّمة في تسلسل الجينوم القديم تكشف اليوم عن أدلَّة وتفسيرات أوضح لفرضيَّات كانت مثار جدل كبير حول هويَّة لغات المُهاجرين القُدامى ومنشئها وتطوُّرها
تقنية التسلسل و"فرضية السهوب"
بالتزامن مع تدافع الهجرات البشرية عبر القارات، انتشرت وتطوَّرت اللغات. وتكشَّفت جوانب مهمة نتيجة التقدُّم الكبير الذي طرأ على تقنية التسلسل الجيني، وتعزَّز ذلك مع انطلاق مشروع "جينبانك"، وهو قاعدة بيانات جينية ضخمة، أودَع فيها علماء الأحياء من جميع أنحاء العالم بياناتهم الجينومية. وقد أحدث هذا المشروع نقلة نوعية من خلال الكم الهائل من بيانات التسلسل الجيني الذي أتاحته. وكذلك مشروع "ليكسيبنك"، وهو مستودع عالمي يضم أكبر مجموعة بيانات معجمية موحَّدة على الإطلاق، لأكثر من 2,000 لغة.
لقد بدأت الأبحاث المُتقدِّمة في تسلسل الجينوم القديم تكشف عن أدلَّة وتفسيرات أوضح لفرضيَّات كانت مثار جدل كبير حول هويَّة لغات المُهاجرين القُدامى ومَنشئها وتطوُّرها. ومن الأمثلة على ذلك، لُغز "فرضية السهوب" التي يعود تاريخها إلى قرن من الزمن. هذه الفرضية كانت تُشير إلى السهوب الأوراسية بوصفها مهد اللُغات الهندو أوروبية، إلا أنها لم تُقدِّم أدلة قوية على ذلك. وأخيرًا، فُكَّت طلاسم هذه الفرضية. فقد توصَّل العُلماء، من خلال تحليل الحمض النووي القديم، إلى الأصل الجغرافي للشعوب الهندو أوروبية البدائية، والأناضولية البدائية. وتمكنوا من وصف هجراتهم المُبكِّرة من مناطق القوقاز السفلى والفولغا الشمالية والبونتيك في روسيا وأوكرانيا الحاليتين، وحددوا اللغات التي حملتها هذه الثقافات معها.
ومن أهم الأبحاث التي أسهمت في هذا الانجاز، بحث نُشرت نتائجه في فبراير 2025م بمجلة "ناتشر"، لفريق من الباحثين في الأنثروبولوجيا التطورية بجامعة فيينا ترأسه رون بينهاسي، بالتعاون مع مُختبر ديفيد رايش للحمض النووي القديم بجامعة هارفارد. فقد حلَّل الباحثون 435 عيِّنة جينية، جُمِعت من رواسب مواقع أثرية في أنحاء أوراسيا، تعود إلى الفترة ما بين عامي 6400 و2000 قبل الميلاد. وتوصَّلوا إلى أن أسلاف شعب يامنايا، وهم صيادو براري وجامعو ثمار استوطنوا مراعي السهوب الأوراسية الممتدة من نهر الفولغا السفلي إلى سفوح جبال القوقاز الشمالية، هم أصل اللغات الهندو أوروبية. وقد لخّص ذلك عالم الأحياء التطوُّرية البشرية في هارفارد، وأحد المشاركين في البحث، لازاريديس، بقوله: "إنها المرَّة الأولى التي نحصل فيها على صورة جينية توحِّد جميع اللغات الهندو أوروبية". هذه اللغات، التي يتجاوز عددها 400 لغة، ويتحدث بها اليوم نحو نصف سكان العالم، تشمل الإنجليزية والهندية، ومجموعات رئيسة مثل الجرمانية والسلافية والسلتية.
لقد كان اكتشافُ مهد هذه اللغات هو "الحلقة المفقودة في القِصَّة الهندو أوروبية"، كما يقول رون بينهاسي. ووُصِف ذلك في الدوائر العلميَّة بأنه "انتصار تعاوني لعقود من العمل الذي أنجزه علماء اللغويات والآثار والوراثة". وأصبح من المؤكَّد أن شعب يامنايا كان له التأثير الأكبر على الجينوم البشري الأوروبي، مُقارنة بأي حدث ديموغرافي آخر خلال خمسة آلاف سنة ماضية. وأن أنشطتهم المُمتدة عبر السهوب، كان لها الفضل في نشر اللغات الهندو أوروبية.
“
تطوُّر عِلم استدلال الأنساب الجغرافية وتقنياته، وتبسيطها، بات يتيح للفرد مشاهدة شجرة العائلة، وتتبع هجرات أسلافه حول العالم مثل فِلم سينمائي
آفاق فهم الزمن القديم
لقد أفصح عِلم الجينوم عن كثير من أسرار الهجرات وخفاياها في الزمن القديم، وفتَح آفاقًا جديدة حول التطوُّر ونشوء المستوطنات الأولى، وتاريخ اللغات البشرية؛ بعضها يُعزِّز جهود المؤرِّخين، وبعضها يُعيد كتابة الفرضيَّات، بل أحيانًا يدحضها بالكامل.
إن الحقائق التاريخية صارت تتكشف أكثر فأكثر مع التقدُّم في أساليب التعامل مع سلاسل الجينومات القديمة، بدعم كبير من علم الأحياء الحاسوبي، إضافة إلى ظهور تقنيات تسلسل أقل تكلفة، وأسرع إنجازًا كما يقول عالم الأحياء المُشارك في تسلسل أول مُسودة للجينوم البشري، ج. كريج فينتر: "أدى التقدُّم التكنولوجي الإضافي إلى انخفاض كبير في التكلفة والوقت اللازمين لتسلسل جينوم فردي. المسودة الأولى للجينوم البشري استغرق إنجازها 9 أشهر، وكلَّفت 100 مليون دولار لإكمالها، واليوم يُمكن تسلسل الجينوم البشري بأقل من 1000 دولار، في وقت يستغرق بضع ساعات فقط".

من أعماق الكهوف القديمة، يستعيد العلم جينومات الأزمنة السحيقة، فيما يواصل المستقبل فتح أبوابه لاكتشافات جديدة تعمّّق فهمنا أ لأصل الإنسان وتطوّّره.
إلى جانب ذلك، تقلَّص حجم التقنيات كثيرًا. فبينما كانت تقنية التسلسل المُستخدمة في عام 2001م، تحتل مُستودعًا كاملًا، أصبح بالإمكان اليوم حمل أصغر أجهزة التسلسل في راحة اليد، وهو ما سهَّل إنجاز عمليات شديدة التعقيد لتسلسل ملايين الجينومات وتفسيرها. وآخر ما كُشِف عنه، تقنية "غايا" (Gaia)، التي طوَّرها فريق بحثي بجامعة ميشيغان، وهي تعتمد على خوارزميات استدلال الأنساب الجغرافية لعرض شجرة العائلة مثل فِلم سينمائي، حيث يُمكن "تتبُّع أماكن انتقال أسلافك حول العالم على مرِّ الزمن".
وما زال المُستقبل المنظور يحمل في جُعبته مزيدًا من مفاتيح التقدُّم التي تخدم أبحاث الجينوم البشري، وتستدعي من رواسب الكهوف العتيقة جينومات الزمن القديم.