في عصر يتميز بالتقدم التكنولوجي السريع والتحديث المستمر، يتلاشى بهدوء الكثير من النسيج الحسي الذي كان يشكل التجربة الإنسانية على مدى العصور. ومما لا شك فيه أن من بين أكثر هذه العناصر الحسية ضعفًا، الأصوات التي كانت تملأ حياتنا اليومية وتربطنا بالبيئات والثقافات والتواريخ التي بدأت تندثر وتغيب عن الذاكرة. من هنا، قرر الفنان الصوتي البريطاني ستيوارت فوكس، إدراكًا منه للحاجة إلى حماية التراث السمعي المهدَّد بالانقراض، أن ينظر إلى الوراء مصغيًا إلى همسات الماضي وملتقطًا أصداءه المتلاشية. فأطلق مشروعه المبتكر "الأصوات المنقرضة" في المملكة المتحدة، الهادف إلى توثيق الأصوات النادرة والمختفية، بُغيَة إحيائها من جديد قبل أن تضيع من ذاكرة البشرية.
لطالما كان فوكس مفتونًا بالنسيج الصوتي للحياة اليومية وتغيره عبر الزمن، لا سيما أنه لاحظ أن "قبل الثورة الصناعية، كان المشهد الصوتي المحيط بالمجتمعات البشرية مستقرًّا نسبيًّا لقرون، وتهيمن عليه أصوات طبيعية ويدوية، مثل الأجراس، وحوافر الخيول، وأدوات الحِرَف اليدوية. لكن وتيرة التغير التكنولوجي والاجتماعي في العقود الأخيرة تسارعت بوتيرة كبيرة، لدرجة أن أصواتًا كانت قد ظهرت قبل سنوات قليلة فقط، مثل نغمات رنين الهواتف المحمولة، تبدو الآن قديمة الطراز".
لذلك أطلق مشروعه الذي يركز على التقاط الطبيعة الزائلة للصوت في العصر الحديث، عبر تسجيل الأصوات التي تقع "على حافة النسيان" ثم أرشفتها؛ وتحديدًا تلك التجارب السمعية التي بدأت تغيب عن الذاكرة لكنها تحمل صدى عاطفيًّا عميقًا. وقد حُفظت هذه التسجيلات في المكتبة البريطانية لضمان إمكانية الوصول إليها للأجيال القادمة.
تُعدُّ مجموعة "الأصوات المنقرضة" الأكبر من نوعها عالميًّا، إذ تضم أكثر من 150 تسجيلًا لأصوات لم تعُد جزءًا من حياتنا اليومية، تتراوح بين الأجهزة التكنولوجية القديمة، مثل مشغلات أشرطة الكاسيت بأنواعها المختلفة كالمشغل المحمول "ووكمان"، وأجهزة ألعاب الفيديو القديمة، وأصوات المعدات العسكرية من الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك آلات فك الشفرات وصفارات الإنذار للغارات الجوية، وأجهزة المكاتب القديمة، كالآلات الكاتبة والطابعات، وأصوات وسائل النقل، مثل القطارات البخارية وسيارات السباق الكلاسيكية ومترو أنفاق لندن. بالإضافة إلى أصوات الأجهزة المنزلية القديمة، مثل الخلّاطات اليدوية والمراوح وماكينات الحلاقة، فضلًا عن الأصوات الطبيعية والصناعية التي هي في طريقها إلى الانقراض، كذوبان الأنهار الجليدية وفنون الغناء التقليدية.
وهناك ميزة خاصة لهذا المشروع، تتمثل بتعاون فوكس مع أكثر من 150 موسيقيًّا وفنانًا صوتيًّا حول العالم، بهدف إعادة مزج هذه التسجيلات وتخيلها من جديد، ليحوّلوا الأصوات المؤرشفة إلى مؤلفات موسيقية تنبض بالذكريات والمشاعر. هذا النهج الإبداعي الذي يربط بين الحفظ والتعبير الفني المعاصر، يجعل هذه الأصوات في متناول جمهور أوسع وأكثر تفاعلًا.
باختصار، تتجاوز أهمية مشروع "الأصوات المنقرضة" مجرد الحنين إلى الماضي، لا سيما أنه يقدم شكلًا فريدًا من التوثيق الثقافي الذي يكمل السجلات التاريخية التقليدية. وذلك لأن الأصوات تحمل طبقات من المعلومات الاجتماعية والعاطفية والثقافية التي غالبًا ما تغيب عن الأرشيفات المكتوبة أو البصرية. فمن خلال الحفاظ على هذه المقطوعات السمعية، يمكن للمشروع أن يوفّر فهمًا أعمق لكيفية تجربة المجتمعات وتشكيلها لبيئاتها، كما يحفّز الوعي بسرعة التغيير في بيئاتنا الصوتية وأهمية الاستماع الواعي في عالم يهيمن عليه الضجيج الرقمي العابر.
وأخيرًا لا بد من التأكيد على أهمية إدراك أن الأصوات المهدَّدة بالاندثار في عالمنا العربي، بكل ما يحمله من تنوع ثقافي ولهجات وتقاليد غنية، تشكل جزءًا أصيلًا من هويتنا وتراثنا الثقافي. فهناك أصوات الأسواق القديمة، وأهازيج الفلاحين، وأصوات الحرفيين، بالإضافة إلى أصوات الطبيعة في الصحراء والواحات، التي تمثل جميعها ذاكرة حية تعكس تاريخ الشعوب العربية وحياتها اليومية. من هنا، يمكننا أن نستمد الإلهام من هذا المشروع؛ لنشجّع توثيق هذه الأصوات وحمايتها، حفاظًا على التنوع الثقافي واللغوي في منطقتنا، ولتمكين المجتمعات العربية من الاحتفاء بجذورها وتعزيز الحوار الثقافي بين الأجيال، إضافة إلى إنعاش تراثها، وترسيخ حضورها في المشهد الثقافي العالمي.