Hero image

ماك - وندو

أحمد عبداللطيف

أكتوبر 30, 2025

10 دقائق

شارك

يعود الكاتب التشيلي ألبيرتو فوييت في روايته الجديدة "صِبيان" إلى زمن شبابه في ثمانينيات القرن الماضي. وكان للرواية بطلان شابّان هما "كليمنتي فابريس" و"توماس مِنا"، وكلاهما شخصية أسطورية تمثل ثقافة البوب البديل في منتصف الثمانينيات، ومن خلالهما يرسم المؤلف خريطة استكشافية للحراك الثقافي والفني في مدينة سانتياغو دي تشيلي.
من الصفحات الأولى يظهر العمل بوصفه رواية نوستالجية وغرامية، لكنها محمَّلة بالاستياء وبشيء من الكراهية، وهما صفتان تميّزان كتابات المؤلف المولود في 1963م، وكأنه بذلك يصفي حساباته مع تلك الحقبة الزمنية.

تحكي الرواية عن ثمانينيات القرن الماضي، حينما كانت تشيلي لا تزال تحت حكم بينوشيه. وكان ثمة شاب اسمه "توماس مِنا" يستمع لأغنية (When you look at boys) لفرقة لوتس إتيرز، التي تلامس معاناته مع سلطة بينوشيه بسبب ميوله الشخصية، كما أنه مطوّقٌ بشعور رفضه لعائلته المؤيدة للدكتاتور بينوشيه. ولذا، ومع أنه كان متفوقًا في الدراسة قرّر تركها، لأنه أراد أن يكون حاضرًا في لحظة التغيير السياسي في بلاده. وبدأ كل ذلك عند استماعه لإذاعة تنقل خبر حظر التجوال، وهي الإذاعة ذاتها التي كانت تبث الأغاني الدافعة إلى التمرُّد.

أمَّا "كليمنتي فابريس"، فهو مطربُ بوب صدرت له ألبومات، وهو ابن منفيَّين اختياريًّا في إنجلترا. وكان "كليمنتي"، ذو الاثنين وعشرين عامًا، يعيش وحيدًا في فيلا في بلدٍ يشعر أنه ليس بلده، ما يدفعه إلى التفكير في الرحيل بعد انتهائه من دراسة الصحافة في تشيلي؛ إذ رفضه زملاؤه اليساريون، ولم يغفروا له إسبانيته المُطعَّمة بالإنجليزية، ولا أناقته، ولا قراءته لكُتَّاب يابانيين بدلًا من مؤلفات غاليانو.

 يمثّل "فابريس" دور البطل المخلِّص، وتمثل موسيقى البوب، المنتشرة في كل مكان، وسيلته للتمرد. وتمنحه ثقافته البريطانية قوة تسمح له بالانتشار. أمَّا هيئته الغامضة ومعطفه الأسود، فصورة نموذجية للموجة الجديدة. في المقابل، يفتقد توماس "للستايل" مثل غيره، لكنه "بطل خارق" في مجال آخر؛ فهو يمتلك قوة استشعار الخطر عن بُعد، وهو ما يدفعه إلى الهرب في الوقت المناسب.​
إذًا، نحن أمام بطلين متمرّدين، لا يُدافعان عن شيء إلا الحرية بمعناها المطلق، ويشعر كلٌّ منهما في سياقه أنه مقيّد اليدين لأسباب مجهولة، حتى لو كانت أسبابًا لها مبرراتها عند السلطة.

 الخطاب الأيديولوجي

 لم يكُن مؤلف الرواية، فوييت، مسيّسًا، إلا أنه لم يجد بُدًّا من التورط في السؤال الكبير، لكنه لم يتناوله باعتباره سؤالًا مركزيًّا. فالمركزي هو الفن والفرد، لكن إن احتاج ذلك إلى سياق سياسي، فهو يرسم صورة بانورامية عنه من دون التورُّط في خطاب أيديولوجي. سؤال فوييت هنا يركز على الموسيقى وحراك الثمانينيات وبدايات التمرد الشبابي.

يسير "فابريس" و"توماس" في خطَّين متوازيين مثل قضيبَي قطارٍ لهما الوجهة نفسها. تتطلع الشخصيات الفرعية والقارئ إلى لقائهما، لكن العقبات والقيود تمنع ذلك.

يعمل النص بحيوية ليعرّي عالمَ بطلَي الرواية بسردٍ ممتع حتى صفحته الأخيرة. وتحضر الخلفية السياسية والاجتماعية بصورة لافتة وجريئة؛ بدايةً من عام 1986م، الذي صارت فيه موسيقى البوب سلاحًا للمقاومة قادرة على جذب الشباب؛ فعبر الموسيقى ونشاطها في الشارع، ترتسم خريطة مطاردات المتمردين والمختلفين على أيدي زملائهم في المدرسة والجامعة. بالإضافة إلى شعور هؤلاء المطارَدين بالتجاهل داخل بيوتهم؛ ففي بيت "توماس" أبٌ يزدريه وأمٌّ تقوم بكل الأدوار، وفي بيت "فابريس" أمٌ تعتني بنفسها وتعيش حياتها كما يروق لها.

يتفرّد سرد فوييت بسرعة البرق، لا يتوقف القارئ أبدًا إلا للبحث في سبوتيفاي عن أغنية دالة، أو فيديو على يوتيوب، أو عن اسم وَرَد ذكره ليتأكد من وجوده الحقيقي، أو ليضع خطًّا تحت عبارة جميلة ولافتة. ثمَّة ذاكرة قوية، مُضافة إلى الإبداع والصفاء الذهني، تجعل نصّه ثريًّا ورائقًا وحيويًّا.
"الصبيان"، في النهاية، هي ذاكرة لزمن ولّى لا يتمنى التشيليون عودته، وفي الوقت نفسه، هي تمجيد للفن وقدرته على صنع الأثر، وتحية لموسيقى البوب، ولطابعها الشعبي والشبابي تحديدًا.

شقَّ تيار ماك - وندو طريقه بصعوبة، في وقت استقرّت فيه الواقعية السحرية بوصفها وجهًا مُعتمدًا عالميًّا لصورة الأدب في أمريكا اللاتينية

مؤسس تيار ماك - وندو الجديد

يُعدُّ ألبيرتو فوييت مؤسس تيار ماك - وندو، الذي يضم عددًا من كُتّاب أمريكا اللاتينية، مثل سيرخيو غوميز، وإدوموندو باث سولدان، وغيرهم. وقد شقَّ هذا التيار طريقه بصعوبة في وقت استقرت فيه الواقعية السحرية بوصفها وجهًا مُعتمَدًا عالميًّا لصورة الأدب الأمريكي اللاتيني.

 كانت الواقعية السحرية هي التيار المعبِّر عن عمق الثقافة الشعبية في أمريكا اللاتينية؛ إذ اتكأت على الميتافيزيقا لتفسير ظواهر العالم، وآمنت بالغيبيات بوصفها حقيقة مطلقة، واحترمت عقائد الناس البسيطة وخرافاتهم، واستخرجت الفن من كلمات البسطاء، ونبذت مبادئ الحداثة وادعاءاتها. كل هذه الملامح وجدت تمثيلها الأبرز في قرية "ماكوندو" الخيالية في رواية غابرييل غارسيا ماركيز "مائة عام من العزلة"، وبسُلالة "خوسيه أركاديو بوينديا" الممتدة لأجيال.
أما تيار ماك - وندو، الذي ظهر في تسعينيات القرن الماضي، هو التيار المناقض لكل هذه الأفكار، والمتمرد على جيل الآباء والرافض أن يكون أحدهم امتدادًا لكاتب آخر ولزمن مختلف. وفي اختيار اسم "ماك - وندو" للتيار الجديد قصة تُروى.

التيار الأدبي الجديد يعتني بالتفاصيل اليومية، ويُعلي من قيمة الفرد، ويتناول الهموم الصغرى، ويتلافى الفولكلور والأساطير

مواقف دور النشر الأمريكية والأوروبية 


كانت سوق النشر في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي أكبر سوق للكتب المكتوبة بالإسبانية وأكثرها حرفية، قد اعتادت الواقعية السحرية لماركيز، وكارلوس فوينتس، وأليخاندرو كاربنتيير، والواقعية المدينية لفارغاس يوسا، ومن بعدهم تبنّت عالم روبرتو بولانيو المغامر والمراهق، وريكاردو بيغليا صاحب المزج بين عوالم البوب والأدب الرفيع. وحقَّقت كتب هؤلاء مبيعات طائلة بعد الحماس الكبير لترجمتها، حماسٌ ليس منبعه جمالية هذه الأعمال فحسب، بل أيضًا لأنها تكشف المجتمع والثقافة الشعبية، وتنتقد الديكتاتورية والنظم الشمولية. كل هذه التفاصيل تُشعر المواطن الأمريكي الشمالي بتفوقه من ناحية، ونجاح رأسماليته وتفتَح عينيه على ثقافة بدائية من ناحية أخرى.

وليس المقصود هنا التقليل من عظمة أدب أمريكا اللاتينية، لأنه، إضافةً إلى كشفه للمجتمع، قد حقَّق عناصر جمالية استطاعت أن تهزَّ الأدب الأوروبي وتضع أمامه مسارًا آخر للأدب، بل المقصود أن تُكشف صورة القارئ الأمريكي السطحي أو الفضولي أو المحب للمتعة والتسلية، وهي عوامل ذات أثرٍ بعيد وعميق في سوق الكتب.

غابرييل غارسيا ماركيز.

ومع بداية التسعينيات لم تعُد العناصر السحرية جاذبة للكُتَّاب الشباب في أمريكا الجنوبية، ولم تعُد قضايا الديكتاتورية الهمَّ الشاغل. فقد أدى سقوط الاتحاد السوفييتي إلى إضعاف الشيوعية في أمريكا اللاتينية، وغدت صورةُ الرئيس الشيوعي سيئةَ السمعة، واتسعت رقعة المدينة والهجرة إليها بالتوازي مع دخول التكنولوجيا وأثرها في حياة الناس. كل هذا السياق السوسيو - ثقافي أدى إلى إنتاج أدبٍ مختلف، يعتني بالتفاصيل اليومية، ويُعلي من قيمة الفرد، ويتناول الهموم الصغرى. ولم يكُن من ضمن اهتماماته الفولكلور أو الطبقات القروية، بل المدينة بكل ما فيها من زحام وقسوة واضطراب عقود العمل وتحلّل العلاقات الإنسانية من الالتزام.

هذا الإنتاج الأدبي لم يجد سوقًا في الولايات المتحدة الأمريكية؛ فلم تهتم به دُور النشر ولا المترجمون، ولم يصل من ثَمَّ إلى المكتبات ولا القرَّاء.

ولأن من مصلحة الناشر الأمريكي استمرار تدفّق إنتاج أدبي من القارة الجنوبية، اقترح البعض على كُتّاب هذه القارة التوقف عن كتاباتهم الجديدة والعودة إلى استلهام التراث الشعبي اللاتيني واللعب بالأسطورة والغرابة التي تُثير شهية القارئ الأمريكي الشمالي.
وقد توازت أزمة الأدب الأمريكي اللاتيني في الولايات المتحدة مع أزمته في أوروبا؛ إذ رأى الناشرون الأوروبيون أن هذه الأعمال ليست "أمريكية لاتينية" بما يكفي؛ أي إنها لا تعبّر عن الثقافة الشعبية أو الفولكلور، وبذلك لا تستحق دخول السوق الأدبية في العالم الأول.

ماريو فارغاس يوسا.

ولادة التيار الجديد


 أمام هذه الشروط المجحفة، أطلق التشيلي، ألبيرتو فوييت، اسم "ماك - وندو" على جيله من كُتّاب التسعينيات. والمصطلح هو تركيب من اسم قرية "ماكوندو" الماركيزية، وكلمة "ماكدونالدز" الأمريكية. فهو اسم يحمل سخرية كبيرة من الناشرين الغربيين.

تدور أعمال جيل ماك – وندو في أماكن واقعية، أغلبها ضواحٍ فقيرة لمدن كبرى تنتشر فيها الجريمة، وتعتمد في اقتصادها على التجارة، وتتمتع بحريات اجتماعية واسعة، من دون الاهتمام بالجانب الغرائبي. 
لقد وُلِد أدباء هذا التيار بين عامي 1959م، عام الثورة الكوبية، و1962م، عام وصول التلفزيون إلى تشيلي وتنظيم كأس العالم في هذا البلد. كثير منهم تلقّوا تعليمًا دوليًّا، أو وُلِدوا وعاشوا لفترة في بلد أجنبي. وقد ظهرت محاولاتهم الأولى المتفرقة في الثمانينيات، وهو ما منحهم أفقًا أوسع من دائرة بلدهم، أو جعلهم يلتفتون إليه بطريقة مختلفة. ومع أنهم ينتمون لظاهرة أمريكية لاتينية، فقد انضم كُتّاب من إسبانيا إلى هذا التيار. ويُعَدُّ العنف واحدًا من عناصرهم الأثيرة، لكنه ليس العنف الناتج عن الديكتاتورية، بل الجريمة العادية أو تجارة المخدرات.

ومن اللافت أيضًا عدم التزام كُتّاب هذا التيار سياسيًّا أو انخراطهم في حزب، على عكس جيل الواقعية السحرية. ولعلَّ الانطباع العام أنهم لا يؤمنون بأي أيديولوجيا، ويتجنبون أي توجه، ويشككون في صدقية أي خطاب مُسيَّس. وبرغم النقد الذي تلقوه بسبب تخليهم عن العناصر التي صنعت صورة الأدب الأمريكي اللاتيني عالميًّا، فقد اعترف كاتبٌ مثل كارلوس فوينتس بجمال أدبهم، وعدَّه تعبيرًا عن الواقع الجديد. وهو بالفعل كذلك.