
يستخدم الفنانون الألوان لإثارة المشاعر، ويلجأ إليها الكتّاب لاستحضار الأحاسيس وإثراء رواياتهم بطبقات من التفسيرات والتعقيدات المثيرة. وبالطريقة نفسها، صار اللون وسيلة متزايدة لوصف الاقتصاد. ومن هنا، ظهر مصطلح "الاقتصاد البنفسجي"، وهو فرع حديث من فروع علم الاقتصاد يركّز على إضفاء الطابع الإنساني على العولمة والاقتصاد، وذلك باستخدام الثقافة أداةً لدعم أبعاد التنمية المستدامة. هذا الاقتصاد يعزّز المسؤولية الاجتماعية ويركّز على القيمة الثقافية للسلع والخدمات. فمن أين أتت هذه التسمية؟ وما دلالاتها؟
بات من الشائع "تلوين" الاقتصادات المختلفة لتسهيل الحديث عن قطاعات اقتصادية محددة دون غيرها. فالاقتصاد الأخضر يُولي أهمية للاستدامة وتحسين نوعية الحياة، والاقتصاد الأزرق يُعنى بإدارة الموارد البحرية والمياه العذبة والحفاظ على النظم البيئية، والاقتصاد الذهبي يُحفّز الابتكار والتقنية الرقمية، والاقتصاد الأبيض يدعم نظام الرعاية الصحية والاجتماعية لضمان رفاهية المجتمع. وهناك أيضًا الاقتصاد الأصفر الذي يفتح آفاق التنمية المستدامة في المناطق الصحراوية عبر الطاقة الشمسية والسياحة، والاقتصاد الأسود يشير إلى الاقتصاد الخفي المتعلق بالتهريب والجرائم. أما الإضافة الأخيرة إلى هذه القائمة فهي "الاقتصاد البنفسجي".
ظهر مصطلح الاقتصاد البنفسجي للمرة الأولى عام 2011م خلال منتدًى دولي للاقتصاد عُقد في فرنسا برعاية اليونسكو والبرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية. وأسهم هذا المنتدى في تعزيز مصطلح الاقتصاد البنفسجي وعدّه داعمًا للتنمية المستدامة؛ إذ إنه يهدف إلى تقنين الاستهلاك من خلال الجمع بين الثقافة والاقتصاد لتحقيق توازن متكامل بين الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وبحسب تعريف المنتدى، فالاقتصاد البنفسجي "أوسع بكثير من اقتصاد المنتجات الثقافية؛ إذ يحتضن البعد الثقافي لأي سلعة أو خدمة، أي إنه جزء من منظور أخلاقي يسهم في إثراء البيئة الثقافية وتنويعها تنويعًا مستدامًا ومتوازنًا". أما سبب تسميته بالبنفسجي، فيعود إلى مزيج رمزي بين لونين: الأحمر الذي يرمز إلى الإبداع، والأزرق الذي يشير إلى التقنية. وبذلك يجمع هذا المزيج بين الخيال والابتكار والثقافة.
“
الاقتصاد البنفسجي نموذج متكامل يجمع بين الثقافة، والابتكار، والمسؤولية الاجتماعية والاقتصادية، لخلق مستقبل مستدام ومزدهر
أهمية الثقافة في الاقتصاد البنفسجي
في الاقتصاد البنفسجي، لا تُعدُّ الثقافة ترفًا، بل أساسًا لأي قرار اقتصادي؛ إذ تسهم في دفع الاقتصاد نحو النمو والتطور، وذلك من خلال ما تملكه ثقافة المجتمعات من مكوّنات فاعلة ومؤثرة. فعلى سبيل المثال، لو ناقشنا ثقافة الاستهلاك لوجدنا أنها تؤدي دورًا فاعلًا في تحقيق مصالح الاقتصاد؛ حيث يسهم ترشيد الاستهلاك في دعم الاقتصاد من خلال تحقيق توازن بين العرض والطلب، لا سيَّما عند مواجهة تحديات مثل نقص الموارد أو انخفاض الإنتاج. في المقابل، قد يتحول الاستهلاك المُفرط والإسراف إلى عامل سلبي يؤثر في الاقتصاد؛ لأنه يؤدي إلى استنزاف الموارد ويعطّل مفاهيم التنمية المستدامة. لذا، فإن الوعي الثقافي بأهمية الاستهلاك المدروس والادخار يُعدُّ من الضروريات لدعم استدامة الاقتصاد وحماية الموارد المتاحة.
إضافةً إلى ذلك، فإن الثقافة التي تعكس القيم والأخلاق تُعدُّ عنصرًا فاعلًا في تنمية النشاط الاقتصادي وتطويره. فالالتزام بالقيم والأخلاق والأمانة عند ممارسة التجارة والصناعة والزراعة والخدمات يسهم في زيادة الثقة بالاقتصاد وجذب المستثمرين نحو تحقيق أهدافهم الاستثمارية. وعلى مستوى الشركات والمؤسسات، يتجلى هذا الالتزام في تبنّي المسؤولية الاجتماعية، التي تُمثّل تعبيرًا عن واجبٍ أخلاقي تجاه المجتمع. تدرك الشركات أن نجاحها واستمراريتها مرتبطان ارتباطًا وثيقًا برفاهية المجتمع الذي تعمل فيه، ومن ثَمَّ تسعى إلى تنفيذ مشاريع تسهم في خدمة المجتمع، وهو ما يعزّز ولاء العملاء ويقوّي حضورها في المنافسة السوقية بنحوٍ مستدام.
ولو أخذنا الموارد المائية مثالًا، فإن نقص الموارد المائية يُعدُّ من أكبر التحديات في أي مجتمع. وهنا تؤدي ثقافة الترشيد دورها الفاعل في توجيه المجتمع للحفاظ على هذه الموارد الثمينة. وفي هذا الإطار، يعمل الاقتصاد البنفسجي على تعزيز الجهود الاستثمارية في المشاريع المائية لزيادة إنتاج المياه الصالحة للاستخدام، مثل مياه الشرب. وتُعَدُّ تجربة المملكة العربية السعودية في تحلية مياه البحر من أبرز النماذج الرائدة، فقد تمكّنت من توفير المياه لمدن رئيسة عديدة عبر محطات متطورة تستخدم تقنيات حديثة للطاقة الشمسية والتناضح العكسي. كما أسهمت المملكة في دعم البحث العلمي والدراسات المتعلقة بالمياه بهدف اكتشاف مصادر جديدة وتحقيق الأمن المائي المستدام، وهو ما يعكس مدى إمكانية الاقتصاد البنفسجي في الجمع بين الثقافة، والاستثمار، والاستدامة في مواجهة أزمة المياه.
ومن جانب آخر، لو أخذنا ثقافة الابتكار والاختراع مثالًا ثالثًا، لوجدنا أن دعم هذه الثقافة يتطلب توفير التمويل اللازم لتلبية احتياجات الأبحاث العلمية والصناعية في المجالات المختلفة. فمن غير الممكن أن يكون هناك نمو حقيقي للصناعات أو زيادة في الاختراعات من دون توفير الميزانية التي تموّل تلك الاختراعات وتجعلها قابلة للتطبيق.
ولبيان أهمية العنصر الثقافي وتكامله مع النمو الاقتصادي، نشير إلى ثقافة الانضباط والدقة في اليابان وكيف أسهمت في بناء صناعات قوية ومنافِسة عالميًّا مثل السيارات والإلكترونيات. وفي الدول الغنية، تشكّل ثقافة الاستهلاك والرفاهية جزءًا من الحياة اليومية نتيجةً لقوة الاقتصاد. كما أن التطور التقني ونُظم المعلومات قد غيّر أنماط الحياة والعادات الاجتماعية، مثل العمل عن بُعد، وأوجد التسوّق الإلكتروني. في حين تؤدي العولمة إلى دخول ثقافات جديدة تؤثر في القيم والعادات المحلية.

تجسّّد فعاليات "بوليفارد وورلد" في الرياض ملامح اقتصادٍٍ جديدٍٍ تقوده الثقافة، حيث يلتقي الترفيه والسياحة والإبداع في فضاءٍٍ واحد يعيد تعريف التنمية بأسلوبٍٍ عصري.
أهداف الاقتصاد البنفسجي
يسعى الاقتصاد البنفسجي إلى تحقيق مجموعة واسعة من الأهداف الثقافية والاقتصادية المتشابكة، التي تعتمد على إدراك القيمة الجوهرية للبُعد الثقافي في دفع عجلة التنمية المستدامة والنجاح المؤسسي. على المستوى الثقافي، يركّز الاقتصاد البنفسجي على تنمية السياحة الثقافية عبر استثمار التراث الثقافي والفني الغني، مثل تحويل المواقع التاريخية والمتاحف إلى وجهات جاذبة للسياحة. كما تعزّز الفعاليات الثقافية الكبرى، مثل المهرجانات الموسيقية والأدبية والحرفية، الشعورَ بالانتماء وتفتح قنوات جديدة للتفاعل الاجتماعي والاقتصادي.
ويربط الاقتصاد البنفسجي الثقافة بالتنمية الاجتماعية والبيئية من خلال تشجيع الابتكار والإبداع لتطوير حلول مبتكرة للتحديات المعاصرة، مثل تعزيز الفنون التعبيرية بوصفها وسيلة لدعم الصحة النفسية. ويُولي اهتمامًا خاصًّا للاستثمار في التعليم والتدريب على المهارات الإبداعية والرقمية، ولا سيَّما في مجالات مثل: الفنون، والتصميم، والتكنولوجيا، وهو ما يهيّئ جيلًا جديدًا من المبدعين المستعدين للمنافسة عالميًّا.
من جهة أخرى، يعزّز الاقتصاد البنفسجي المسؤولية الاجتماعية عبر تحفيز الشركات والمؤسسات على المشاركة الفعّالة في إقامة المشاريع الاجتماعية والبيئية وتطويرها، الهادفة إلى تحسين جودة الحياة ودعم المجتمعات المحلية.
وعلى المستوى الاقتصادي العام، يهدف الاقتصاد البنفسجي إلى تنويع مصادر الدخل الوطنية بتركيز خاص على القطاعات الإبداعية، مثل: السينما، والألعاب الإلكترونية، والتصميم، والفنون الرقمية. كما يسهم في مواجهة الأزمات الاقتصادية عبر تعزيز الابتكار، وتشجيع تمويل المشاريع الريادية التي تدمج بين الثقافة والتكنولوجيا. بهذا، يصبح الاقتصاد البنفسجي نموذجًا متكاملًا يجمع بين الثقافة، والابتكار، والمسؤولية الاجتماعية والاقتصادية، لخلق مستقبل مستدام ومزدهر.

في المتحف الوطني السعودي، تتحوّّل الذاكرة إلى استثمارٍٍ معرفي، وتُُعيد الثقافة صياغة العلاقة بين الماضي والمستقبل ضمن رؤيةٍٍ تجعل الإبداع أساسًًا للازدهار الاقتصادي.
فرص الاقتصاد البنفسجي المحلية
تُعدُّ الاستفادة من الجانب الثقافي جزءًا أساسًا من رؤية المملكة 2030 التي تستهدف التوسّع في تنمية قطاع السياحة. وهناك عدد كبير من الفرص الاقتصادية محليًّا التي يمكن استثمارها من خلال توظيف العوامل الثقافية التي تمتاز بها البيئة الاقتصادية في المملكة. فعلى سبيل المثال، تحتل الثقافة الدينية مكانةً محورية وتؤدي دورًا أساسًا في دعم الاقتصاد، ولا سيَّما في مناسك الحج والعمرة التي يشارك فيها المسلمون من مختلف دول العالم.
كما تمثّل مبادرات مثل "مواسم الترفيه" نقطة تحوُّلٍ حقيقية في تعزيز السياحة الثقافية والفنيّة، وهو ما يسهم في تحويل الثقافة إلى رافعة اقتصادية قويّة ومتجددة. فمواسم الترفيه هي سلسلة من الفعّاليات المتنوعة والمبتكرة التي تغطي مختلف أشكال الفنون، من الموسيقى والمسرح إلى الفنون البصرية والورش الحِرَفية، وتجذب أعدادًا كبيرة من الزوّار المحليين والسيّاح الدوليين. وتسهم هذه المواسم في تسليط الضوء على التراث الثقافي السعودي وتقديمه بشكل معاصر، وهو ما يعزّز الولاء الوطني ويفتح آفاقًا جديدة للفنانين والمُبدعين المحليين ويخلق فرص عمل مستدامة.
إضافةً إلى ذلك، هناك فرصٌ متعددة لفتح المزيد من المشاريع لتسريع الاستثمار في مجالات عديدة لم يتطرق إليها الاقتصاد السعودي بعد، وهي مجالات ترتبط بالثقافة المحلية، مثل العناية بالمواقع السياحية التاريخية التي تربط الإنسان بالمكان وتتيح له الاستفادة من تلك المشاهد الثقافية.
في المحصلة، يمكننا القول إن الاقتصاد البنفسجي هو دعوة لإعادة تعريف ما يعنيه النجاح الاقتصادي، فهو يتجاوز الربح المادي إلى العناية بالروح والتراث والهوية، مستندًا إلى أن الاقتصاد لا يمكن أن يكون منفصلًا عن ثقافة الشعوب وتاريخها. وفي عصر العولمة، حيث تشكّل التحديات البيئية والاجتماعية أزمات حقيقية، يأتي الاقتصاد البنفسجي ليجعل من الثقافة جسرًا بين الماضي والمستقبل، ومن الإبداع وقودًا لتحقيق تنمية مستدامة متوازنة.