Hero image

كيف غيّر الحكم العربي المطبخ الصقلي؟

ديسمبر 8, 2025

شارك

نُشرت هذه المقالة بالشراكة مع AramcoWorld

الكاتب جاك زاهورا. تصوير تارا تودراس-وايتهيل.

 

لا تزال أساليب الزراعة والمحاصيل والأطباق التي جاء بها العرب إلى صقلية باقية حتى اليوم. ليس ذلك وحسب، وإنما تجذّرت أيضًا في أطعمة تلاقي رواجًا شعبيًّا وصارت جزءًا من المطبخ الصقلي.

يشير سالفو نيكولوسي بيده نحو طريق ترابي يمتد لبضع كيلومترات من بساتين البرتقال وحقول الحبوب القديمة في كالاني سرل التي كانت يومًا مزرعة أرستقراطية في راماكا، مسقط رأسه في صقلية، وهي الآن واحدة من أكبر المزارع في الجزيرة.

يقول نيكولوسي: "التربة ملأى ببقايا طوبٍ أحمر وسيراميكٍ ملونة يعود تاريخها، على الأرجح، إلى ما قبل القرن التاسع الميلادي".
يجوب نيكولوسي -الذي كان عُمدة راماكا- الأرض حاملًا معه في صندوق سيارته عدة كتب كتبها بنفسه عن تاريخ صقلية. ويقول: "تروي هذه البقايا قصةً حول الإمبراطوريات والممالك العُظمى التي حكمت هذه المنطقة، وضمّت في بداياتها الرومان والوندال والقوط الشرقيين والبيزنطيين".

 

استخدم ماركو فراسون، مالك مزرعة كالاني سرل، البذور المستوردة من سوريا ودول عربية أخرى لزراعة الحبوب وصُنع المعكرونة.

مزارعون يقطفون البرتقال في مزرعة كالاني سرل. وكان للعرب السبق في جلب أساليب الريّ التي أسهمت في نمو بساتين البرتقال في صقلية.

بدا لأولئك الذين لم يسبق لهم زراعة هذه البذور أن هذا الاكتشاف عظيم، وكأنهم تعرّفوا على تُحفة لا تنتمي إلا إلى المتاحف. غير أننا لا ينبغي أن نشيح النظر عن رمزية البرتقال، لأنه، كما يؤكد مؤرّخون، يفتح صفحة أخرى من فصل جديد في تاريخ الجزيرة الذي يعود إلى عام 827م.

يضيف الأستاذ المشارك في علم اللهجات العربية بجامعة نابولي، لوكا دانا، أن الأسطول البحري لصقلية كان في ذلك الوقت تحت قيادة إيفيميوس، الثائر ضد الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثاني.
وقد استدعى إيفيميوس جيوشًا من إفريقية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، المعروفة اليوم بتونس، ليساعدوه في تمرده. وتمكَّنت هذه القوات من هزيمة البيزنطيين في النهاية، وآل ذلك إلى تهميش إيفيميوس، ليخرج من صُلبها أول ثلاث سلالات عربية تحكم الجزيرة حتى عام 1091م.

ما جرى خلال هذين القرنين ونصف كفيلٌ بأن يعيد رسم مشهد الزراعة وفن الطهي في الجزيرة. ورغم ضياع بعض الملامح عبر الزمن، لا يسعنا إغفال تأثُّر الجزيرة بأساليب الزراعة والمحاصيل والأطباق التي جاء بها العرب إلى صقلية، التي تجذّرت أيضًا في أطعمة تلاقي رواجًا شعبيًّا وتُعد جزءًا رئيسًا من المطبخ الصقلي.

 

بصمة العرب في الزراعة

يقول دانا: "عامل الرومان والبيزنطيون صقلية كصومعة حبوب، لأن القمح لا يتطلب كميات وفيرة من الماء، لا سيّما في مناخ قد يصبح شبه قاحل خلال الصيف". ويردف أنّ حكام صقلية الجدد أدركوا كيفية التغلب على هذه التحديات بطريقة أفضل، فأنشأوا في وديان أبرد نسبيًّا شبكة من القنوات المائية الجوفية، وحدائق مشتركة للفواكه والخضراوات، ومساكن تعتمد على هندسة معمارية مقاوِمة للحرارة، وأساليب ريّ تُعيد توجيه المياه عبر قنوات صغيرة، مما هيّأ بيئة خصبة لنمو بساتين برتقال مماثلة لتلك التي يتجول بها نيكولوسي بعد حوالي 1200 عام.

أوقف نيكولوسي سيارته مشيرًا إلى نبات الخرشوف الشوكي، وكان يتحدّث عن أمير عربي أضاف حبيبات الفلفل إلى جبن الغنم في صقلية: "كان العرب يستخدمون حليب هذا النبات لصنع الجبن، لأن أنفحة الخنزير التي تُستخدم اليوم في صناعة بعض أنواع الجبن محرمة على المسلمين".

 

يقول المزارع فرانشيسكو سكوديري عن منطقة راماكا الخصبة في صقلية: "منذ القدم، كانت زراعة الخرشوف محور النشاط الزراعي في هذه المنطقة".

يشير اللغويون إلى أن الكلمة الصقلية "كاكوتشيولي"، مشتقة من الكلمة العربية "خرشوف".

بعد ذلك، توجَّه نيكولوسي بالسيارة إلى مزرعة خرشوف مجاورة، ورحّب بالمزارع فرانشيسكو سكوديري. قطف نيكولوسي ثمرة خرشوف وأزال بسكّين جيب القشرة الخارجية الليفية عن ساق الخرشوف، كاشفًا أجمل ما فيه؛ القلب الداخليّ الشهي لنبات الخرشوف، المتميّز بطراوته ومذاقه الحلو. يقول سكوديري: "إننا في إحدى أكثر مناطق إيطاليا خصوبةً، ومنذ القدم، كانت زراعة الخرشوف محور النشاط الزراعي في هذه المنطقة".

وقد تمكّن علماء الإثنوبيولوجيا من ربط الحمض النووي لبعض أنواع الخرشوف في صقلية بتلك المزروعة في شمال إفريقيا، ويشير اللغويون إلى أن الكلمة الصقلية لهذا النبات، "كاكوتشيولي"، مشتقة من الكلمة العربية "خرشوف".
غير أنه وفي ظل غياب وثائق مكتوبة تثبت أن ذلك من الفتح العربي والقرون التي تلته، يقول المؤلف الحائز على جائزة جيمس بيرد عن عدة كتبٍ له عن تاريخ الطعام الإيطالي -وكتب أيضًا مدخلات فن الطهي لموسوعة جامعة كولومبيا للشرق الأوسط الحديث- الأستاذ كليفورد رايت: "إن محاولة تتبُّع أنماط الهجرة المباشرة لهذه الأطعمة من خلال جذور فن الطهي شبهُ مستحيل". كما ينفي الزعم القائل إن "كل ما هو عربي في صقلية كافٍ لجعله ينتمي إلى المطبخ العربي الصقلي"، موضّحًا أن الصقليين، عبر موروثهم الشعبي، قد يتقبَّلون نسبة طعامٍ ما إلى جذورٍ عربية، أكثر من تقبِّل الأبحاث الأكاديمية الخاضعة لمراجعة النظراء لذلك. ويشير رايت أيضًا إلى أن الصقليين في جدلٍ دائم حتى اليوم حول المبادئ الأساسية لمطبخهم.

أب وابنه يتقاسمان قطعة من الكانولي المعروضة في باليرمو، وهي نوع من المعجنات التقليدية المحشوة بجبنة الريكوتا، ويعود أصلها إلى شمال إفريقيا.

صانعو الجبن يمزجون الريكوتا الطازجة في مهرجان "النكهات والمعرفة" (Festa dei Sapori e dei Saperi) في فيزيني.

هل هذا الطبق الصقلي عربيّ الأصل؟

يستيقظ دي ستيفانو في الصباح الباكر لغلي أرزِّ كارنارولي قصير الحبة، ثم يخلط الزعفران والزبدة وجبن إيدام المبشور، وهو جبنٌ هولندي معتدل القساوة، ثم يُشكل بيده حفنات من هذا الخليط اللزج على شكل أقماع، ثم يحشو الأرزَّ بصلصة الراجو، أو صلصة اللحم الإيطالية الشهيرة. وبعد ذلك يُطهى اللحم المفروم في صلصة طماطم بضع ساعات مع زيت الزيتون والجزر والكرفس والبصل، بالإضافة إلى بعض البازلاء الخضراء لإضافة عمقٍ في النكهة، ثم تُغمس كرات الأرانتشيني في عجينة من الدقيق والماء، وتُقلب في فتات الخبز ثم تُقلى.

في كل عطلة نهاية أسبوع، يُحضّر دي ستيفانو ما يصل إلى 500 أرانتشيني في مطعمه للمأكولات الجاهزة على طراز "تافولا كالدو"، حيث يستمتع روّاد المطعم بتشكيلة من المقبّلات الساخنة والباردة. وفي كل سبتمبر، يُقدّم ما يصل إلى 20 ألفًا من هذه المخاريط المقلية خلال مهرجان "ساجرا دي أرانتشيني" الذي يُعقد على مدى أربعة أيام في بلدة فيكاراتزي، وهو مهرجان ساهم دي ستيفانو في إطلاقه قبل ربع قرن.

 

يحتفي مهرجان "النكهات والمعرفة" (Festa dei Sapori e dei Saperi) في بلدة فيزيني بكل ما يتعلق بجبنة الريكوتا.

وهنا يطرح رايت سؤالًا يعرف إجابته تمامًا "إذًا، ما علاقة العرب بهذا الطبق؟" ثم يُردف: "حسنًا، هناك سببان، الأول: استخدام الأرز؛ إذ يُعتقد أن العرب جلبوه إلى صقلية. والثاني: موجود في كتاب الطبخ العربي من القرن الثالث عشر المعروف باسم "كتاب الطبيخ". يقول رايت إن هذا الكتاب الذي ألّفه محمد بن حسن البغدادي يتضمن وصفة تُسمى "نارنجية". صحيح أنها لا تُصنع من الأرز، إلا أنها عبارة عن كرة مقلية من اللحم تبدو كالبرتقالة، ويُستخدم فيها الزعفران والبيض لإضفاء اللون الأصفر الشهي". ويشير إلى أن كلمة أرانتشيني مشتقة من كلمة نارنج، والتي تعني بالعربية "البرتقال المُر".

الكانولي معجنات شهيرة تباع بكثرة في باليرمو.

يرى رايت أن هذا ليس دليلًا دامغًا على أن حُكَّام صقلية العرب هم من ابتكروا الأرانتشيني التي يقدمها دي ستيفانو، مشيرًا إلى أن صلصة الراجو في الطبق يُحتمل أن تكون مقتبسة عن صلصة الراجو الفرنسية؛ إذ حكمت فرنسا الجزيرة لفترة وجيزة في القرن الثالث عشر. لكنه يقول إنه لا يمكن إغفال أن 264 عامًا من الحكم العربي تركت أثرًا لا يُمحى في المطبخ الصقلي.

فمثلاً، فكرة القلي هي تقنية طبخ جلبها العرب خلال الفتوحات. غابرييل بروغليو

الحفاظ على الأطعمة الصقلية

بيد أن هناك دليلًا آخر على التأثير العربي في الأرانتشيني، إذ يقول الأستاذ المشارك في التاريخ المعاصر بجامعة علوم الذوّاقة في بولينزو، غابرييل بروغليو: "فكرة القلي هي تقنية طهي تميّز بها العرب واستُقدمت خلال الفتح العربي". يضم قسم بروغليو فريقًا من علماء الإثنوبيولوجيا وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الذين يدرسون، من ضمن ما يدرسونه، أنماطَ هجرة الطعام. ويقول بروغليو إن جزءًا من استخدام العرب لأسلوب القلي كان لحفظ الطعام لفترات أطول، لا سيّما وأنهم كانوا خلال غزواتهم بحاجة إلى إطعام الجنود في الرحلات الطويلة.

كرات الأرز تُحشى وتُغطى بفتات الخبز ثم تُقلى. ويُقال إن أصل الأرانتشيني يعود إلى صقلية في القرن العاشر الميلادي، عندما كانت الجزيرة تحت الحكم العربي.

ألفيو دي ستيفانو يحضّر طبق الأرانتشيني في مطعمه في بلدة فيكارازي بالقرب من كاتانيا في صقلية.

ويضيف بروغليو أنه، وعلى بعد ساعة بالسيارة من مطعم دي ستيفانو في بلدة فيزيني التي تحتفل في شهر أبريل بمهرجان "النكهات والمعرفة" (Festa dei Sapori e dei Saperi)، توجد أساليب طهي أخرى تُستخدم أيضًا لحفظ الطعام لفترات أطول.

تمر مواكب موسيقيين شعبيين يعزفون على الأكورديون، ويَعتَلون عربات ملوّنة تجرّها الخيول أمام المُزارع فيتو باربوزا البالغ من العمر 59 عامًا وهو يسخّن الحليب في برميل على موقد الغاز، ويقول: "أولًا، سأضيف مَنفحة الأغنام إلى الحليب الدافئ، وهي ستفصل الحليب إلى روائب في الجزء العلوي، وإلى مصل في الجزء السفلي".

 

بائع جبن يبيع الريكوتا وأجبان أخرى خلال مهرجان "النكهات والمعرفة" (Festa dei Sapori e dei Saperi)، ويُزيل الروائب ويُصفّيها لبضع ساعات، محوِّلًا إياها إلى جبن طري يُسمى "توما". وفي هذه الأثناء، يُعيد تسخين المصل، فتتكتّل البروتينات المتبقية فيه لإنتاج جبنة الريكوتا (وتعني: المُعاد طهيها). وتمثّل هذه الجبنة مكوِّنًا شهيرًا يُستخدم في عددٍ لا يُحصى من الأطباق المالحة والحلوة في المهرجان، بما في ذلك كعكة الكاساتا المُزيَّنة باللوز والفواكه المُسَكَّرة، ومجموعة متنوعة من الكانولي، وكاساتيل البرتقال والليمون – وجميعها متأثرة بتاريخ صقلية العربي من حيث الوصفات والأساليب.

تقع بلدة راماكا بين تلال شرقي وسط صقلية ووديانها. ويشترك الخرشوف -الذي يُزرع ويُحتفى به في هذه المنطقة الخصبة من إيطاليا- في حمضه النووي مع أصناف الخرشوف المزروعة في شمال أفريقيا، وهو من بين الأطعمة الصقلية ذات الأصول العربية.

ثمة طوابير طويلة من السكان المحليين تنتظر بفارغ الصبر تجربة منتجات باربوزا الذي يُحضَّر من مئات الكيلوغرامات من جبن الريكوتا خلال المهرجان. يلتهم لوسيو ناسكا الطبق بشراهة، تاركًا إياه يسيل على ذقنه وصدره. ويقول بابتسامة وديّة تغمرها الريكوتا: "فيتزيني تُحضّر هذه الريكوتا منذ قرون، وأعترف أنني لا أستطيع مقاومة تناولها بهذه الطريقة منذ صغري".

ويضيف بروغليو: الريكوتا ليست جبنًا بتمام معنى الكلمة، لكنها تُنتَج بطريقة صنع الأجبان عبر تخثيرها بالحمض التي روَّج لها الأمازيغ أو البربر في صقلية، وهي تشبه الجبن الطري الموجود في المغرب. ومع ذلك، يُشير بروغليو إلى أن "الريكوتا" المصنوعة في إفريقية في القرن التاسع الميلادي كانت أكثر حمضية، موضِّحًا أن الناس مع الهجرة تميل أذواقهم في الأطعمة إلى الاعتدال، لتندمج بنحوٍ أفضل مع المجتمعات التي يستقرّون فيها – كما هو الحال مع المطبخ الهندي أو المكسيكي الذي يميل إلى أن يكون أقل حرارة في الولايات المتحدة.

يشير بروغليو أيضًا إلى أن الهجرة لا يقل أثرها عن الاستعمار في المطبخ الصقلي: "لا يمكننا حصر انتشار الطعام العربي في فتح صقلية بين القرنين التاسع والحادي عشر"، مضيفًا: "فالوثائق تُظهر حضور الكسكس -وهو طبق رئيس في المطبخ الصقلي تاريخيًّا وإلى يومنا هذا- في المائدة الصقلية قبل الحكم العربي بكثير".

وإن دل ذلك، فيدل على عمق الروابط بين صقلية وشمال إفريقيا الممتدة إلى يومنا هذا، ويتجلّى أثرها في البرتقال والخرشوف والريكوتا، التي أضحت جزءًا لا يتجزّأ من المائدة الصقليّة في يومنا الحاضر.

 

 

 


الكاتب جاك زاهورا: صحفي حائز على جوائز، وقد نشرت أعماله في العديد من المنصات الإعلامية الكبرى، بما في ذلك الإذاعة الوطنية العامة وقناة الجزيرة الإنجليزية. وهو أيضًا كبير مسؤولي المحتوى والشريك الإداري في وكالة (TW Storytelling)، وهي شركة إعلامية مقرها مدينة لشبونة، البرتغال.

تصوير تارا تودراس-وايتهيل: مصورة صحفية حائزة على عدة جوائز، والرئيسة التنفيذية لوكالة (TW Storytelling) التي تتخذ من لشبونة مقرًا لها، وهي شغوفة بتمكين المنظمات غير الحكومية، والفرق المؤثرة اجتماعيًّا.