
يتطلّع معظم العلماء وكتَّاب الخيال إلى الفضاء بحثًا عن كواكب صالحة للحياة في حال لم تعُد ممكنةً على الأرض. لكن بين ظهرانيهم بديل أقرب إلى التحقُّق: مدن تحت الماء في البحار والمحيطات. في الواقع، يعيش الآن بعض الناس بالفعل على جزرٍ اصطناعية، مثل تلك المُشيّدة قبالة سواحل دبي، كما يعيش آخرون على متن يخوت ومنازل سكنية راسية. وإذا ما طوّرنا هذا النمط من الحياة، يُمكن تخيّل مُجتمعٍ من المباني والحدائق والساحات العائمة، الممتدة إلى أعماق البحار، والمُرتبط بعضها ببعضٍ لتشكّل مدينة بحرية، في مفهومٍ يُعرف باسم "الاستيطان البحري".
بدأت فكرة بناء هذه المُجتمعات العائمة من منظمة غير ربحية تُدعى "معهد الاستيطان البحري" في أواخر عام 2008م. ويعتمد تصميمها على الاستقلال التام عن اليابسة، إذ توفر لسكانها كل ما يحتاجون إليه من مساكن خاصة ومساحات عامة إلى مراكز أعمال ومناطق تجارية، كما جاء في مجلة (The Seasteading Institute) في 4 سبتمبر 2025م.
واعتمدت هذه المنظمة في اقتراحها على إمكانية تحقيق عوامل متعددة، ومنها: إنتاج مياه شربٍ عذبة عن طريق تحلية المياه، واستزراع المأكولات البحرية داخل أحواض مُغطّاة بالمياه المالحة، وتطبيق الزراعة الكهربائية الناشئة التي تفصل الزراعة عن البيئة وأشعة الشمس لتنمو النباتات في أماكن مظلمة تحت المياه، وتحويل النفايات العضوية إلى سماد، وإنتاج الكهرباء من طاقة الشمس ومن الرياح والأمواج وحركتي المد والجزر.
أيمكن التعامل مع ضغط المياه؟
العيش على سطح المحيط ليس سوى البداية. فلكي يصبح البشر كائنات بحرية حقيقية، عليهم اعتياد الاستقرار الدائم في أعماقه. وتوجد اليوم بالفعل بعض الموائل الصغيرة تحت الماء على شكل قواعد بحثية وفنادق فاخرة. ويمكن القول إنه بفضل هذه المساعي المتواضعة، بدأت البشرية تخطو خطواتها الأولى على طريق الاستيطان في المحيطات.
يتخيَّل بعض أصحاب الرؤى في هذا المجال الشكلَ الذي قد تتخذه هذه المستوطنة في المستقبل، مثل المهندس المعماري البلجيكي فينسان كالبو، الذي اقترح بناء "ناطحات محيطية" يُطلق عليها اسم "أيكووريا" (Aequorea)، كما جاء على موقعه عام 2015م. فمن مدخلها على السطح سيمتد برج حلزوني، مطبوع بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، ويبلغ عمقه 1,000 متر إلى قاع المحيط.
والبرج سيُصمَّم هندسيًّا لتحمّل التيارات القوية، وستزداد سماكة جدرانه تدريجيًّا كلما زاد العمق، لمراعاة ضغط المياه. أمَّا الهيكل فسيُبنى بالكامل من البلاستيك المُعاد تدويره والمُستخلَص من رقعة القمامة الكبرى في المحيط الهادئ، ثمَّ سيُمزج بالطحالب لإنتاج "البلاستيدات الطحالبية" (Algoplasts)، وذلك في محاكاة حيوية لقنديل البحر الذي تتحمَّل أجسامُه الهُلامية المرنة الضغط. ووفقًا لمجلة (Science)، في عددها الصادر في 27 يونيو 2024م، فإن قنديل البحر يستطيع تحمل ضغط "400 بار" وهو ضغط هائل للغاية؛ في حين أن الضغط على عمق 1,000 متر هو أقل من ذلك بكثير.
"أيكووريا" هي تجربة فكرية شائقة تُظهر كيف يُمكن التغلب على بعض تحديات بناء هياكل سكنية كبيرة في الماء من خلال التخطيط الذكي وخيارات التصميم والتقنيات الجديدة المبتكرة. وباتباع هذه المبادئ، يُمكن للمرء تخيل كيف ستبدو مدينة مبنية تحت الماء.
الانطلاق من "جامعات" تحت الماء
كما هو الحال على اليابسة، ليست كل أراضي المحيطات صالحة للبناء. فنظرًا لأن معظم قاع البحر مغطى بالرواسب، فإن أي مبنى تحت الماء يجب أن يُبنى، إمَّا على ركائز متينة تُدفع عبر الرواسب إلى القشرة المحيطية، وإمَّا على القشرة نفسها المُنظِّفة من الرواسب، وهو أمر قد يكون صعبًا؛ لأن متوسط سُمك الرواسب المحيطية، وفقًا لموسوعة "بريتانيكا"، يبلغ 450 مترًا.
تُمثل المناطق النشطة جيولوجيًّا عقارات رئيسة في المحيط؛ إذ يُمكن استغلال فتحات الطاقة الحرارية الأرضية للحصول على الطاقة. ووفقًا لمتحف التاريخ الطبيعي البريطاني، تُمثّل هذه الأماكن أيضًا أهمية علمية كبيرة نظرًا لتنوعها جيولوجيًّا وبيولوجيًّا. وقد يكون هذا هو المكان الذي قد تنبت فيه أولى الجامعات تحت الماء، ربَّما بدءًا من قواعد بحثية صغيرة تتضمن علاجات "طفيفة التدخل"، ثم تنمو إلى مدن جامعية تحت الماء.
السلامة ومتطلباتها الكثيرة
لمَّا كان الضغط العالي يُجهِد جسم الإنسان ويستغرق تخفيفه وقتًا طويلًا، يجب الحفاظ على موائل المدن تحت الماء عند ضغوط مختلفة: معظمها عند ضغط جوي واحد لحياة مريحة، والبعض الآخر عند ضغط الهواء الخارجي نفسه لموظفي الصيانة وحرَّاس المدينة وأي عمال خارجيين آخرين للعيش فيها في أثناء العمل. وإضافة إلى ذلك، يجب أيضًا بناء مساكن انتقالية؛ إذ قد يستغرق تخفيف الضغط أيامًا عديدة بحسب العمق.
وكما هو الحال مع السفن الحديثة، يجب تقسيم أي مبنًى مستقبلي تحت الماء، سواء أكان مجمعًا سكنيًّا أم مدرسة أم مستشفى أم دار بلدية، بوصفه إجراءً احترازيًّا ضد الفيضانات. ويجب أن تكون الأبواب بين الأقسام مانعة لتسرُّب الماء، ومزودة بأجهزة استشعار بحيث لا تُفتح إلا في حال عدم وجود أي علامات على حدوث فيضان. ويجب توفير عبوات أكسجين وأقنعة للطوارئ في معظم الأقسام. ومن الحكمة أن يكون كل مبنى تحت الماء مزوّدًا بغرف طوارئ وحجرات نجاة.
ويجب تطوير أنظمة إحكام آلية لضمان استجابة سريعة للطوارئ في حالة حدوث خرق في هيكل البناء. ومثلما تُفتح الوسائد الهوائية في السيارات تلقائيًّا، فمن الضروري أن تكون أنظمة الإغلاق آلية أيضًا؛ لأن الاستجابة البشرية، ببساطة، ليست سريعة بما يكفي.
وتتواصل المباني فيما بينها من خلال شبكة من أنابيب الممرات، وستكون هذه الأنابيب بمنزلة شوارع فعلية للمدينة، مزوَّدة بآلات بيع وأكشاك طعام، بحيث يمكن للمشاة شراء احتياجاتهم في طريقهم إلى العمل.
ضرورة التكنولوجيا الذكية
التكنولوجيا الذكية ضرورية للمستوطنة تحت الماء؛ إذ يحتاج سكان المحيطات إلى مراقبة الظروف الخارجية، وتتبُّع أي أجسام متحركة يُحتمل أن تكون خطِرة، مثل الحطام العائم، وحطام السفن الغارقة، أو حتى الحيتان الضَّالة. ولمواجهة أي تهديد محتمل، سيحتاجون إلى مركبات سريعة الحركة وقابلة للنشر، وربَّما مركبات تعمل عن بُعد أو ذاتية القيادة تمامًا.
بوجهٍ عام، يُمكن تنفيذ أي عمل خارجي مثل الصيانة، بأمان أكبر، باستخدام روبوتات مُصمّمة لأداء مهام متخصصة، من أجهزة تنظيف محار البرنقيل الذي يلتصق بالأشياء تحت الماء، إلى غسَّالات النوافذ، وصولًا إلى روبوتات الإصلاح. ومع التطورات المستقبلية في التكنولوجيا الحيوية، يُمكن إجراء الصيانة طويلة الأمد لواجهات المباني باستخدام المرجان المُعدَّل وراثيًّا. فيُزرع هذا المرجان على المباني، ومع نموه، سيُشكّل في النهاية غلافًا خارجيًّا قويًّا ذاتي الصيانة يحمي المبنى من المخاطر والتآكل.
تبدو فكرة استيطان البحار والمحيطات وأعماقها منطقيّةً تمامًا، بوصفها طموحًا بشريًّا قادمًا، في ضوء ظاهرة الاحتباس الحراري التصحُّر وغرق المدن حول العالم، وما ينتج عن ذلك من تناقص كميات المياه العذبة وندرة الأراضي الزراعية.