
منذ العصور الوسطى وحتى منتصف القرن العشرين، شهدت الهند نشاطًا ملحوظًا في استيراد الخيل العربية الأصيلة، لما ترمز إليه من قوة وهيبة إلى جانب استخدامها وسيلةً للنقل وأداةً للحرب، ويعود الفضل في ذلك إلى الدور البارز للتجار العرب في نقل هذه السلالة النبيلة إلى الهند، وتأسيسهم إسطبلاتٍ ضخمة في مدن مثل مومباي وبنغالورو، ومحافظتهم على تقاليد الفروسية التي لا تزال حيّة حتى اليوم. ولكن هذه العلاقة لم تقتصر على التجارة فقط، بل امتدَّت إلى مجالات رياضية وثقافية عديدة حاضرة إلى يومنا هذا.

حصان مهراجا رام سينغ الثالث، (1857 - 1865م).
العلاقات التجارية بين الهند والعالم العربي متجذّرة في أعماق التاريخ، ولم تكُن هذه العلاقات مقتصرة على تبادل السلع التقليدية فحسب، بل كان للخيل العربية دورٌ محوريٌّ في صياغة الروابط الإستراتيجية والعسكرية بين الجانبين. فقد عُدّت الخيل العربية من أثمن صادرات الجزيرة العربية إلى الهند، لما تتميّز به من قوة وسرعة وخصائص حربية جعلتها في منزلة أحدث الأسلحة في عصرها، وكان امتلاكها يمنح الملوك والقادة ميزة حاسمة في ميادين القتال.
فقد اعتمد الملوك الهنود في العصور الوسطى على التجار العرب لتوريد الخيل، ما أدى إلى تمدّد هؤلاء التجار في مختلف أنحاء الهند، حتى بلغوا مناطق بعيدة مثل شيتاغونغ في البنغال. كما أن الاهتمام بالخيل لم يكُن مقتصرًا على الشراء فقط، بل وصل إلى حد أن بعض المهراجات أوصوا أبناءهم باحترام تجّار الخيل وأن يتولّوا العناية بالخيل العربية بأنفسهم، وعدم تفويض المهمة لغيرهم.
أدى ذلك إلى أن تكون بعض الموانئ، مثل بهاتكل في جنوب الهند، مراكز رئيسةً لاستقبال الخيل القادمة من البحر الأحمر والخليج العربي، حتى جاء البرتغاليون وسيطروا على مدينة جوا في الساحل الجنوبي الغربي للهند عام 1510م، فحوّلوا مركز تجارة الخيل إليها، واحتكروا هذه التجارة الحيوية. ولاحقًا، أصبحت ولاية غوجرات، بموانئها الشهيرة مثل كامباي وسورات، مركزًا رئيسًا لاستيراد الخيل العربية بين أواخر القرن السادس عشر ومنتصف القرن الثامن عشر.
وفيما كانت أثمان الخيل الآتية من مناطق مثل كوتش وراجستان وبلوشستان وأفغانستان وتركمانستان تتراوح بين 400 و500 روبية، كانت الخيل العربية تباع بثلاثة أو أربعة أضعاف هذا السعر، ما يعكس قيمتها الاستثنائية. واستمرّت هذه التجارة في الازدهار حتى القرن العشرين، خصوصًا خلال فترة الاستعمار البريطاني، ودخلت الخيل العربية شتى مجالات الحياة الهندية، من الرياضة والصيد إلى الدفاع والأمن.
“
اعتمد الملوك الهنود في العصور الوسطى على التجار العرب لتوريد الخيل، ما أدى إلى تمدد هؤلاء التجار في مختلف أنحاء الهند.
إسطبلات الخيل العربية
ترسَّخ حضور التجار العرب خلال فترة الحكم البريطاني في الهند، وأقام التجّار العرب إسطبلات للخيل في مدن رئيسة مثل مومباي وكولكاتا. في مومباي، كانت الإسطبلات تقع في مناطق مثل شارع مهاباليشوار وحي بهندي بازار. وفي كولكاتا كانت موجودة في حي دهارامتالا. وتميّزت هذه الإسطبلات بسعتها الكبيرة التي كانت تستوعب ما بين 1,000 إلى 1,500 حصان، إلى جانب نظافتها وتنظيمها العالي. وفي عام 1893م، كانت مومباي تضم خمسة إسطبلات رئيسة، منها إسطبل عمر جمال الذي كان الأكبر، ويستوعب ما بين 600 و1,200 حصان، بالإضافة إلى إسطبلات عيسى خليفة، وأحمد محمد مشاري، وعلي بن عامر، وعبد الرزاق بن القرطاس.

تمثال للمَهاراجا رَاوْ جُودَها على صهوة حصان. نُصب في العام 2012م، لإحياء ذكرى تأسيس مدينة جودفور الشهيرة بسلالة من الخيل تنحدر من السلالة العربية.
من الخليج العربي إلى موانئ مومباي
كانت رحلة الخيل العربية من الخليج إلى الهند قائمة من خلال شبكة تجار وموانئ تروي قصة تجارة مهيمنة، فكانت معظم الخيل العربية المستوردة إلى مومباي تُشحن من موانئ الكويت والبصرة عبر مراكب مخصصة لنقل الخيل تُعرف باسم "البغلة"، بالإضافة إلى السفن الإنجليزية التي كانت تنقلها إلى مرفأ مومباي.
كان المصدر الأساس لهذه الخيل هو قلب شبه الجزيرة العربية، خاصة مناطق نجد والصحراء السورية، حيث نشأت سلالة الخيل العربية الأصيلة الفريدة التي تجمع بين الجمال والقوة والقدرة على التحمل. كما كانت بعض السلالات المتميّزة بالجودة الاستثنائية تُستورَد من مناطق مثل حائل وجبل شمَّر. بعد وصولها إلى مومباي، كانت الخيل تُوزَّع على مختلف أنحاء الهند، مع تركيز خاص على وسط الهند في مدن مثل بونا، وبيدر، وميسور، ووراجستان، والمناطق المجاورة. كما كانت الخيل العربية تُنقل من مومباي إلى كولكاتا، وأحيانًا كانت بعض الشحنات تصل مباشرة من العراق إلى كولكاتا، ثم تُوزَّع من هناك على ولايات هندية أخرى مثل بيهار وأوتار براديش.
وكان عبدالرحمن المنيع، وعيسى راشد القرطاس، والشيخ إبراهيم، وعلي عسكر "كما جاء في وثائق الأرشيف الوطني بنيودلهي وتقارير مرفأ ميناء مومباي" من كبار تجار الخيل في مومباي وكولكاتا وبنغلورو على التوالي. وقد اشتهر هؤلاء التجّار بتصدير أفضل أنواع الخيل العربية إلى الأسواق الهندية، إذ كان الملوك الهنود والمسؤولون الإنجليز يعتمدون عليهم اعتمادًا كبيرًا في اختيار أفضل الخيل وأرفعها جودة.

سباق الخيل في مضمار ماهالاكشمي، مومباي، الهند (2008م).
على مضامير السباق الهندية
حفّزت المواصفات البدنية للخيل العربية على ظهور سباقات الخيل ورياضات الفروسية، وتعاظم أهميتها في الهند. وإذا ما عدنا إلى الجذور، نجد أن تاريخ تنظيم سباقات الخيل في الهند يرجع إلى عهد الاستعمار البريطاني قبل نحو 250 سنة، إذ أُقيم أول سباق في مدينة تشيناي (مدراس آنذاك) عام 1777م. وقد شجّع البريطانيون الرياضات المرتبطة بالخيل في كولكاتا، مثل الصيد والبولو والسباقات، ما أدّى إلى زيادة الاهتمام بهذه الرياضة وتنظيمها باستمرار في مدن هندية كثيرة مثل ودربنغا، ومرزافور، وتشبارا، وساران، وبتنا، وأمبالا، وميرت، والله آباد، وسونفور، ومرزافور، ولكناو، ولا تزال هذه السلسلة مستمرّة حتى اليوم.
إذا ما استعرض الباحث صفحات تاريخ سباقات الخيل في الهند، يجد أن التجار العرب كانوا روّادًا ورعاة ومؤدين لهذه الرياضة التي اشتهرت محليًّا وعالميًّا، ما أدى إلى زيادة الطلب على الخيل العربية، خاصة في مومباي التي خصّصت ميدان "مهالاكشمي" لإقامة السباقات منذ عام 1880م وحتى اليوم، وأصبحت مركزًا رئيسًا لهذه الرياضة.
ويشار إلى أن الخيل العربية أسهمت في تهجين معظم السلالات الحديثة من الخيل الخفيفة والعادية في الهند. ونالت الخيل والمهور الهندية نصيبًا كبيرًا من الجينات العربية والفارسية، ما أثرى التراث الفروسي الهندي وأضفى عليه تميّزًا خاصًّا.
وقد استمر هذا التراث العريق إلى يومنا هذا، فقد شارك الفارس الهندي فؤاد ميرزا في أولمبياد طوكيو 2020م مع حصانه العربي، حاملًا بذلك إرث عائلته العريق في تجارة الخيل العربية وتربيتها. إذ كان جدّه علي عسكر، الذي هاجر إلى الهند عام 1824م، من أكبر تجار الخيل العربية في البلاد وأشهرهم، ولا تزال العائلة تحمل شغفًا عميقًا بالخيل وسباقاتها حتى اليوم. والجدير بالذكر أنه في فترة من الفترات، امتلك علي عسكر إسطبلًا يضم نحو 700 حصان عربي في أحد أحياء بنغالورو الذي أصبح يُعرف لاحقًا باسم "حارة العرب" أو "حارة الخيل العربية". ويُعزى إلى فؤاد ميرزا إحياء رياضة الفروسية في الهند، إذ يمتلك مزرعة واسعة تبلغ مساحتها 1.5 فدان في منطقة "مشارف" ببنغالورو، بالإضافة إلى إسطبل يتسع لاثني عشر حصانًا، أنشأه والده حسين ميزرا عام 1979م.
وما زالت سباقات الخيل تُقام سنويًّا تحت رعاية منتديات الفروسية في أبرز المدن الهندية مثل مومباي، وبنغالورو، وكولكاتا، وميسور، بمشاركة سلالات متنوّعة من الخيل المحلية والأجنبية، منها العربية، والإنجليزية، والأسترالية، والنمساوية، والبولندية، والفرنسية.

اللوحة للفنان مقبول فدا حسين.
في الفن الهندي.. رمز الشجاعة والجمال عبر العصور
أسهم التكامل بين القيمة العملية والجمالية للحصان العربي في أن يظهر بوضوح في الفنون الهندية المختلفة، بدءًا من اللوحات المصغَّرة الزاخرة بالتفاصيل الدقيقة، إلى الأفلام السينمائية التي تستحضر عصور الملوك والحروب والبطولات. وعمد الفنانون والمخرجون السينمائيون إلى استخدام الخيل العربية رمزًا للحيوية والقدرة على التفوّق، فجسّدوا في أعمالهم حركاتها الرشيقة وقوتها التي تبهر الأنظار.
يُعدُّ تصوير الخيل من المواضيع المتكرّرة والمميزة في الفنون الهندية، ولا سيما في مدارس المنمنمات، مثل المدرسة المغولية ومدرسة راجبوت، إذ برع الفنانون في تجسيد الخيل العربية بتفاصيل دقيقة تعكس جمالها المثالي، مثل تناسق الجسم، ورفع الذيل، واتساع العينين. ولم تقتصر هذه الرسومات على تمثيل الخيل بواقعية فحسب، بل شملت أيضًا صورًا منمَّقة وخيالية تنقل أفكارًا ومشاعر روحية، كالحرية والقوة والرفعة. ويظهر الحصان العربي كذلك في الزخارف والمنحوتات، وغالبًا ما يرتبط بصور النبلاء والإقطاعيين الذين كانوا يمتلكون هذه الخيل ذات النسب المرموق.
ويتباين تصوير الخيل في الفن الهندي باختلاف المناطق والأساليب، ويتنوّع بين لوحات المنمنمات المغولية في شرق الهند، ولوحات راجبوت في الوسط، والمنحوتات البرونزية في الجنوب. ومن الأمثلة البارزة على ذلك نحت الحصان على الأبواب الخشبية في بعض المناطق، دلالةً على المكانة الاجتماعية والقوة.
ولم يقتصر تمجيد الخيل على الفنون القديمة، بل أبدع العديد من الفنانين الهنود المعاصرين في رسمها بحيوية وديناميكية، منهم مقبول فدا حسين، الذي صمَّم خمسة مجسّمات زجاجية ضخمة للخيل بألوان مختلفة، ترمز إلى عناصر ومفاهيم متعددة مثل الثقة والشغف والطموح والطاقة والحكمة، ما يعكس رؤيته لتطور الحضارة وقيم الإنسانية، إلى جانب فنانين مثل ف. ن. سوزا وغانيش باين وجوجن تشودري وجاميني روي، الذين أسهموا في استحضار الخيل ضمن التراث الفني الهندي.

ملصق فِلم ”باجيراو مستاني“ (2015م).
صهيل البطولات على الشاشة الكبيرة
أما في السينما الهندية، فقد احتل الحصان العربي مكانة بارزة، وظهر في أفلام تاريخية وملحمية تستوحي أحداثها من قصص الملوك والمحاربين. إذ نراها حاضرة في مشاهد المعارك والقوة لتضيف هيبة وجمالًا بصريًّا إلى العمل السينمائي. مثال ذلك فِلم "باجيراو مستاني" (2015م)، الذي جسّد مشاهد فروسية متقنة تعكس رفعة الفارس وارتباطه بحصانه النبيل، وقد حصل الفِلم على عدة جوائز وطنية وترشيحات مهمة. كما كان للحصان العربي حضور مميز في الأغنيات السينمائية الهندية، وتكرّر ذلك في أعمال تعود إلى الخمسينيات من القرن الماضي.
فمن ميادين السباق إلى فنون الرسم والنحت والسينما، وبدلالاته على السرعة والقوة والنبل، كان الحصان العربي، وما زال، جزءًا لا يتجزّأ من الذاكرة الثقافية والبصرية للهند.
الصورة الرئيسة للموضوع تصوير: نواف الجهني.