وفقًا للتعريف المعجمي، السُلَّم هو ما يُصعَدُ عليه إِلى الأَمكنة العالية، وهذا لا شك هو المعنى الواقعي الأول له الذي يُميِّزه الروائي العراقي لؤي حمزة عباس في هذا الكتاب، ببعده الوظيفي المُعبَّر عنه هندسيًّا. لكن ثمة بعدًا آخر كان هو محور اهتمامه، ودافعًا إلى تأليفه لهذا العمل، فللسُّلَّم معنى آخر مجازي وهو كما يكتب "حاضر في كل وقت، مع الوظيفة ومن دونها". وعلى ذلك، يأتي كتابه ليكون ترجمة لتمازُج الحقيقي والمُتخيَّل عند التفكير في سلالم منشودة، لكن ليس بالمقدور ارتقاؤها، تحضر في الذهن وتغيب في الواقع، وسلالم أخرى فعلية نرتبط بها وجوديًّا وتؤثر فينا على مدار حياتنا.
يقول المؤلف: "تلتقي في كتابة السُّلَّم إشارات العالم ورموزه، وتتقاطَعُ أزمنتُه وخيالاتُه، من أجل أن تكون الكتابة في النهاية ضربًا من التنقيب عن المعنى، معنى السُّلَّم ومعنى تجاربنا معه".
ويتعامل الكتاب مع السُلَّم مثل "حدث" يتعين الاحتفاء به لدلالاته المتعددة ماديًّا، فليس ثمة حياة تخلو من سُلَّم، فهو حاضر في فضائها لا يمكن إزاحته، فإزالته تُقوِّض البنيان الذي يشمله، وهو على المستوى الذهني بمنزلة وعاء لذكريات بعيدة يجري استدعاؤها بين الحين والآخر، من جهة، وبمنزلة موضوع للتخيُّل يرتبط بفِعل الارتقاء بوصفه وسيلة مضمونة للانعتاق والتحرُّر من المخاوف والأوهام، من جهة أخرى.
وبعد مقدمة قصيرة، يأخذنا المؤلف في جولة مع السُّلَّم وحقله الدلالي من منظور ذاتي وفلسفي، يبدؤها بما يُشبِهُ القاموس الصغير لأهم مفرداته مثل الدرابزين والبسطة والكوبستة أو المقبض الذي يُوضع عادة على نهاية الدرابزين، ويُصنع من الخشب أو المعدن أو البلاستيك، وفخذ السُّلَّم والمقصود به الجزء الذي يحمل نهايات السلالم، وغيرها من المفردات. ثم يسرد علاقته الخاصة مع السُّلَّم في نصوصٍ جاءت على شكل شذرات يسهل على القارئ أن يستوعب معناها؛ لأنها تحمل قدرًا لا بأس به مما يمكن عدُّه تجارب مشتركة لاستعمالات الفرد اليومية للسُّلَّم وتصوراته عنه، وقد أجاد لؤي حمزة عباس التعبير عن ذلك حين قال إن استعمال السُّلَّم "عمل كوني". وهو يُوضّح كيف يعتري كل الأطفال، على سبيل المثال، الخوف حين يقفون أعلى السُّلَّم؛ لأنهم يخشون "خطرًا ما يعصف بهم من أسفل"، وكيف أنهم يخشون حين يقفون أسفله، "خطرًا ما يعصف بهم من أعلى"، وهكذا يستقر في الأذهان أن أشباح الليل والنهار "مُخبأة في أجواف بعضُها مرمي في أعالي السلالم وفي قيعان آبارها".
وعلى هذا المنوال من الاجترار لمعانٍ عديدة مفتوحة على التأويل، تأتي بقية نصوص الكتاب لتوثِّق ما يعتمل في الفكر حين يذكر السُّلَّم، بوصفه تجسيدًا لفكرة ما هو لا نهائي، أو عند التأمل فيما يرتبط به من مكونات وأجواء، فنقرأ عن صعوده ونزوله، عن أسفله وعن غربائه وعن أخلاقياته، وزمنه وحركته ودورانه وطيفه وملمسه، وظِله وعُزلته وموسيقاه وقوانينه وجوهره، وعن تلخيصه للحياة، وعن علاقته بالأحلام.
أخيرًا، لا يجب النظر إلى مضمون هذا العمل أنه فقط عمل نثري يتحرك ضمن إطار تأملي خالص؛ لأنه يُعَدُّ أيضًا نصًّا معلوماتيًا نوعًا ما. فقد حرص مؤلِّفه، من أجل بَسْطِ رؤاه الأساسية، على سرد حقائق تتعلق بموضوعه، ففيه حديث عن سلالم ظُفار وعَمَّان، والسلالم التي صمَّمها المعماري الفنلندي الفار آلتو، وتلك التي أنجزها المعماري الأمريكي فرانك لويد رايت، والسلالم الإسبانية التي صممها المعماري الإيطالي جوفاني باتيستا بيرانيزي في عشرينيات القرن الثامن عشر.
الَّلانهائي.. السَّلالم التي تبتكرنا
تأليف: لؤي حمزة عباس
الناشر: خطوط وظلال، 2024م