Hero image

مواد البناء وجودة الهواء داخل المنازل

د. فهيد محمد السبيعي

سبتمبر 10, 2025

4 دقائق

شارك
في ظل أنماط الحياة الحديثة، أصبح الإنسان يقضي الجزء الأكبر من يومه داخل منزله أو مكان عمله، وهو ما يجعل جودة الهواء الداخلي في هذه الأماكن المغلقة من العوامل الأساسية التي تؤثر مباشرةً في صحته وراحته. وما يزيد الأمر خطورةً، أن الاهتمام العام ينصبُّ غالبًا على تلوث الهواء الخارجي. في حين تُغفَل حقيقةَ أن الهواء الداخلي، خاصة في المنازل ذات التهوية غير الكافية، قد يكون في بعض الحالات أكثر تلوثًا من الهواء خارجها. ومع التحولات السريعة التي يشهدها العالم في مجالات الهندسة المعمارية وتقنيات البناء، باتت المنازل العصرية تُبنى وفقًا لمعايير جديدة تضع في الاعتبار كفاءة الطاقة والاستدامة البيئية وجمال التصميم الداخلي. غير أن الاهتمام بجودة المواد المستخدمة في تشييد المنازل وتكسيتها، والتوثّق من مدى أمانها، ظلّا مُهملَين رغم التأثير الكبير لهذه المواد في نقاء الهواء الداخلي. وفي حين أننا نحسب منازلنا ملاذًا آمنًا، فإنها قد تحتوي أحيانًا على مصادر خفية تؤثر سلبًا في جودة الهواء، دون أن نشعر أو ننتبه لها. إن طرح هذا الموضوع للنقاش لا يُعدُّ ترفًا فكريًّا، بل ضرورة حتمية في عالم تتسارع فيه وتيرة البناء الذكي؛ إذ ينبغي أن تكون صحة الإنسان في مقدمة أولويات التصميم. 

في هذا المقال، سنسلِّط الضوء على العلاقة بين مواد البناء وجودة الهواء داخل المنازل، وكيف يمكن لهذه العلاقة أن تؤثر في صحتنا وراحتنا.

على مدى العقدين الماضيين، شهد قطاع التطوير المعماري تحوّلًا جذريًّا في الفلسفة والتوجهات التي تحكم تصميم المباني وإنشائها. لم يَعُد الهدف الأساس هو مجرد إقامة هيكل يوفر المأوى، بل باتت كفاءة الطاقة أحد أهم المفاهيم المحورية التي ترتكز عليها إستراتيجيات البناء الحديث. مع صعود هذه الرؤى الجديدة، أصبح التركيز مُنصبًّا بوضوحٍ على تحسين العزل الحراري وتقليل التهوية غير المنضبطة. وطُوِّرت نوافذ متعددة الطبقات عالية الكفاءة، واستُخدِمت أنظمة العزل الرغوي أو الألياف الصناعية لتقليل تسرب الحرارة. كما اعتُمدت أبواب ونوافذ مُحكمة الإغلاق. والهدف من كل ذلك هو خفض استهلاك الطاقة، خصوصًا في أنظمة التكييف والتدفئة، بما يُسهم في تقليل تسرُّب الهواء ويُحقق كفاءة اقتصادية. غير أن هذا التوجه نحو إحكام المباني له جانب خفي؛ فكلّما زاد الإغلاق قلّ تجدّد الهواء الطبيعي وزادت الرطوبة داخل المبنى، وأصبح الهواء الداخلي حبيسًا فتراتٍ أطول، وهنا تبرز مشكلة مواد البناء الحديثة.

تُعدُّ مواد البناء الحديثة مصدرًا رئيسًا لمجموعة متنوّعة من الملوثّات الكيميائية والفيزيائية التي تضر بجودة الهواء الداخلي في المنازل. وتُعَدُّ المركَّبات العضوية المتطايرة من أبرز هذه الملوثات، وهي مركَّبات كيميائية تتبخَّر بسهولة في درجة حرارة الغرفة وتُطلَق من الدهانات، وبخاصة الأنواع الرخيصة أو غير المصنّفة بيئيًّا. ومن اللاصقات المُستخدَمة في تركيب الأرضيات المُصنَّعة من ألواح خشبية معالجة، وأيضًا من مواد العزل الرغوي التي يدخل في تركيبها مركبات مثل الفورمالديهايد والتولوين والزيلين. فضلًا عن الجزيئات الدقيقة متناهية الصغر، التي لا تُرى بالعين المجرّدة، والتي تَنتج عن الأنشطة الإنشائية أو أعمال الصيانة داخل المنازل ذات الكساءات الداخلية والتشطيبات المتهالكة. هذه الجزيئات قادرة على اختراق الجهاز التنفسي وصولًا إلى الحويصلات الرئوية. كما أن بعض مواد البناء غير المقاومة للرطوبة، مثل الأخشاب أو الجدران الجبسية، قد تصبح بيئة خصبة لنمو العفن نتيجةً لزيادة الرطوبة، وهو ما يؤدي إلى إنتاج أجسام صغيرة يُطلقها العفن في الهواء تُسمَّى الأبواغ.  

تكمن خطورة مثل هذه المواد في ارتفاع تركيزها؛ لأن هذه الملوِّثات تتراكم مع مرور الوقت إلى مستويات عالية قد تؤثر سلبًا في الصحة العامة. إن التعرُّض المزمن لهذه الملوثات، خصوصًا في المنازل المُغلقة ذات التهوية الضعيفة، قد يؤدي إلى آثار صحية متنوّعة، تشمل اضطرابات الجهاز التنفسي وتهيج الحلق والأنف والربو، ولا سيَّما لدى الأطفال، وزيادة معدل العدوى التنفسية وتفاقم الحساسية.

في دراسة نُشرت في Weschler, C. J. (2009م)، لاحظ الأطباء ارتفاع معدلات الربو بين الأطفال في مجمّع سكني حديث. وبعد الفحص، تبيَّن أن تركيز الفورمالديهايد في الهواء الداخلي كان أعلى بثلاثة أضعاف المعايير الأوروبية المُوصى بها. وفي قصة أخرى رواها أحد المهتمين باستدامة المباني العمرانية، ويعمل في مشاريع الأبنية الخضراء، شُخّصت حالة أحد عملائه بحساسية شديدة بعد الانتقال إلى منزل جديد مطليٍّ بدهانات اصطناعية تحتوي على تراكيز مرتفعة من المركَّبات المتطايرة. وبعد إزالة الطلاء والاستعاضة عنه بمواد عضوية طبيعية اختفت الأعراض خلال أسابيع.

ورغم هذه التحديات، يمكن اتخاذ مجموعة من الإجراءات الفعَّالة لضمان بيئة صحية داخل المنزل. أولها، استخدام بدائل آمنة لمواد التشطيب، مثل دهانات منخفضة أو معدومة المواد المتطايرة، واستخدام مواد لاصقة خالية من الفورمالديهايد، واعتماد عوازل طبيعية مثل الصوف الصخري أو الألياف النباتية. علاوة على ذلك، يقع على عاتق المعماريين والمهندسين التوفيق بين كفاءة العزل وتحسين التهوية.

وتجدر الإشارة إلى أن إجراء فحوصات دورية لجودة الهواء الداخلي عن طريق تركيب أجهزة استشعار الهواء هو أمر لا بدَّ منه لمراقبة مستويات المركبات الملوِّثة والجزيئات الدقيقة. كما يلزم معالجة مصادر الرطوبة مبكرًا؛ إذ إن تنظيف فلاتر التهوية وتكييف الهواء بانتظام من شأنه أن يقلّل الرطوبة. وأخيرًا، ينبغي رفع الوعي من هذه الأخطار والحث على فتح الأبواب والنوافذ للسماح بتدفق الهواء النقي باستمرار، وهو أمر مهمٌّ لضمان سلامة الهواء وصحته داخل المنازل.