
أسرت المعادن الثمينة المجتمعات البشرية لآلاف السنين فهي رمز للثروة والقوة والجمال، ولعبت أدوارًا مهمة في تاريخ الشعوب لما تمثله من مكانة وقيم اقتصادية وثقافية. ولم يقتصر البحث عنها في باطن الأرض وعبر القارات، بل جرت محاولات عديدة لتحويل بعض المعادن التقليدية إلى معادن ثمينة باستخدام ما كان يعرف بـ "الخيمياء"، وهي أحد فروع الفلسفة الطبيعية التي مهَّدت الطريق لعلم الكيمياء في العصر الحديث. ولكن تلك المحاولات لم تسجل أي نجاح، وقُبِل الأمر على أنه أبعد ما يكون عن التحقق.
ولكن مع تقدم مختلف العلوم، وخاصة الكيمياء، عادت إلى الظهور محاولات كثيرة لتحويل المعادن والمواد التقليدية إلى معادن ثمينة كالذهب والفضة والألماس، فهل أصبح حلم الخيميائيين القدماء حقيقة في العصر الحديث للكيمياء وعلم المادة؟
تصنيع الذهب.. صعبٌ ولكنه غير مستحيل
ترجع الصعوبة العلمية في تحويل بعض المعادن كالرصاص إلى ذهب للاختلاف الذري بين هاتين المادتين. فالمادتان تحملان عددًا مختلفًا من البروتونات، ما يجعل تحويل إحداهما إلى الأخرى مستحيلًا إلا في حال توفر وسيلة متطورة للغاية لتغيير هذا الاختلاف وموائمته.
فعلى سبيل المثال، في مختبر فيزياء الجسيمات الأوروبي "سيرن"، وباستخدام مصادم الهدرونات الكبير، تُوجَّه حزم من الرصاص نحو بعضها بعضًا بسرعة تقترب من سرعة الضوء. تقترب الأيونات من بعضها بعضًا، ومن ثَمَّ يمكن للحقل الكهرومغناطيسي المكثف حول الأيون أن يوفر نبضة من الطاقة تؤدي إلى تحفيز نواة الرصاص القادمة لإخراج ثلاثة بروتونات ليصبح عددها 79 بروتونًا، وهو العدد نفسه الذي في ذرة الذهب.
خلال مرحلة تجارب امتدت لثلاثة أعوام أُنتِج نحو 86 مليار ذرة ذهب، وهو ما يعادل حوالي 29 بيكوغرام، (البيكوغرام هو جزء من تريليون من الغرام) لكننا نحتاج إلى تريليونات أضعاف هذا الوزن لصنع قطعة مجوهرات صغيرة. ويمكن للآلة أن تُنتج حوالي 89 ألف ذرة ذهب خلال ثانية واحدة، ولكن كل ذرة لا تدوم إلا لجزء صغير من الثانية قبل أن تتفكك. وعلى الرغم من إمكانية زيادة كمية الذهب التي يمكن إنتاجها، تبقى الكميات بعيدة كل البعد عن الإنتاج التجاري، علاوة على التكلفة الباهظة لهذه العملية مما يجعلها غير مجدية اقتصاديًا.
“
لا تقتصر الجهود العلمية المبذولة على تحويل بعض المواد ذات القيمة كالجرافيت إلى ألماس بل تحويل بعض المواد المضرة للبيئة مثل ثاني أكسيد الكربون أيضًا.
تصنيع الألماس في المختبر
الألماس هو معدن طبيعي يتميز بصلابة فائقة تفوق مائة جيجا باسكال، وله استخدامات صناعية عديدة، إضافة إلى استخدامه جواهرَ تُرصِّع الحُلي. وعلى غرار محاولة تحويل الرصاص إلى ذهب، هل بإمكاننا تحويل بعض المواد ذات القيمة المنخفضة والمحتوية على الكربون إلى ألماس بمحاكاة هذه العملية الطبيعية؟
منذ القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، رُصدت محاولات عديدة لتصنيع الألماس في المختبرات العلمية، ونُشرت ادعاءات كثيرة حول إنتاجه. وبعد تحليل معظم هذه المحاولات بعناية، لم تؤكَد صحة أيّ منها. لكن في أربعينيات القرن العشرين، بدأ البحث المنهجي في مجال تصنيع الألماس في الولايات المتحدة والسويد والاتحاد السوفيتي، وتُوِّج بأول تصنيع قابل للتكرار عام 1953م. وتوسع إنتاج الألماس الاصطناعي منذ ذلك الحين وحتى اليوم، وشكَّل عنصرًا حيويًا في العديد من الصناعات.
والحال أنه رُصدت محاولات كثيرة لتحضير الألماس في المختبر، سواء أكان ذلك من مواد ذات قيمة كالجرافيت، أم من مواد مهملة وضارة كثاني أكسيد الكربون. ومن أحدث هذه المحاولات التجربة التي قام بها فريق بحثي مشترك مكوّن من فيزيائيين من الصين والسويد، وتمكّن من تصنيع الألماس ببنية بلورية شبكية سداسية، بدلًا من البنية المكعبة الاعتيادية. وذلك من خلال تعريض الجرافيت لضغط شديد، قبل تسخينه إلى درجات حرارة مرتفعة للغاية، كما جاء في البحث الذي نشر في مجلة "مواد الطبيعة" (Nature Materials) في 10 فبراير 2025م.
ومن شأن هذا التركيب السداسي للألماس زيادة الصلابة، بالإضافة إلى تعزيز الاستقرار الحراري له، إذ يمكن أن يحافظ على بنيته حتى درجة حرارة لا تقل عن 1100 درجة مئوية، ما يؤشر إلى أن هذا النوع من الألماس الصناعي هو الأفضل للاستخدام في عدة تطبيقات كالحفر وتخزين البيانات.
وكشف الباحثون أن صناعة هذا النوع من الألماس ذي البنية البلورية السداسية تتم عبر زراعة بذرة، وهي صفيحة رقيقة من الألماس، مقطوعة بالليزر من حجر ألماس طبيعي، وتقنية الترسيب الكيميائي للبخار في حجرة مفرغة من الهواء، ومغمورة بغازات هيدروكربونية تتعرض للضغط تحت حرارة تصل إلى 1200 درجة مئوية. وبعدها يسلّط عليها شعاع ميكروويف يؤدي إلى تكثف الكربون من سحابة البلازما وتبلوره لتكوين الألماس. وبعد ذلك يُزال الكربون الزائد بالليزر، ومن ثم يعالج الألماس الناتج ويُصقل.
تستغرق هذه العملية أكثر من أسبوعين، وفقًا لحجم البلورات المزروعة. ولا شك أن في هذا استهلاك مفرط للطاقة، كما أن من الصعب تنمية الألماس المزروع في المختبر إلى حجم كبير مع خصائص متميزة كالشفافية وبهاء اللون كما في الألماس الطبيعي.
وجاء في دراسة أجراها باحثون في مختبر برينستون لفيزياء البلازما، للبحث عن طرق استنبات الألماس بفعاليّة، أن استخدام الألماس في صناعة الإلكترونيات الدقيقة من السيليكون يتطلب العمل في درجات حرارة منخفضة، من أجل عدم إلحاق الضرر برقائق الأجهزة الإلكترونية. وتتيح هذه الطريقة استعمال الألماس في صناعة أشباه الموصلات نظرًا للخواص المتميزة التي ينطوي عليها عند المعالجة تحت ظروف منخفضة من درجة الحرارة. فبنيته الشبكية البلورية الفريدة تسمح له بتحمل الجهد الكهربائي العالي، كما أنه يتميز بكفاءة عالية في تبديد الحرارة. وقد أشار الباحثون هنا إلى أهمية درجة الحرارة الحرجة عند تصنيع الألماس بتلك الطريقة (وهي عندما تتساوى خواص السائل مع بخاره فيضيع السطح الفاصل عند التسخين)، نظرًا لاحتمال تكوُّن ألماس رديء أو سخام عند المعالجة تحت الدرجة الحرجة.
ألماس من ثاني أكسيد الكربون
لا تقتصر الجهود العلمية المبذولة حاليًا على تحويل بعض المواد الكربونية ذات القيمة كالجرافيت، ولكنها تتعدى ذلك إلى مواد عديمة الفائدة وذات محتوى كربوني يضر بالبيئة، كما هو الحال مع غاز ثاني أكسيد الكربون. وهنا فكّر العلماء بمحاكاة الظروف الطبيعية التي يتشكّل فيها الألماس الطبيعي، استنادًا إلى المعلومات الجيولوجية المستقاة من مناجم الألماس، بما في ذلك الحرارة والضغط اللازمين لتبلوره.
وبالفعل، عمل الباحثون على التمثل بهذه الظاهرة الطبيعية لتطوير طريقة لتصنيع الألماس في المختبر، بمعالجة ثاني أكسيد الكربون تحت ضغط ودرجات حرارة عالية جدًا. كما نجحوا في استخدام الكربون الصلب على هيئة مسحوق في مفاعل مزود بمكبس مع درجات حرارة وضغوط عالية للحصول على الألماس الصناعي. وبواسطة هذه الطريقة حصل الكيميائي الأمريكي تريسي هول على براءة اختراع في عام 1954م لتصنيع الألماس في المختبر.

وماذا عن تصنيع المواد الكيميائية؟
لا تقتصر جهود علماء اليوم في تحول مادة إلى أخرى -أغلى ثمنًا- على الذهب والألماس، بل تتعدى ذلك إلى البحث عن طرائق أكثر استدامة وأجدى اقتصاديًا، لإنتاج بعض أهم الكيماويات والبتروكيماويات. والأمثلة أكثر من أن تُحصى للأنشطة البحثية الكيميائية التي تستقصي طرائقَ مختلفة ومجدية لاستبدال الطرائق التقليدية التجارية التي ربما يكون ضررها البيئي والصحي كبيرًا جدًا.
ففي الماضي، على سبيل المثال، كان الحديث عن استغلال غاز ثاني أكسيد الكربون بتحويله إلى مواد نافعة أشبه بضرب من خيال نتيجة لخمول هذا الغاز كيميائيًا أسوة بالغازات الأخرى المشابهة، كأول أكسيد الكربون. ولكن مع التقدم في أساليب التصنيع الكيميائي، من تطوير أنظمة حفز متقدمة ومفاعلات متطورة جدًا، أصبحنا نرى نتائج بحوث مشجعة لتحويل ذلك الغاز عديم الفائدة نسبيًا والمضر بالبيئة إلى مواد ذات قيمة مضافة. وبالعودة إلى البتروكيماويات، نجد أن المنتجات البتروكيماوية الوسيطة كغاز الإيثلين، والنهائية كالبوليمرات، تعتمد على توفر الغاز الطبيعي بكميات كبيرة جدًا. لكن وكما هو معلوم، فإن الغاز الطبيعي مصدر ناضب غير مستدام. ولذا، فإن إيجاد مصدر مستدام بديلًا للغاز الطبيعي أو يمكن تحويره غازًا طبيعيًّا، يُعدُّ مطلبًا غاية في الأهمية. وينطبق ذلك على غاز الميثان الذي يمكن الحصول عليه بكميات وفيرة في غير مكامن الغاز الطبيعية، كمدافن النفايات وغيرها.
ختامًا، وباستثناء الألماس الذي نجحت المختبرات في إنتاجه على مستويات تجارية، وبات متوفرًا في الأسواق بكميات كبيرة، وبأثمان أقل بكثير من أثمان الألماس الطبيعي، فإن نتائج الدراسات التي أُجريت وتُجرى في مراكز الأبحاث العلمية المتقدمة في أنحاء متفرقة من العالم، للحصول على مواد ثمينة جدًا وذات قيمة مضافة، من مواد خام رخيصة، مثل تحويل الرصاص إلى ذهب، وتحويل الغازات التقليدية، كالميثان إلى غازات مهمة للكثير من الصناعات، لا تزال أسيرة مختبرات الأبحاث وتواجه عوائق فنية واقتصادية كثيرة. ومع ذلك، فإن أحلام الخيميائيين القدامى لم تعد أحلامًا في عصر الكيمياء الحديثة المتقدمة.
لا تقتصر جهود علماء اليوم في تحول مادة إلى أخرى -أغلى ثمنًا- على الذهب والألماس، بل تتعدى ذلك إلى البحث عن طرائق أكثر استدامة وأجدى اقتصاديًا، لإنتاج بعض أهم الكيماويات والبتروكيماويات. والأمثلة أكثر من أن تُحصى للأنشطة البحثية الكيميائية التي تستقصي طرائقَ مختلفة ومجدية لاستبدال الطرائق التقليدية التجارية التي ربما يكون ضررها البيئي والصحي كبيرًا جدًا.
ففي الماضي، على سبيل المثال، كان الحديث عن استغلال غاز ثاني أكسيد الكربون بتحويله إلى مواد نافعة أشبه بضرب من خيال نتيجة لخمول هذا الغاز كيميائيًا أسوة بالغازات الأخرى المشابهة، كأول أكسيد الكربون. ولكن مع التقدم في أساليب التصنيع الكيميائي، من تطوير أنظمة حفز متقدمة ومفاعلات متطورة جدًا، أصبحنا نرى نتائج بحوث مشجعة لتحويل ذلك الغاز عديم الفائدة نسبيًا والمضر بالبيئة إلى مواد ذات قيمة مضافة. وبالعودة إلى البتروكيماويات، نجد أن المنتجات البتروكيماوية الوسيطة كغاز الإيثلين، والنهائية كالبوليمرات، تعتمد على توفر الغاز الطبيعي بكميات كبيرة جدًا. لكن وكما هو معلوم، فإن الغاز الطبيعي مصدر ناضب غير مستدام. ولذا، فإن إيجاد مصدر مستدام بديلًا للغاز الطبيعي أو يمكن تحويره غازًا طبيعيًّا، يُعدُّ مطلبًا غاية في الأهمية. وينطبق ذلك على غاز الميثان الذي يمكن الحصول عليه بكميات وفيرة في غير مكامن الغاز الطبيعية، كمدافن النفايات وغيرها.
ختامًا، وباستثناء الألماس الذي نجحت المختبرات في إنتاجه على مستويات تجارية، وبات متوفرًا في الأسواق بكميات كبيرة، وبأثمان أقل بكثير من أثمان الألماس الطبيعي، فإن نتائج الدراسات التي أُجريت وتُجرى في مراكز الأبحاث العلمية المتقدمة في أنحاء متفرقة من العالم، للحصول على مواد ثمينة جدًا وذات قيمة مضافة، من مواد خام رخيصة، مثل تحويل الرصاص إلى ذهب، وتحويل الغازات التقليدية، كالميثان إلى غازات مهمة للكثير من الصناعات، لا تزال أسيرة مختبرات الأبحاث وتواجه عوائق فنية واقتصادية كثيرة. ومع ذلك، فإن أحلام الخيميائيين القدامى لم تعد أحلامًا في عصر الكيمياء الحديثة المتقدمة.