
نتائج الأبحاث العلمية الحديثة عن الذباب تتحدّى النظرة التاريخية إليه، التي طالما عدّته من المخلوقات المكروهة. إذ صوّرته الأساطير القديمة رمزًا للموت والحروب والمرض، وزادت صورته سوءًا في القرن التاسع عشر مع اكتشاف دوره في نقل الأمراض وتفشي الأوبئة. لكن كشفت الأبحاث الأخيرة أنه من الملقِّحات الرئيسة للنباتات والأشجار والمحاصيل على مستوى الكوكب، ومكافحٌ رئيس لبعض الآفات، كما أظهرت أن لهجرته عبر القارات أهمية كبيرة في نقل المغذيات إلى النباتات.
يصف توماس موفيت، في كتابه "مسرح الحشرات" 1658م، الذبابَ بالمخلوقات الصغيرة المكروهة من البشر جميعًا. ويذكر كونور، في كتابه "الذبابة" 2006م، أن الذبابة مكروهة عالميًّا لأنها تأخذ حاجتها وتطأ الطعام دون تمييز، وبإصرار وجرأة. وتكون أكثر تصميمًا عندما يتعلّق الأمر بالتكاثر، لدرجة أن أرسطو تحدث عن صعوبة منع الذباب من التزاوج. لذلك يكره البشر أسلوب حياة الذباب، وغالبًا ما تنتهي حياته بضربة أو صعقة كهربائية.
كما يُنظر إلى الذباب على أنه غير مسؤول عن تصرفاته، خاصّةً عند مقارنته بالحشرات الاجتماعية مثل النمل والنحل، اللذين يجمعان الطعام ويخزّنانه للمستقبل من أجل إطعام صغارهما. وبسبب "عبثية" حياة الذباب، استُخدم رمزًا للخطيئة عبر التاريخ.
النظرة تتغيَّر
والحال الآن أن الأبحاث الجينية والتطورية المكثَّفة، التي أُجريت على ذبابة الفاكهة، غيَّرت نظرة العلماء السلبية إلى هذه الحشرة. فخلال قرن من البحث، اكتُشفت العديد من المبادئ البيولوجية الأساسية في ذبابة الفاكهة نتيجةً لدراستها العميقة؛ وربما أصبح فهمها الآن أفضل من فهم أي كائن حي آخر.
علاوة على ذلك، اكتشف العلماء مؤخّرًا أن الذباب يشكل نحو 90% من جميع الكائنات المهاجرة. يقول ويل هاوكس، عالم هجرة الحشرات من جامعة أكستر، الذي أجرى مع فريقه أبحاثًا مكثّفة حديثةً عن الذباب: "أمضينا شهورًا في جمع المصادر المكتوبة التي ذكرت هجرة الذباب من أي مكان في العالم. وقد تُغيِّر نتائجنا، المنشورة الآن في مجلة "Biological Reviews"، نظرتنا إلى الذباب إلى الأبد. في السابق، لم يكُن أحد يعلم يقينًا مدى هجرة الذباب، ومع ذلك فهو الأكثر عددًا والأهم بيئيًّا بين المهاجرات جميعها على الكرة الأرضية".
هجرة الحشرات
تؤكد الأبحاث أنّ الحشرات هي أكثر الكائنات البريّة المهاجرة، متفوقة على الفقاريات من حيث الكتلة والعدد. فعلى سبيل المثال، بلغت الكتلة الحيوية لنوعين فقط من الذباب 80 طنًّا سنويًّا، أي ما يعادل 4 مليارات ذبابة سُجِّلت في أثناء مرورها فوق جنوب إنجلترا. كما قدَّر عالِم الحشرات، ويل هوكس، الكتلة الحيوية لجميع الحشرات التي مرَّت عبر جبال البرانس بنحو 100 طن سنويًّا. وكان الذباب يمثل 90% منها. وتهاجر الحشرات في المقام الأول لاستغلال الموارد الموسمية، ولزيادة التناسل، أو هربًا من تدهور الموائل بسبب التغيّر في درجة الحرارة أو انخفاض جودة الغذاء، أو لتجنّب خطر الإصابة بالأمراض، وفق مجلة "Ecography" في 19 أغسطس 2025م.
هكذا يرتبط الربيع والصيف في شمال أوروبا بتدفقاتٍ هائلة من الحشرات المهاجرة؛ حيث تصبح الموائل مناسبة مؤقتًا لدعم التكاثر، وترتبط حياة هذه الحشرات هناك بمزايا إنجابية عالية، وتكون أكثر عددًا في مختلف النظم البيئية الطبيعية والزراعية.

طريق الهجرة في شرق المتوسط
إحدى المناطق المحتملة لوصول الحشرات إلى أوروبا لإعادة التكاثر السنوي هي منطقة الشرق الأوسط، التي تُعدُّ أيضًا طريق هجرة لبعض الطيور من إفريقيا في الربيع.
ومن اللافت أنه بعد الطيران من إفريقيا إلى الشرق الأوسط عبر الجزيرة العربية، فإن بعض الطيور، مثل طائر الصُّرَدِ ذي الظهر الأحمر، يغيّر اتجاهه للطيران عبر قبرص.
وهذا يشير إلى أن الجزيرة العربية قد تشكِّل نقطة انطلاق في طريق الحشرات المهاجرة إلى أوروبا الغربية، وتسمح للطيور والحشرات المهاجرة بتجنب جبال طوروس المرتفعة في تركيا، التي تشكل حاجزًا جغرافيًّا كبيرًا.
تاريخيًّا، كانت التقارير عن هجرة الحشرات في هذه المنطقة نادرة، وكانت تميل إلى التركيز على الفراشة الملوّنة. بيد أنه في ربيع عام 2018م، لاحظ العلماء هجرة أعداد هائلة من الذبابة الطنانة عند طرف شبه جزيرة كارباز شمال شرق قبرص.
ونظرًا لجغرافية المنطقة، والأفكار السابقة بشأن طرق الهجرة التي تستخدمها الفراشات والطيور المتغذّية على الحشرات، افترض الباحثون أن قبرص تقع في موقع إستراتيجي لهجرة الحشرات، لأنها تربط إفريقيا والشرق الأوسط بأوروبا.
لاختبار هذه الفرضية أجرى العالم هوكس وزملاؤه دراسة منهجية لهجرة الحشرات في قبرص في أواخر مارس وأوائل مايو من عام 2019م. ومن خلال هذه الدراسة وثّق الباحثون مسار هجرة رئيس لم يُدرس كفاية من قبل، يمتد من منطقة الشرق الأوسط إلى جنوب شرق أوروبا.
كما حدّد الباحثون مجموعة من الحشرات المهاجرة الجديدة، من خلال مراقبة دامت 39 يومًا، امتدت من 28 مارس إلى 5 مايو 2019م. وتبيّن من خلال الدراسة وصول أكثر من 39 مليون حشرة مهاجرة إلى قبرص عبر أقصى طرفِ شبه جزيرة كارباز في شمالها الشرقي، بعد عبور البحر من منطقة المشرق العربي.
ومن الواضح أن التسعة والثلاثين مليون حشرة التي وصلت إلى منطقة صغيرةٍ للغاية في قبرص، لا يتجاوز عرضها بضع عشرات من الأمتار، هي مجرد نسبة صغيرة للغاية من إجمالي تدفّق الحشرات عبر شرق البحر الأبيض المتوسط من الشرق الأوسط؛ إذ كانت الغالبية العظمى منها إما تموت في البحر قبل الوصول إلى قبرص، أو تهبط في مكان آخر على طول الساحل الشرقيّ لقبرص، أو لا تمر بقبرص إطلاقًا، وتمر غربًا إلى الجنوب أو الشمال من الجزيرة، وفقًا لمجلة "Ecography" في أكتوبر 2022م.
الهجرة عبر جبال البرانس
في أكتوبر عام 1950م، كان عالما الطيور، إليزابيث وديفيد لاك، يراقبان الطيور المهاجرة عبر ممر بوجارويلو الجبلي في جبال البرانس على الحدود بين فرنسا وإسبانيا، وفي أثناء ذلك وجدا شيئًا غير عادي: أعدادًا لا حصر لها من الحشرات المهاجرة. كان هذان العالمان أولَ من وثّق هجرة الذباب إلى أوروبا في ورقة بحثية نشرت آنذاك في مجلة "JSTOR" في مايو 1951م.
كشفت هذه الدراسة الكلاسيكية عن هجرة الفراشات واليعسوب وأعدادٍ هائلة من ذباب الأزهار، ووصفت الأخيرة بأنها المهاجرة الأكثر إدهاشًا بسبب وفرتها الهائلة.
وبعد مرور 70 عامًا على اكتشاف العلماء أن ممرَّ بوجارويلو بؤرةٌ مهمة لهجرة الحشرات، عاد عالم هجرة الحشرات ويل هوكس وزملاؤه لقياس تدفّق الحشرات التي تطير نهارًا وتهاجر موسميًا عبر الممر بشكل منهجي، ليتمكنوا من تقدير حجم الهجرة اليومية بالكامل على طول مسار الحشرات في أوروبا الغربية.
قَدَّرت الدراسة التي قام بها هوكس وآخرون، المُمتدَّة على مدى أربع سنوات، من سبتمبر 2018م إلى أكتوبر 2021م، أنّ حوالي 17 مليون حشرة تعبر سنويًّا ممر بوجارويلو، بما فيها الذباب والنحل واليعسوب.
وهذا يشير إلى أن ملياراتٍ منها تعبر سنويًّا سلسلة الجبال. ويشكّل الذباب أكثر من 89% من إجمالي الحشرات المهاجرة. وكما يوضح هوكس، فإن هذه الأرقام ضئيلة مقارنة بالحجم الحقيقي للهجرات المرئيّة التي تحصل فوق رؤوسنا. في جنوب إنجلترا وحدها تشير إحدى الدراسات إلى أن 3.5 تريليون حشرة تهاجر سنويًّا وفقًا لمجلة "ساينس" في 23 ديسمبر 2025م.
أهمية الذباب وفوائده!
مع ما يسببه الذباب من آثار سلبية بصحة الإنسان، لا يعرف العلماء مجموعة أخرى من حيواناتٍ أو حشرات مهاجرة تعطي فوائد بيئية كما يعطيها الذباب. فعلى سبيل المثال، يؤدي الذباب ذو الجناحين أدوارًا بيئية في غاية الأهمية ترتبط بعمل النظم البيئية والاقتصاد. إذ تشير التقديرات، كما جاء في مجلة "Biological Reviews" المذكورة سابقًا، إلى أن نسبة الملقِّحات من هذا النوع 62%، وقد زار 72% منها المحاصيلَ الغذائية الرئيسة. كما بيّنت المجلة أن عائلة ذباب السرفيدي وحدها تلقّح 52% من نباتات المحاصيل الرئيسة على مستوى العالم. كما تشير الدراسات المذكورة إلى أن 34% من الذباب المهاجر هي من جملة الكائنات التي تتولّى تحليل الجثثِ المتعفّنة وروثِ الحيوانات.
ومن الأدوار البيئية التي يقوم بها الذباب، التهام يرقاتِ الذباب الحوَّام تريليوناتٍ من حشرات المَنّ سنويًّا جنوب إنجلترا.
ومن المعروف أن هجرة الحشرات هي الطريقة الأهم لنقل المغذِّيات التي تحتاجها النباتات للنمو، ويشكِّل الذباب غالبية الحشرات التي تنقل العناصر الغذائية، لاحتواء أجسامها على عناصر مثل النيتروجين والفوسفور، وهما عنصران محدِّدان لنمو النباتات، ومخصِّبان للتربة. إذ تحتوي الكتلة الجافة لجسم الذبابة المهاجرة عادة على 10% من النيتروجين، و1% من الفوسفور، وهي عناصر تتغذّى بها التربة عند موت هذه الحشرات.
ومن جهة أخرى، وجدت دراسة ألمانية أن أعداد الذباب الآكل للمنِّ انخفضت بنسبة 97% خلال السنوات الخمسين الماضية، وأدى هذا الانخفاض إلى زيادة حشرات المنّ الآكل للمحاصيل، وانخفاض الملقِّحات، وهذه إحصائية مرعبة قد تسفر عن عواقب وخيمة. ومع ذلك ثمة بصيص أمل، فالذباب المهاجر يتألّف من أعداد كبيرة من الصغار، وإذا تحسَّن الربط بين البيئات الطبيعية، وقَلَّ استخدام المبيدات الحشرية، وتوفّرت البيئة المناسبة، سيتعافى الذباب بسرعة كبيرة وفقًا لمقالة مجلة "The conservation" في 2 أبريل 2025م.