Hero image

هاكونا يوتوبيا

سبتمبر – أكتوبر | 2025

سبتمبر 17, 2025

4 دقائق

شارك
في اللغة السواحيلية تعني عبارة "هاكونا يوتوبيا"، لا توجد يوتوبيا أو مدينة فاضلة، وهو تعبير وُلد من تجارب الفنانين في جزيرة لامو في كينيا، التي غالبًا ما تُصوَّر بأنها مكان مثالي، لكنها في الواقع تعاني مشكلات اجتماعية وبيئية خفية. وهذا التناقض بين حلم المجتمع المثالي وواقع المعاناة، قد ألهم مجموعة "كايروس فيوتورا" في العاصمة الكينية نيروبي، لاستكشاف ما إذا كانت اليوتوبيا ممكنة فعلًا، أم أنها توجد فقط في لحظات ومساحات عابرة في حياتنا اليومية.

"كايـروس فيوتورا" هي منظمة فنية مستقبلية ملتزمة بتعزيز مستقبل محلي جميل من خلال المشاركة المجتمعية، بحيث تضم فنانين ومصممين وعلماء يهدفون إلى تمكين المجتمعات من إعادة تخيل مستقبلها، ويؤمنون بأن الإبداع والخيال ليسا رفاهية، بل أداتان أساسيتان للصمود والتحوُّل.

من هنا، وفي قلب نيروبي، المدينة التي تعجُّ بالتناقضات ويقطنها ستة ملايين نسمة، أطلقت مجموعة من سبعة فنانين في "كايـروس فيوتورا" معرضًا جريئًا بعنوان "هاكونا يوتوبيا.. في البحث عن اليوتوبيا المصغرة"، وذلك بوصفه مبادرة مجتمعية مُلهمة تهدف إلى استكشاف واقع الحياة الحضرية في العاصمة الكينية، وتسليط الضوء على إمكاناتها الكامنة. 
لا يقتصر معرض "هاكونا يوتوبيا" على قاعة عرض واحدة، بل يحوّل المدينة كلها إلى معرض مفتوح، وتتمركز الأعمال الفنية في نقاط من "اليوتوبيا المصغرة" المنتشرة في أنحاء نيروبي، مثل: الحدائق المجتمعية، ومراكز الفنون، والمساحات العامة، وغيرها من الأماكن التي تعكس روح الإبداع والقدرة على الصمود على الرغم من التحديات. تُحدد هذه المواقع على خرائط خاصة، ويُدعى الزوَّار لاكتشافها بأنفسهم بوصفها جزءًا من تجربة المعرض.

ولجعل هذه التجربة تفاعلية، يحصل كل زائر على "جواز سفر اليوتوبيا المصغرة"، حيث يُختم جوازه بختم رمزيّ في كل مرة يزور فيها أحد تلك المواقع المميزة. وهذه الفكرة البسيطة تُحوِّل المعرض إلى نوع من البحث عن الكنز الحضري، وتُشجِّع الأشخاص على استكشاف أجزاء من نيروبي ربَّما لم يزوروها من قبلُ. كما تُعزِّز الإحساس بالترابط والاكتشاف المشترك؛ إذ يتفاعل الزوَّار مع كلٍّ من الأعمال الفنية والمجتمعات التي تُلهمها.

أمَّا الأعمال الفنية في المعرض، فهي متنوعة مثل المدينة نفسها، بعضها لوحات ومنحوتات تقليدية، وأخرى تركيبات غامرة وعروض أدائية ومشاريع تفاعلية. ما يُوحّدها هو الالتزام بمعالجة أكثر قضايا نيروبي إلحاحًا، مثل: الفقر، وتدهور البيئة، والظلم الاجتماعي، مع الاحتفاء في الوقت نفسه بقدرة سكانها على الصمود وابتكار الحلول.

على سبيل المثال، يُعيد الفنان عبدول روب، تخيُّل قماش الكانغا التقليدي، مُضيفًا إليه رموزًا ورسائل حول تلبية الاحتياجات الأساسية، مثل الطعام والمأوى والماء، بوصفها أساس المجتمع الفاضل. وكان روب قد استلهم عمله من مَثل سواحيلي يقول: "حيثما وُجدت الإرادة، وُجدت الوسيلة"، ليؤكد قوة العمل الجماعي وأهمية التعاون المجتمعي في بناء مستقبل أفضل. 

أمَّا شابو موانجي، الذي نشأ في حي موكورو العشوائي، فيستلهم من معاناة سكان الأحياء الفقيرة وآمالهم في أعماله الفنية. لذلك أسس مركز "واجوكو للفنون" في حي موكورو نفسه؛ إذ يوفر مساحة آمنة للشباب لتعلم الفنون واستكشاف قدراتهم. 

وفي المعرض نفسه، قدّمت الفنانة أجاكس آكس، منحوتات متعددة الوسائط تدور حول كراسي المدرسة، مُحوِّلة تلك الكراسي، التي هي رمز لمعاناة الشباب في كينيا، إلى أعمال فنية مرحة تعكس الفرح والفضول، لتعيد بذلك صياغة السرديات المجتمعية حول التعليم والمعاناة. 

كما أبدع الفنان ستونفيس بومبا، في إنشاء "غرفة الأدغال" في مستوطنة ماثاري، وهي مساحة فنية داخلية تحوّلت إلى ملاذ آمنٍ يُتيح لأفراد المجتمع اختبار السلام والطبيعة وسط بيئة مكتظة بائسة لا توجد فيها أشجار ولا حتى مساحة خضراء واحدة. ولإنشاء هذه الغرفة المصغرة، استأجر "بومبا" وزملاؤه كنيسة مصنوعة من الصفيح المموج، وحوَّلوها عن طريق بناء حديقة عمودية من مواقد الفحم المُعاد استخدامها، ليجسدوا بذلك فكرة تحويل القبح إلى جمال.

وتجدر الإشارة إلى أن أحد أقوى جوانب معرض "هاكونا يوتوبيا"، هو تركيزه على المشاركة المجتمعية. فالمشروع لا يقتصر على عرض الأعمال الفنية فحسب، بل يخلق فرصًا للحوار والتعاون والعمل الجماعي. لذلك، تُعقد فعاليات عامة وورش ونقاشات في مواقع اليوتوبيا المصغرة المختلفة؛ إذ يُدعى السكان لمشاركة رؤاهم حول مستقبل أفضل لنيروبي.
وهكذا، فإن "هاكونا يوتوبيا" هو أكثر من مجرد معرض فني؛ إنه استعادة لسردية نيروبي، ليس بوصفها مدينة تُعرف بمشكلاتها، بل مكان للإمكانات والإبداع والقدرة على الصمود. من خلال رؤية هؤلاء الفنانين السبعة ومشاركة المجتمع، يُقدِّم معرض "هاكونا يوتوبيا" تذكيرًا قويًا بأن الأمل يمكن أن ينبت ويزدهر حتى في أكثر الأماكن غير المتوقعة.