Hero image

في متاهة الخيارات

عبدالله الضامن

أغسطس 18, 2025

8 دقائق

شارك

في زمنٍ تتّسع فيه الخيارات بلا حدود، يخُيّل إلينا أن الحرية أصبحت في متناول اليد. فمن نكهات الآيس كريم التي لا تُحصى، إلى آلاف المنتجات والقرارات اليومية، كلُّ شيء يدعونا إلى الاختيار. لكن شيئًا ما في هذه الوفرة لا يبعث على الطمأنينة؛ بل كثيرًا ما يُخلّف وراءه حيرةً صامتةً، وأسئلةً معلّقةً عن طبيعة الرضا، ومعنى القرار، وحدود الإرادة. أهي حريتنا بالفعل، أم رغبات موجهة تتخفّى خلف واجهات الاختيار؟ وهل يوسّع تعددُ البدائل أفُقَنا، أم يعمّق التيه؟ تلك هي المفارقة: ظاهرها وفرة، وجوهرها ارتباك. مفارقةٌ تُعيد طرح سؤال قديم بصيغة معاصرة: هل نختار لأننا أحرار، أم لأن الوفرة تُوهمنا أننا نختار؟ هنا تبدأ الرحلة، ومن هذه الأسئلة تنفتح متاهة العصر: مفارقة الاختيار.

إذا كانت وفرة الخيارات تُعَدُّ من مؤشرات التقدّم، فإنها تُخفي في طيّاتها تناقضًا وجوديًّا. وكما يُشير باري شوارتز في كتابه "مفارقة الاختيار"، أنّ تعدد البدائل لا يوسّع الحرية بقدر ما يُولّد توترًا مزمنًا وشعورًا دائمًا بالنقص. وفي هذا السياق، يغدو كل قرار عبئًا، وكل خيارٍ لم يُتخذ فرصةً مهدورة.
هكذا يتكرّس وهمٌ خفيٌّ: الأفضل دائمًا موجودٌ في مكانٍ آخر. وكلّما كثرت الاحتمالات، ازداد التردّد وتآكل الرضا. حتى أبسط القرارات، كاختيار نوع الحليب مثلًا، يتحوّل إلى اختبار تحليلي: هل نشتري البقري المجفّف؟ أم المبرَّد؟ أم العضوي؟ وهل نفضل المنتج المحلي أم المستورد؟ ثم يأتي السؤال المُعتاد: "هل كان هناك خيار أفضل؟".
فالمشكلة ليست في الرفاهية، بل فيما تُحدثه من قلق خفي يُعيد تشكيل علاقتنا باليقين. فكلما طال التردّد، تراجعت الطمأنينة، واهتزّ الإحساس بالاتجاه. وبدلًا من أن تمنحنا الثقة، تتحوَّل وفرة الخيارات من مصدر للحرية إلى سبب للشك والارتباك.

ليست أزمة الوفرة في كثرتها، بل في الوهم المرافق لها: أن هناك دائمًا خيارًا أفضل ينتظرنا. هذا الظلُّ المستمر للاحتمال، ذلك الإلحاح الداخلي الذي لا يهدأ، هو ما يُثقِل كاهلنا.

وهم العقلانية: حين يخدعنا وعينا
لطالما ظنَّ الإنسان أنه كائن عقلاني، يتّخذ قراراته بناءً على تحليل منطقي ومعايير موضوعية، غير أن أبحاث دانيال كانمان، المتخصص في علم الاقتصاد السلوكي الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2002م، تكشف هشاشة هذا الاعتقاد. فقد بيَّن كانمان أن عقلنا لا يعمل دائمًا بطريقة منهجية وعقلانية، بل غالبًا ما نعتمد على أنماط تفكير سريعة وحدسية، مليئة بالتحيّزات والاختصارات الذهنية التي تؤثر في قراراتنا على نحوٍ غير واعٍ. فنحن لا نفكّر بوعي عقلاني دائم، بل نعتمد غالبًا على ما يُسمَّى بـ"النظام الأول": حدس سريع، مليء بالتحيّزات والاختصارات الذهنية.
نتحيّز لما نؤمن به مسبقًا (انحياز التأكيد)، ونخاف الخسارة أكثر مما نرغب في الربح (انحياز الخسارة)، ونتأثر بطريقة عرض الخيارات (انحياز العرض). وكلما ازدادت البدائل، ازداد العبء المعرفي، واضطررنا إلى الاعتماد على قرارات سريعة قد لا تكون صائبة. وهكذا، تتحوَّل وفرة البدائل إلى عبءٍ معرفي، ونُصبح رهائن لطرق تصميم القوائم ومواضع الإعلانات.
وفي النهاية، لسنا دائمًا مَن يختار بحرية، بل نُقَاد، غالبًا دون وعي، إلى اختيار ما صُمِّم ليبدو وكأنه قرارنا الشخصي.

الأثر النفسي المتراكم: القلق الهادئ وتآكل الرضا
في البداية، تبدو حرية الاختيار امتيازًا مُرحَّبًا به، لكن مع تكرار التجربة، تبدأ هذه الحرية في استنزافنا من الداخل. فمع كل قرار، يتسلّل إلينا شكٌّ خفي: "هل فاتني خيار أفضل؟". كما أن القلق لا ينبع من الخطأ نفسه، بل من وعينا بإمكانية وجود أفضل دائمًا.
يُسمِّي علماء النفس هذا الشعور بـ"تآكل الرضا"، وهي حالة يَفقِد فيها القرار، وإنْ كان ناجحًا، قدرتَه على منح الطمأنينة. وهذا ما يُشير إليه الباحثان باري شوارتز، عالم النفس الأمريكي، والكاتب الأمريكي أندرو وورد، المعروفان بأبحاثهما حول "مفارقة الاختيار"، إلى أن كل خيار نتّخذه يعني بالضرورة التخلي عن خيارات أخرى قد تظلُّ في أذهاننا بوصفها مصادر محتملة للندم. ومع الوقت، يصبح اتخاذ القرار مصدرًا للتوتّر، لا الإنجاز، بل يتراكم بصمتٍ عبر تفاصيلنا اليومية، من قرارات الشراء إلى خيارات العلاقات والمهنة، ولا ينعكس هذا الأثر في لحظة بعينها، بل يبدأ بقلق خفيف، ثم يتحوَّل إلى إرهاق ذهني، وقد ينتهي إلى لامبالاة هاربة من عناء المفاضلة.
فإذا كانت الضغوط تنشأ من قراراتٍ صغيرة، فكيف بقراراتٍ تصوغ مسار العمر في الحب أو المهنة أو نمط الحياة؟ وهنا تبرز المفارقة الأشد: أنّ وفرة الخيارات لا تمنح الحرية، بل تبني شكًّا مزمنًا، يعيش في ظلّ كل قرار نتّخذه، ويقضم من شعورنا بالرضا.

الذات المستهلكة: عنف الخوارزميات الخفي 
في العصر الرقمي، لم تَعُد مفارقة الاختيار شأنًا داخليًّا، بل غدَت بنيةً خارجيةً تفرض نفسها على وعينا، عبر خوارزميات تتسلّل إلى تفاصيل قراراتنا اليومية. لم نَعُد نختار بحرّية تامة، بل نُدفع إلى اختيار ما صُمِّم بعناية ليبدو وكأنه اختيارنا الحر. لم تَعُد الخوارزميات أدواتٍ محايدة، بل منظومات تُعيد تشكيل وعينا وتوجيه أذواقنا. فهي تخلق "أنا رقمية" موازية، تتغذّى على تفاعلنا وتُعيد تشكيله ضمن دوائر مغلقة من التكرار والتشتيت. فما نراه، ومتى نراه، وكيف نراه، لم يَعُد نابعًا من فضولنا، بل مما يُملى علينا بلغة الإغراء والتخصيص.
وفي هذا السياق، تتحوَّل الحرية إلى استجابة مدروسة، والذات إلى مُنتَجٍ قيد التعديل. حتى باتت الخيارات عبئًا مكرّرًا، معلّبًا، مُعدًّا سلفًا ليبدو كأنه اختيارنا. وهنا تلتقي مفارقة الخوارزميات بما أشار إليه الفيلسوف الفرنسي بول ميشيل فوكو حول السلطة الحيوية؛ إذ يُعاد تشكيل الأفراد لا بالقهر، بل بالتطويع الذكي لحاجاتهم.

وكما يرى عالم الاجتماع البولندي - البريطاني زيغمونت باومان، فإن الإنسان المعاصر يعيش في "حداثة سائلة"؛ إذ أصبح أكثر عُرضة للتشكّل بحسب السياق، بدلًا من تكوين هوية ذات جذور ثابتة ومرجعية واضحة. وفي غياب اليقين، تصبح الذات عرضة للاستهلاك بدل البناء. فتصبح الهوية مجرد واجهة استهلاكية تتبدَّل بتبدُّل الصيحات، لا كينونة تُبنى وتتجذّر مع الزمن. 
لم يَعُد السؤال: "هل هذه رغبتي؟"، بل "مَن زرع هذه الرغبة في داخلي؟".

هذه اليقظة الذهنية القسرية، التي تُفرَض علينا تحت ستار المشاركة والاتصال، لا تُنمّي وعينا، بل تُنهكه. إنها تستهلك عقولنا قبل أن يبدأ يومنا. فالخوارزميات لا تترك لنا لحظة فراغ، ولا صمتًا منتجًا، بل تملأ وعينا بالكامل وتدفعه إلى أقصى حدوده ، فتتحوّل الحرية إلى وهمٍ مشوَّه، مُغلّفٍ بخيارات "شخصية" لا تمثّلنا، بل تُنتَج لنا.

 

في زمنٍ تتّسع فيه الخيارات بلا حدود، يخُيّل إلينا أن الحرية أصبحت في متناول اليد. فمن نكهات الآيس كريم التي لا تُحصى، إلى آلاف المنتجات والقرارات اليومية، كلُّ شيء يدعونا إلى الاختيار.

حتى على مستوى العلاقات الإنسانية، فإن وفرة الخيارات تولّد وهمًا دائمًا بوجود شخص آخر أفضل، أو علاقة أكثر إشباعًا في مكانٍ ما.

إعادة تشكيل القيم والمعنى
إذا كانت الخوارزميات قد أعادت تشكيل وعينا، فإن أثرها الأعمق يكمن فيما هو أهدأ صوتًا: قِيَمنا. لم تَعُد آثار التكنولوجيا تقف عند حدود الوسائل التي نستخدمها، بل امتدّت إلى البُنية التي ننظر بها للرغبة والرضا والمعنى. لم نَعُد نشتري ما نحتاج إليه، بل ما يُقتَرح علينا. لم نَعُد نرغب بحرية، بل نُقاد نحو رغبات مصمَّمة، تلتقطها أنظمة تفهمنا أكثر مما نفهم أنفسنا. ونتيجة لذلك، انزلقت قيمنا من الاكتفاء إلى العطش، ومن الطمأنينة إلى القلق، ومن الرضا إلى هشاشة مستمرة. وفي هذا السياق، نشأتْ ثلاث تحوّلات مفصلية:

• استهلاك مُموَّه بالحاجة: لم نَعُد نلبي حاجات حقيقية، بل نُساق وراء توصيات مُصمَّمة.
• تآكل الرضا: إذ يتحوَّل كل خيار إلى فرصة ضائعة بسبب بدائل لا تنتهي.
• انكماش الاستقلالية: لأن قراراتنا صارت امتدادًا لخوارزميات خفيّة، لا تعبيرًا حرًّا عن الذات.

وهكذا، يتحوَّل الإنسان الحديث إلى كائنٍ دائم الترقُّب، غارقٌ في التقييم، منهكٌ بالتردّد. لم نَعُد نطمئن لما نملك؛ لأننا أُقنعنا أن الأفضل لم يأتِ بعد. وكما قال عالم النفس والفيلسوف الألماني - الأمريكي إريك فروم: "المجتمع الاستهلاكي يخلق رغبات أسرع مما يستطيع أن يُشبِعها".
لكن الخسارة لا تتوقّف عند حدود الرغبة، بل تطول ما هو أعمق: المعنى. فحين تتكاثر البدائل، تفقد الخيارات وزنها، ويتلاشى الاتجاه. لم نَعُد نبحث عمّا نحتاج إليه، بل عمّا يُبرِّر وجودنا وسط الضجيج الرقمي. وهنا تتسرّب أزمة المعنى.

في المجتمعات القديمة، كانت الغايات واضحة: النجاة، الأسرة، الشرف، العبادة. أمَّا اليوم، فقد أصبحت الذات مُطالَبة بأن تُبرِّر كلَّ خطوة وكلَّ قرار. لم يَعُد السؤال: "ماذا أفعل؟"، بل: "ما القيمة التي أضيفها؟"، و"مَن أكون بين هذا الزخم؟". وقد أشار الطبيب النفسي النمساوي فيكتور فرانكل إلى أن الفراغ الوجودي لا ينشأ من غياب الحافز فقط، بل من غياب المعنى. فالكرامة الإنسانية تجد حصنها الأخير في غاية نعيش من أجلها.
لقد تعمَّقت مفارقة الاختيار؛ لأنها لم تَعُد مسألة عدديّة، بل تحوَّلت إلى إشكال في الاتجاه والغاية. تعلَّمنا أن نرغب أكثر. ومن دون أن نسأل: لماذا نلهث خلف "الأفضل"؟ وهل هو ما يعكس حقيقتنا؟ أم ما يُشكّلنا على غير ما نحن عليه؟

لم تَعُد مفارقة الاختيار محصورة في السلع والمنتجات، بل امتدت لتطول أكثر ما نعدُّه حميمًا وثابتًا: علاقاتنا الإنسانية. في زمنٍ تُتيح فيه المنصات الرقمية التواصل مع آلاف الأشخاص بلمسةٍ، يبدو وكأننا نعيش عصرًا ذهبيًّا للتفاعل. لكن خلف هذا الاتّساع، يلوح فراغٌ من نوع آخر.

في الماضي، نشأتْ العلاقات في سياقات محدودة: الحي والمدرسة والعمل، ففرضت نوعًا من البساطة القسرية، وهو ما أتاح للروابط أن تنضج بالتدرُّج والتجربة المشتركة. أمَّا اليوم، فإن وفرة الخيارات في العلاقات تولّد وهمًا دائمًا بوجود شخص آخر أفضل، أو علاقة أكثر إشباعًا في مكانٍ ما. وهذا الوهم يُعيد تشكيل ديناميكيات القرب والالتزام بطرق خفية، ولكن عميقة.
تظهر هذه الأزمة في مستويين متوازيين. أولًا، السطحية المتزايدة؛ إذ أصبحت العلاقات الإنسانية أشبه بسلسلة من التفاعلات العارضة التي لا تجد ما يكفي من الوقت أو الاهتمام لتنمو. ثانيًا، الخوف من الالتزام، وهو خوف لا ينبع من عدم الرغبة، بل من توجّس داخلي بأن كل ارتباط يُغلِق بابًا على خيارات أخرى أكثر جاذبية. وكأننا أمام نسخة عاطفية من "قلق تفويت الأفضل"، تُفتِّت الثقة وتُقوِّض المعنى بالتدريج.

وهكذا، يتآكل معنى العلاقة من الداخل، لا بالافتراق الظاهر، بل بالتردُّد الصامت، والخوف المستتر من الثبات. وفي هذا السياق، قد يكون الدرس الأعمق أننا لا نحتاج إلى وفرة الروابط، ولا علاقات مثالية، بل علاقات نستطيع أن نكون فيها كما نحن، بلا قلق المقارنة، وبلا ضغط التحسين الدائم. علاقات نرعاها، فنُزهر فيها، لا نستهلكها، ثم نبحث عن بديل.

رحلة نحو التصالح مع اختياراتنا
ما بين الفرد وخياراته، والعالم مِن حوله، تتراكم أسئلة لا تجيب عنها القوائم الطويلة ولا تقنيات التصفية الذكية. إنها أسئلة تتجاوز: "ماذا نختار؟" إلى: "مَن نكون في عالم لا يكفُّ عن عرض الاحتمالات؟" ومن هنا، تبرز الحاجة إلى وقفة صادقة مع الذات، والرغبة، ومعنى الامتلاك.
ليست أزمة الوفرة تكمن في كثرتها، بل في الوهم المرافق لها: أن هناك دائمًا خيارًا أفضل ينتظرنا. هذا الظلُّ المستمر للاحتمال، ذلك الإلحاح الداخلي الذي لا يهدأ، هو ما يُثقِل كاهلنا. وربَّما لا يكون الخلاص في تقليل الخيارات أو رفضها، بل في التحرُّر من سطوتها، بإعادة تشكيل وعينا نحو قرارات تشبهنا ولا تستهلكنا.

ففي النهاية، ليست الحياة سباقًا نحو القرار الأمثل، بل رحلة نحو تقدير اللحظات التي نصنعها بإرادتنا، مهما بدت بسيطة. ولعلَّ "الاختيار الأمثل" ليس ما يُرضي المعايير، بل ما يُريح القلب ويمنحنا انسجامًا مع ذواتنا.
ليست سعة البدائل ما يمنح الحياة معناها، بل الطمأنينة لما اخترناه بصدق. وحين نطمئن إلى ما نملكه، نمنحه قيمته، ونكتشف أن الرضا لا يُولد من الخارج، بل من الداخل.
كما قال سينيكا: "ليس الفقر ما يقلّل ما نملكه، بل الطمع هو ما يجعل ما نملكه لا يكفينا".