
يزدحم مقهى بوهيميا آرت، بالخبر، وينبض بالحيوية ترقّبًا للحظة اعتلاء فرقة الروك النسائية "سيرة" خشبة المسرح، بعد أن جاءت من الرياض لإحياء الأمسية. غالبية الحضور من الشباب، خاصةً السعوديين، وقد اجتمعوا تحت سقف المقهى لهدف واحد، وهو الاستمتاع بالعروض الموسيقية الحية، التي بات مقهى بوهيميا مشهورًا بها في جميع أنحاء المملكة.
افتتحت الفرقة العرض بأولى أغنياتها "شارع البحتري"، بألحانها السايكدليَّة (الهلاوسية) الحالمة والغامضة التي سرعان ما تمايل الجمهور على إيقاعها. وتشكل عازفة الباص "ميش" وقارعة الطبول "Thing" الأساس الإيقاعي للفرقة، في حين تعزف مغنية الفرقة "نورة" جملة موسيقية بطابع البلوز على الكيبورد، وتضيف عازفة الغيتار "هيا" إلى هذه الألحان نغمات تآلفية وزخرفات موسيقية عذبة على أوتار الغيتار.
“
منذ انطلاق الرؤية السعودية الطموحة 2030، أخذ المشهد الفني والموسيقي في السعودية ينمو نموًّا متسارعًا
لا أُعدُّ نفسي ناقدًا موسيقيًّا، ولكني بعد أن أقمت في المملكة العربية السعودية لأكثر من عقد من الزمان، راق لي هذا التحول التاريخي. فمنذ انطلاق الرؤية السعودية الطموحة 2030، أخذ المشهد الفني والموسيقي في السعودية ينمو نموًّا متسارعًا. وباتت المقاهي والمسارح التي كان يخيّم عليها الصمت، تستضيف العروض الموسيقية الحية، واعتلى هذه المسارح موسيقيون دأبوا على صقل مهاراتهم في منازلهم. من جدة إلى الخبر، يُقبل جمهور الموسيقى السعودي على تحميل الموسيقى السعودية، ويتوافدون من كل صوب لدعم الفرق الموسيقية المحلية والاحتفاء بنشوء هذه الموجة الإبداعية في المملكة.
وفي هذا السياق، أضافت نورة، المغنية الرئيسة في فرقة سيرة، في أثناء مقابلة أُجريت معها بعد حفلة موسيقية: "نشهد حدوث التطورات بسرعة هائلة، غامرة، وجارفة، يسعى فيها الجميع إلى تحديد هُويّاتهم الفنية، والاتجاه الذي يسلكونه". "يومًا بعد يوم نرى عددًا أكبر من أماكن الترفيه تفتح أبوابها، ونأمل أن يخرج المزيد والمزيد من الفنانين من صوامعهم ويظهرون إبداعهم إلى الملأ."وعبّرت عازفة الغيتار، هيا، عن مشاعر عضوات فرقة سيرة قائلة: "متحمسون لأن نكون القدوة التي لم نحظَ بها في طفولتنا.ذات مرّة في إحدى الحفلات، ساورتني واحدة من تلك اللحظات التي كنت فيها على وشك الانهيار النفسي، بيد أنني نظرت أمامي، وإذ بفتاة بعمر الثلاثة عشر عامًا تهز رأسها بانسجام، مستمتعة بحماس ملحوظ، وفي تلك اللحظة، قلت لنفسي هذا هو دافع استمراري في هذا المجال".
بناء الهُويَّة
تشتهر المملكة العربية السعودية بالعديد من الأشياء: طُرق تجارتها التاريخية، وحسن ضيافتها للحجاج، ثم مكانتها الرائدة فيما بعد في قطاع الطاقة. واليوم، في ظل رؤية المملكة 2030، يواصل الفنانون السعوديون الشباب البناء على هذه الهُويَّة. كل أغنية، وكل قصيدة، وكل رسمة أو منحوتة أو كتاب هو تعبير عما يعنيه أن تكون سعوديًّا في القرن الحادي والعشرين. وفي عالمنا الرقمي الذي باتت تتدفّق فيه الأفكار عبر الحدود، تشكل الفنون أداة قوية لتشكيل مسار الفرد.

البوم "من تحت رمال الصحراء" لفرقة صوت الياقوت.
وقالت أديشي: "اختزال البشر في قصة ذات منظور واحد يهمّش أصواتهم ويسلب كرامتهم، فجميع الآراء مهمة، وتعدّدها أكثر أهمية. وكما استُخدمت القصص لتجريد الناس من حقوقهم وتشويه صورتهم، يمكن أيضًا استخدامها لتمكينهم وإعلاء الكرامة الإنسانية. وكما أنها يمكنها أن تجرح كرامة الناس، يمكنها أيضًا أن تجبر ذلك الشرخ".
وهنا تكمن أهمية تمكين الفنانين والموسيقيين في المملكة العربية السعودية، أي عندما يستخدم السعوديون الفنون للتعبير عن أنفسهم من خلالها، فهم بذلك يحدّدون هوية ثقافتهم بأيديهم، لا بأقلام غيرهم. ومن ثَمَّ، يخلقون فضاءً آمنًا يُعبِّر فيه الأفراد عن خصوصية التجربة السعودية.
وأضاف أحمد شاولي، متعهد حفلات موسيقية سعودي ومؤسس مشارك لـ "Wall Of Sound Records" في جدة، متحدّثًا عن الجيل الحالي من صنُّاع الموسيقى أنهم بدأوا للتوّ في صناعة موسيقى سعوديّة الطابع.
وقال شاولي في مقابلة أُجريت معه مؤخّرًا: "علينا أن نعبّر بصوتنا وثقافتنا الخاصة، غير أننا لا نزال عالقين في مرحلة يخشى فيها الكثيرون من كسر القوالب وإنتاج موسيقى تعبّر عنهم حقًّا. ثمّة جدل قائم حول ما إذا كان من الأفضل أن تغني الفرق الموسيقية بالعربية أو الإنجليزية.
نحن نسجل أغاني وألحانًا للعديد من الأشخاص اليوم. ولكن إذا ذهبت إلى نيويورك مثلًا، فهل ستعجبهم؟ في الغالب لن يحدث؛ لأنك إذا كنت ستذهب للخارج، قد لا يُعجب بك أحد ما لم تقدم شيئًا فريدًا يحمل بصمتك الخاصة".
وإذا سألت ما معنى امتلاك بصمةٍ خاصةٍ لصوت سعودي؟
لا توجد إجابة واحدة عن هذا السؤال. فبالنسبة إلى الفرق الموسيقية في جدة مثل "Skeleton Crowd" و"أنا.نحن"، والفرق الموسيقية في الخبر مثل "موجة" و"Sound of Ruby" و"Creative Waste"، فالموسيقى السعودية تعني دمج الألحان والجُمل الموسيقية العربية في أغاني الروك المعاصرة، وكتابة كلمات أغانٍ تصف ما يعنيه أن تعيش وتكافح وتحب في المجتمع السعودي المعاصر.
وقال شاولي: إنّ الجمهور السعودي اليوم متعطّش لحضور حفلات الموسيقى الحيّة، فهم ما زالوا يتذكّرون أنها لم تكُن متاحة لهم. وهو بطبيعته جمهور لطيف وداعم، وسوف يهذّب الزمن ذائقته ويصبح أكثر انتقائية لما يستحق الإعجاب.
كما أردف قائلًا: إنّ الأمر قد يستغرق عقدًا من الزمن حتى يتمكّن الفنّانون السعوديون من صناعة موسيقى سعودية متفرّدة، مستوحاة من الألحان والثقافة والرؤى السعودية، فما لدينا الآن ليس إلَّا اندفاعات حماسية، وهو أمرٌ طبيعي للغاية، ولكن لا تزال في مرحلة الاتقاد والفتون.

عضوات فرقة سيرة، من اليمين: ميش، نورة، هيا، .Thing
عندما أسس محمد الحجاج فرقته "Sound of Ruby" عام 1996م، لم يكُن أحد يعرف شيئًا عن موسيقى الروك في السعودية. افتتن الحجاج بموسيقى البانك وانطلاقها الحرّ وصراحتها الفجّة، فبنى موسيقاه على نهج فِرَق البانك الأمريكية المفضلة لديه: "Nirvana"، و"Rollins Ban"، و"Pixies"، و"Soundgarde"، و"Melvins"، و"Mudhoney"، و"L7".
وفي ظلّ غياب المنصات الموسيقية، لجأ الحجاج وزملاؤه لعمل ما دأبت عليه فرق البانك، وهو أن يصنعوا منصاتهم بأنفسهم. فحجزوا استراحات على طريق الرياض - الدمام السريع، ودعوا أصدقاءهم، وجهزوا معداتهم، وعزفوا حتى اشتكى الجيران من صخبهم.
وقال الحجاج في مقابلة: "كانت التسعينيات ممتعة، عفوية، مليئة بالمغامرة، وكانت تعبيرًا خالصًا عن طاقة موسيقى البانك وحيويتها. كان جمهورنا من الأصحاب والمعارف يتناقلون مواعيد الحفلات شفاهة، وكنا نصنع كل شيء بأنفسنا، ومع ذلك نجحنا... وتركنا بصمة حقيقية. في ذلك الحين، لم نكُن ندرك أنه سيأتي يوم يتحقّق فيه ما نراه اليوم، كان مجرد حلم.
انضم عازف الغيتار نادر الفصّام إلى فرقة "Sound of Ruby" في عام 2006م، بعد عودته من دراسته في الولايات المتحدة، وقال: إن المشهد الموسيقي السعودي آنذاك كان "يتم في الخفاء".
قال الفصّام: "كانت الموسيقى السعودية تُقدَّم في سرّية تامة، ولم أكن حتى أحلم بفرقة موسيقية أصلية قبل عامي 2002م - 2003م." لكن بمجرد انضمامه لـ"صوت الياقوت"، توقفت الفرقة عن تقديم العروض الحيّة، وصبّت طاقاتها على التسجيلات الموسيقية. عرض الفصّام قبو منزل والديه الكبير، الذي كان مكانًا للتدريب، قائلًا: "كان بإمكاننا أن نعزف فيه بأعلى صوت نريده".
وقال الحجاج: إنه معجب بالانفتاح الحالي للمشهد الموسيقي، لكنه يجده "سرياليًّا بعيدًا عن الواقعية".
وأضاف: "الدعم الذي نتلقّاه من هيئة الموسيقى السعودية وحب الجمهور، حوّل هذا الحلم إلى واقع. المشهد الموسيقي الآن مفتوح ومزدهر ومليء بالفرص، ونحن فخورون بأن نكون جزءًا منه".

أعضاء فرقة صوت الياقوت، من اليمين كمال خياط، محمد الحجاج، نادر الفصام، فارس الشواف.
القارئ لتاريخ الفرق الموسيقية سيجد أنها تتشكَّل بطرق مختلفة. فأعضاء بعض الفرق، مثل "The Smiths" و" Sonic Youth"، و"Nirvana"، كانت بدايتهم لقاءات في متاجر التسجيلات الموسيقية. فيما كانت بداية فرق، مثل "Rolling Stones"، و"Queen"، و"Red Hot Chili Peppers"، كانت عند حضورهم حفلات فرقٍ أخرى.
أما أعضاء فرقة "سيرة" فقد التقوا ببعضهم عبر إنستغرام.
في عام 2020م، شاهدت عازفة الغيتار "هيا" مقطع فيديو للشقيقتين "ميش" و"نورة"، تعزفان الموسيقى معًا. وفي خضم جائحة كوفيد، كانت وسائل التواصل الاجتماعي هي الوسيلة الأساسية للتواصل. أرسلت هيا رسالة لهما تقول: "أريد أن أؤسس فرقة"، وبدأنَ مشاركة فِرقهنّ المفضلة: "Rage Against the Machine"، " Alt1n Gun"، و"Immortal Onion"، و"The Doors". وأخيرًا، التقين في جلسة عزف جماعي.
قالت هيا في مقابلة: "أحضرت ميش نورة معها وعزفنا لساعات، وكأن شيئًا قد انفجر بداخلنا، عزفنا الكثير من الموسيقى، اخترنا بعضها ليكون من بين أغاني الألبوم الأول".
ثم بدأنَ بالبحث عن قارع طبل، فوجدن "Thing" تنظِّم لقاءً للموسيقيين. ("Thing" هو اسمها الفني، وهي ترتدي قناعًا مطرّزًا بشكل جميل أثناء العروض "لتضفي على حضورها شيئًا من الغموض").
قالت نورة: "كان الأمر طبيعيًّا للغاية، ولا أعرف كيف تمكّنت أربع شخصيات مختلفة تمامًا من الانسجام في غرفة واحدة. لدينا جميعًا أذواق مختلفة جدًّا، وهي تتشعّب في اتجاهات أكثر صخبًا وأخرى أكثر كلاسيكية".

حفل لفرقة "أنا.نحن".
ولا شك أن هذا التنوّع هو ما يضفي على صوت الفرقة نكهته الخاصة.
الكلمات التي وُلدت في تلك الليلة كانت أشبه بهذيان محموم، وكما هو الحال في الفرق التي سبقتهم مثل: "Pink Floyd"، و"Bikini Kill"، و"Radiohead"، و"Wilco"، كلهم يواجهون قضايا الصحة النفسية والجنون عبر موسيقاهم. وفي الوقت الذي يكتبون فيه هم عن الظلام، تُقدّم فرقة "سيرة" بصيصًا من الأمل والتمكين.
تغنّي نورة باللغة العربية، أغنية رمزيّة عن لقاء مع امرأة كانت لكلماتها تأثير قوي. كلمات الأغنية بعنوان "رامي السهام"، تشبه إلى حدٍّ كبير ما قد تسمعه من فرقة الروك البريطانية "Led Zepellin"، التي كانت مفرطة في استخدام التعبيرات السايكيديلك (الهلاوسية) وعبارات من الأساطير القديمة.
"منعزلة، أنوح،
حافية القدمين.
صمتي شفائي.
أشفق على نفسي.
أرسم على الجدران
وأنتحب،
ألجأ إلى الجبال.
فإليها أنتمي،
وأستلهم منها قوتي.
لأن أسفارنا،
ليست إلَّا صورًا وراء صور لا تنتهي".
قالت "Thing"، قارعة الطبل: "إن الصحة النفسية تُعدُّ رابطًا قويًّا بين أعضاء فرقة سيرة. وكانت الكتابة عن الصحة النفسية شيئًا طبيعيًّا بعد العزلة والقلق الناتج عن جائحة كورونا، إلّا أنها لم تكُن من المواضيع التي تُكتب عنها الأغاني سابقًا. حتى الآن.
الجميع يواجه صعوبات، وعلينا جميعًا التغلّب عليها. لا نريد تغليف العجز بهالة من الرومانسية، بل نركّز على تجاوز المحن، ونشر الأمل، والجرأة، والشجاعة".
وأضافت هيا: "فكّرنا في أن نبتكر نوعًا من الموسيقى يساعد الآخرين في مواجهة أوقاتهم الصعبة".
“
الحل الوحيد هو الاستمرار في المضي قدمًا، ومواصلة إنتاج الموسيقى، والأمل بأن الجمهور السعودي سيواصل دعم المشهد الموسيقي.
في عام 2025م، شقّت الفرق الموسيقية السعودية طريقها نحو العالمية. بعض الفرق شاركت في مهرجانات موسيقية كبرى في السعودية مثل مهرجان "مدل بيست" في الرياض أمام نجوم عالميين. وقامت فرق أخرى بجولات في الخليج، فيما حُجزت فرقة "سيرة" في جولة أوروبية تشمل عروضًا في الدنمارك، ومالمو، وإدنبرة في شهر يوليو، وهامبورغ، وبرلين في شهر أكتوبر.
يقول فواز السليم، الشريك المؤسس لمقهى "بوهيميا" في الخبر: إن إقبال السعوديين لحضور الحفلات الموسيقية الحيّة لا يُظهر أي بودار للتراجع.
وأضاف السليم: "عندما بدأت الحفلات عام 2018م، لاحظتُ أن الجمهور الذي يحضر العروض هم الأشخاص أنفسهم في كل مرة. كان عشاق الموسيقى التقليدية يحضرون حفلات الميتال، وعشاق الميتال الصاخبة والموسيقى البديلة يحضرون حفلات البوب. لم يكُن نوعُ الموسيقى عاملًا مؤثّرًا بقدر رغبتهم في مشاهدة العروض الحية. لذا، أدركتُ منذ ذلك الحين أننا نحتاج إلى عروض حيّة مستمرة".

فرقة موسيقية تعزف في مقهى بوهيميا بمدينة الخبر
قال شاولي: إنّ هذا الحماس مُرحّب به، لكنه يُخفي مشكلة، فالمشهد الموسيقي السعودي "بعيد كل البعد عن الاستدامة" على حدّ قوله؛ إذ لا توجد أماكن كافية في أنحاء المملكة تُمكّن الموسيقيين من كسب لقمة عيشهم من خلال العزف أمام جمهور حيّ، كما أن عدد من يشتري الأغاني والموسيقى السعودية ليس بالقدر الذي يمكّن الفرق الموسيقية وشركات التسجيلات الموسيقية مثل "Wall of Sound"، من التربّح من مبيعات التسجيلات.
ولكن، كما هو حال الموسيقيين الذين يُديرهم، قال شاولي: إن الحل الوحيد هو الاستمرار في المضي قدمًا، ومواصلة إنتاج الموسيقى، والأمل بأن الجمهور السعودي سيواصل دعم المشهد الموسيقي.
قال شاولي بابتسامة لاذعة: "كل ما يُمكنني قوله: ادعموا فرقكم المحليّة. فالموسيقيون المحليون بحاجة إلى دعمكم. وهذا يعني الاستماع أكثر لموسيقاهم، وحضور عروضهم الحيّة في الأماكن المحلية. اجعلوهم يشعرون بأنهم يُقدّمون شيئًا مهمًّا. يُمكننا نقدهم، فلا بأس من نقد الموسيقى، لكن دعم المشهد الموسيقي الحيّ ضروري للغاية".