Hero image

شنقيط

سبتمبر – أكتوبر | 2025

أغسطس 31, 2025

7 دقائق

شارك

لأن للمكان ذاكرة، يكاد ساكنُ واحة شنقيط يسمع أصواتَ من مرّوا بها ثم راحوا، فالرمل الناعم يحتفظ بخطى العابرين في جوفه وينكبّ عليها مخافة المحو، والنخيل يحني قامته للجفاف، أشبه بشيخٍ مسنٍّ راكع في محراب المعرفة ومنكبٍّ على مخطوط يُخشى عليه صلافة الرياح وعجرفة الرمال. والحجارة الذهبية، التي ترصّف الدروب وتزيّن درجات المنازل وجدران البيوت، توحي بشيءٍ من ملامح إنسان ينتمي إلى بيئته الصحراوية، نجح في الحفاظ على ثقافته العربية، فغدت هويّة متجذّرة تربطه بالمشرق، وإن اختارت له الأقدار موضعًا قصيًّا في الشمال الإفريقي، لكنه انفتح بسبب طرق القوافل والعابرين، فسافر طلّاب العلم من شنقيط وإليها ليغدو كل منهم دليلًا على الآخر.

 

للأمكنة سحنة تنطبعُ على وجوه ساكنيها، وتتفوّق بصيرة المتملّي على نفسها، لتقرأ في "عيون الخيل"، التي هي اسم من أسماء "شنقيط"، معانيَ عدة، ومنها اسم جبلٍ بالقُرب من شنقيط، ومنها القحط ونضوب الماء، ومنها الأواني الخزفية، ومنها صحراء الملثّمين وقد مدحهم الشاعر أبو محمد بن حامد الكاتب، فقال: 
قومٌ لهم شرفُ العلا من حِمْيَر
وإذا انتموا لمتونه فهُمُ هُمُ
لما حووا إحراز كل فضيلة 
غلب الحياءُ عليهم فتلثّموا 

وكذلك يُطلق عليها بلاد التكرور، وموريتانيا، والمنكب البرزخية، كما أورد ذلك الخليل النحوي في كتابه بلاد شنقيط. 

واحة من واحات صحراء شنقيط

الموقع الجغرافي رمزيّة الإرث التاريخي 
تقع مدينة شنقيط في الركن الشمالي الغربي من الصحراء الإفريقية الكبرى، في ولاية آدرار بموريتانيا، وتبعد أكثر من 400 كلم إلى الشرق عن المحيط الأطلسي، وترتفع عن سطح البحر قرابة 500م. وتحدها من الشمال والغرب جبال آدرار، ومن الشرق الصحراء بطول 660 كم من خط الحدود مع دولة مالي. والمكان رحمة، كما يقول ابن عربي، والمكانُ يُشقي ويُسعد كما قال شاعر عربي (خليليَّ إن الأرضَ تُشقِي وتُسعدُ).
 ويذكر المؤرخون أن شنقيط، تأسّست في القرن الثاني الهجري، وحفر عبدالرحمن بن عقبة بن نافع عام 116هـ آبار "أبير"، الاسم القديم لها؛ فكانت محطة رئيسة للقوافل، ومنطلقًا لوفود الحجيج إلى مكة، وبها ومنها ينطلق (الركب الشنقيطي إلى الديار المقدسة).

تضم المدينة المسجد العتيق، الذي بُني عام 660هـ، وجُدِّد بناؤه ليصبح مَعْلمًا معماريًّا يجسد نمط العمارة الإسلامية الصحراوية، ونموذجًا لتراث المدينة الإسلامي المزدهر وإشعاعها الروحي. واكتسبت منارة المسجد الحجرية المربعة رمزية تاريخية، وذاع صيتها كونها سابع مدن الإسلام، وهي مكة والمدينة، وبغداد، والقاهرة، والقيروان، وفاس، ودمشق.


بنيان مُستلهم من وحي المكان

استلهم الشنقيطي نمط العمران، من فنّ التعامل مع بيئته، فوظّف الحجر الأحمر، واعتنى بصقله وتشذيبه؛ ليكون قابلًا للالتصاق بغيره، فترى البناء المحكم اعتمادًا على كتل صخريّة متراصّة ومتساوية في الأحجام والأبعاد. والبناء بالحجارة مُكْلِفٌ ولا يقدر عليه إلا الموسرون، بينما يكتفي غيرهم ببناء بيته بالطين والأخشاب. ويكتسب البيت الشنقيطي مكانته من أريحية أهله وكرمهم مع الضيوف، وبذل ما يملكون لكل وافد إليهم. وكانت شنقيط تتزوَّد بمياه الشرب من العيون المنتشرة فيها، وأهمها العين التي تقع على ضفّة البطحاء غرب الحاضرة. وتُعدُّ بطحاء شنقيط مصبًّا إستراتيجيًّا لمياه الأمطار الجارية من جبل آدرار. ويُوصف الوادي الذي يفصل بين شمال شنقيط وجنوبها بالوادي الأعور، لأن فيضان سيوله، بحسب بعض الدراسات التاريخية، تأتي من جهتيّ الشمال والغرب.
ضبط مواعيد الصلاة بالظلّ 
اعتمد سكان شنقيط على الظل في تحديد مواعيد الصلاة، خصوصًا عند الظهر والعصر؛ ويمكن تحديد وقت صلاة الظهر عندما يكون ظل أي شيء في أدنى موقعه، وكذلك تحديد أوقات الأنشطة اليومية وفق حركة الشمس وظل الأشياء. 
ولا تزال شنقيط القديمة تقاوم عوامل التعرية، محتفظة بهويتها الأولى ومنها المعالم الأثرية، وإن تسبب القحط في نزوح الكثير من سكانها، في ظل ارتفاع درجات الحرارة في الصيف، وانخفاضها في الشتاء، إذ تصل إلى 49 درجة مئوية خلال أشهر يونيو ويوليو وأغسطس، بينما تتراجع إلى ما دون 10 درجات في ديسمبر ويناير وفبراير. كما أن مناخها جاف بحكم ندرة الأمطار طوال العام، إذ لا يتجاوز معدّل الأمطار فيها 8.5 ملم سنويًّا، ما أثقل كاهل المدينة، وهدّدها بالتصحر مرارًا بسبب زحف الرمال. ويحاول من بقي فيها تحسينها بالحفاظ على أنشطة منها زراعة الواحات، إضافة إلى "السياحة الثقافية" التي تجذبها مكتباتها العامرة بالمخطوطات، ومواقعها ذات القيمة التاريخية، والتي يقبل عليها باحثون ومهتمون بالتاريخ.

مجموعة من الرحالة بمركباتهم في فضاء قريب من شنقيط

مخطوطات تحت الأنقاض 
عانت المدن الأثرية في موريتانيا، ومنها شنقيط، من الإهمال والعزلة على الرغم من تصنيفها ضمن مواقع التراث العالمي. وثمة مدن بأكملها على غرار مدينة شنقيط مهدَّدة بالاندثار، بسبب عوامل التعرية وزحف الكثبان الرملية، وضعف الجهود لإنقاذ مدن كانت شاهدة على تاريخ حافل وعصور زاهرة، وأصبحت اليوم في مهب العواصف الرملية. ويؤكد باحثون أن هناك مخطوطات نادرة تهاوت عليها سقوف الأبنية، وطمرتها تحت الأنقاض، وتراكمت فوقها الرمال، ما يستدعي إرسال فرق متخصّصة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
 فاليونسكو سجّلت شنقيط في قائمة التراث العالمي، إذ تجسِّد مجسماتها التعبير المعاصر عن الهوية الموريتانية في بعديها العربي والإسلامي، بوصفها من شواهد الثقافة الصحراوية. واعتمد اقتصاد المدينة تاريخيًّا، إلى حدٍّ كبير، على التجارة عبر الصحراء الكبرى، التي منحتها موقعًا يكثر قاصدوه، وأسهمت في ازدهارها لقرونٍ بفضل بضائع مختلفة أبرزها الذهب والملح. فكانت شنقيط محطة على طريق القوافل، الذي عُرف بـ"الطريق اللمتوني" للتجارة عبر الصحراء في غرب إفريقيا، ويربط بلدان إفريقيا بحواضر المغرب، مرورًا بمدن الصحراء الرئيسة. فكانت حلقة الوصل بين المراكز البشرية على امتداد طرق القوافل، ومنحت المناجم أهمية اقتصادية للمدينة الصحراوية، إضافةً إلى البضائع التي كانت تمر بها مثل التمور، والجلود، والملابس، والإبل. ومن أسباب تراجع مكانتها تضاؤل القوافل التجارية عبر المدن التاريخية في الصحراء، بسبب ندرة الموارد وهجرة السكان إلى الحواضر.


جمّال يعبر بإبله من باديته إلى التجمع الأسبوعي في شنقيط التجارية


المحضرة، مدارس للجنسين خرّجت مليون شاعر!

حضرت المحضرة أو "المحظرة" في الثقافة الموريتانية بوصفها نوعًا من المدارس التي تنتشر بكثرة في البوادي؛ وتضم الكبار والصغار. وربما كانت تسمية المحظرة مشتقة من الحظيرة. ومن اللافت أن كثيرين ممن يدخلونها يحفظون القرآن في ثلاثة أعوام. ويقدم والد الولد أو البنت للشيخ المرابط (المُعلّم) مقابلًا ماليًّا إن توفّر، وإلا فيهبه ناقة أو بقرة أو شاة، لتكون عونًا بحليبها للأستاذ وطلبته.
ويتقن طلبة هذه المدارس الإعراب عن ظهر قلب، ويستظهرون المتون، ولكي يسهل عليهم حفظ المعلومات، فإنهم يتلقّونها بشكل أراجيز تُنظم المعرفة شعرًا في كل فنّ. ولذا، تيسر لهم قول الشعر، وزاد عدد الشعراء، حتى عُرف عن شنقيط أنها بلد المليون شاعر؛ لعشق أبنائها للشعر، وتلذذهم بحفظه وروايته، والاستشهاد به، ما فتح باب المنافسة بين الأقران في حفظه وإلقائه. وتناقلت وسائل الإعلام اللقب، فارتبط اسم البلاد به، عاكسًا مكانة الشعر في شنقيط، وليس أدلّ على ذلك حضور الشعر الموريتاني في العالم العربي.

جانب من أسواق شنقيط الشعبية

ازدهار تجاري وثقافي يسكن ذاكرة الشمال الإفريقي
لن يغيب عن ذاكرة شعوب شمال إفريقيا ما بلغته شنقيط من شأوٍ تجاري وثقافي في القرن السابع عشر الميلادي، وبلغ أوجَه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ما عزّز صورتها الإيجابية في البلاد العربية خلال القرنين الماضيين، بفعل ما حظيَ به العلماء الشناقطة من مكانة، وما تركوه من انطباعات حسنة في المراكز العلمية المشرقية والمغربية التي حلّوا بها. ومن أشهر رجال شنقيط الذين سكنوا الذاكرة، العلامة محمد الأمين الشنقيطي، صاحب كتاب "أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن"، الذي هاجر إلى المملكة العربية السعودية في أواسط القرن العشرين.
كما اشتهرت المدينة بمكتباتها ومخطوطاتها النادرة، ما جعل منها قبلة أفئدة النخبة المولعة بشراء الكتب واقتنائها. ولا تزال مكتبات شنقيط اليوم تحتفظ بشيء من نفيس المخطوطات، ومنها ما هو في مكتبات أهل حبت، وأهل أحمد الشريف، وأهل حامني، وأهل عبدالحميد، وأهل لداعه، وأهل السبتي، وأهل الخرشي، وغيرهم... حيث تبقى شاهدة حية على تراث عريق لا يزال صامدًا في وجه التصحّر والنسيان.

تصوير: محمد عزيز، ومليكة دياجانا