Hero image

الثعالب في بيئة الجزيرة العربية وتراثها

سبتمبر – أكتوبر | 2025

سبتمبر 11, 2025

8 دقائق

شارك

تنتشر في مناطق مختلفة من المملكة العربية السعودية مجموعة متنوّعة من الثدييات اللاحمة التي تلعب أدوارًا مهمةً في دعم صحة النّظم البيئية. هذه الحيوانات تعيش في بيئات مختلفة، تمتد من المرتفعات الجبلية إلى السهول الصحراوية والسواحل، وتشكّل جزءًا رئيسًا من خارطة التنوّع الحيوي في المملكة، مع أنها قد تتوارى عن الأنظار ولا تُشاهد بكثافة بسبب طبيعة نشاطها الليلي وسلوكها الهادئ وموائلها النائية. ولا يقتصر حضورها على دورها في دعم التوازن البيئي، وإنما يمتد إلى الثقافة الشعبية والموروث الحضاري والتاريخي لأبناء المنطقة، فكان لها حضورٌ في الشعر والأدب والقصص والحكايات، وتحوّلت إلى رموزٍ لها معانٍ متعددة.

 

تشير بيانات المسوحات البيئية التي أُجريت في مناطق مختلفة من المملكة (مثل: المرتفعات الجنوبية والسواحل والجزر قبالة الخليج العربي، والسهول الشمالية) إلى الحضور الواسع للواحم على مساحات جغرافية كبيرة فيها. وتؤكّد البيانات على تحدياتٍ عديدة تواجه هذه الأنواع، منها: فقدان موائلها الطبيعية، وقضاء بعض السكان عليها لحماية المواشي، وكذلك ضعف الاهتمام البحثي بوضعها البيئي وأهميتها الحيوية. ومع أنها تتقاسم الموارِدَ والنطاق الجغرافي نفسه تقريبًا مع النمر العربي، لا تحظى الذئاب والثعالب وبنات آوى بالأولوية البحثية ذاتها لدى الأوساط الأكاديمية، ما يعزّز من أهمية الجهود المبذولة لحمايتها، المُمثَّلة بالاستراتيجية الوطنية للحفاظ على التنوّع الحيوي في المملكة.

 

 نظرة عامّة على اللواحم في المملكة
تمتاز المملكة العربية السعودية بمساحات شاسعة ومتنوّعة من موائل بيئية تلبي احتياج العديد من الأنواع الحية، ومن بينها اللواحم. وتشمل هذه الموائل: الصحاري القاحلة، والسلاسل الجبلية المرتفعة، والسهول، والأودية ذات الغطاء النباتي الكثيف. وهي موائل يتوفّر فيها المأوى والموارد الغذائية والأجواء المناسبة لهذه الكائنات، التي تساعدها على التكيّف والتكاثر والعيش.

تضم المملكة أربعة عشر نوعًا من اللواحم تنتمي إلى ست فصائل رئيسة، هي: الكلبيات والسنوريات والضبعيات والعرسيات والغريريات والفيرديات. وثمّة أنواعٌ من هذه الفصائل تجد في أرض المملكة موطنًا لها، مثل: الذئب العربي المنحدر من سلالة الذئاب الرمادية، وأربع سلالات من الثعالب، والضبع العربي المُخطَّط، وابن آوى الذهبي، كما تشمل الوشق والقط الصحراوي والنمر العربي وغيرهما. وأغلب هذه الأنواع تصنَّف ضمن الأنواع المهددة بخطر الانقراض محليًّا وفقًا لبيانات القائمة الحمراء للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN)، مع أن بعضها لا يُصنّف ضمن الأنواع المهددة عالميًّا. ويرجع ذلك إلى ما تواجهه هذه الأنواع محليًا من تهديدات وتحديات.

وللواحم أهميتها في دعم توازن النظم البيئية في المملكة، إذ تساهم في التحكم بأعداد فرائسها كالقوارض والحشرات، مما يعزز منع الأضرار التي يمكن أن تُلحِقها هذه الكائنات بالنباتات والمحاصيل الزراعية. وحضور هذا النوع من الثدييات في المشهد البيئي يعزّز التنوّع الحيوي والنظم البيئية في المملكة. 

الثعلب الرملي. تصوير: سيّاف الشهراني.

الثعالب في المملكة
تنتمي الثعالب في الأصل إلى فصيلة الكلبيات، وفي المملكة تعيش ثلاثة أنواع منها، هي الثعلب الأحمر العربي، والثعلب الرملي أو "ثعلب روبل"، وثعلب بلانفورد . وكل نوعٍ منها يمتاز بخصائص بيئية وسلوكية تساعده على التكيف مع مواطنه الطبيعية.

والثعلب الأحمر العربي هو أكثر أنواع اللواحم انتشارًا في المملكة (وهو مُسجّل في أغلب مناطقها) لقدرته على التأقلم مع أنواعٍ مختلفةٍ من البيئات كالصحاري والجبال والمناطق الساحلية، وقد يصل أحيانًا إلى المناطق السكنية بحثًا عن الغذاء. وإناث هذه الثعالب تلد صغارها في بدايات موسم الربيع. ويعتمد هذا النوع في تغذيته على القوارض الصغيرة والطيور والزواحف، كما يتغذّى على الفواكه والخضراوات أيضًا.

أما الثعلب الرملي فيعيش في الصحاري الرملية والصخرية، ويتوزّع في مناطق مختلفة من المملكة؛ في الربع الخالي، وفي محمية الإمام سعود بن عبدالعزيز الملكية بالقرب من الطائف، وأماكن مختلفة من هضبة نجد كالرياض وخريص ومحمية الوعول غرب محافظة حوطة بني تميم.

وينتشر ثعلب بلانفورد في المناطق الجبلية والصحراوية غرب المملكة، وخصوصًا في الكهوف والشقوق الصخرية في منطقة تبوك. كما سجّلت التقارير وجوده في مرتفعات عسير جنوب المملكة، وتحديدًا النماص وبيشة وبلجرشي، وكذلك في محمية التنوع الحيوي في أبها التابعة لأرامكو السعودية.

 

بنات آوى.. الكائنات الليلية الهادئة
تنتمي بنات آوى إلى فصيلة الكلبيات، وتنقسم إلى ثلاث سلالات رئيسة هي: ابن آوى ذو الظهر الأسود، وابن آوى المخطَّط، وأخيرًا ابن آوى الذهبي، وهو النوع الوحيد من هذه السلالة الذي يوجد خارج قارة إفريقيا، إذ ينتشر في شرق أوروبا ومناطق متفرقة من غرب آسيا ووسطها، ويُعرف أيضًا باسم ابن آوى الآسيوي. تأكل بنات آوى معظم الحيوانات الصغيرة وكل ما يصادفها أثناء تجوالها من أرانب وقوارض وزواحف أو طيور، كما تأكل الجيفة والحشرات الصغيرة وبعض النباتات. وقد عُرِفت في الثقافة الشعبية بمهاجمتها المَزارعَ لأكل الدجاج.
يُعدّ ُابن آوى الذهبي من اللواحم ذات الطبيعة الخجولة والنشاط الليلي، مما يجعل من رصده وتقدير أعداده أمرًا صعبًا.

وقد استخدمت فِرقُ الباحثين من مختلفِ الجهات أساليب متنوعة لدراستها وتوثيق وجودها وحصر أعدادها، منها الجولات الميدانية، وفِخاخ الكاميرات. وقد خلصت هذه الدراسات إلى أنه يوجد في العموم بالقرب من المسطحات المائية. وتؤكّد سجّلات المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية أن ابن آوى الذهبي يوجد في مناطق متفرّقة من المملكة، شرقًا في الجبيل وصفوى ورأس الخير وجزيرة أبو علي، بالإضافة إلى الهفوف وجبل القارة وبالقرب من بحيرة الأصفر. وكذلك سُجل وجوده في دومة الجندل شمال المملكة.

ومع أن بنات آوى تتميّز بالقدرة على التكيّف مع البيئات القاسية، أدّى فقدان موائلها الطبيعية إلى ندرة وجودها وانحسار أعدادها. وللمركز الوطني لحماية الحياة الفطرية جهودٌ لحماية ابن آوى الذهبي في المملكة، مُمثَّلة بإنشاء وحدة رعاية الحياة البرية في الثمامة، حيث توفّر لبنات آوى البيئة المناسبة وتُقدم لها الرعاية الصحية.


جهود وتحديات: اللواحم المهددة بالانقراض 

هناك حالة عامة من تزايد أعداد الكائنات المهددة بخطر الانقراض عالميًا، ويمتد هذا إلى المملكة العربية السعودية، إذ إن %33 من أنواع النباتات والحيوانات في المملكة مُصنّفة رسميًّا أنها مهددة بالانقراض، ويزيد هذا الخطر يومًا بعد آخر.

تشكّل اللواحم المهددة بالانقراض في المملكة تحدّيًا حاسمًا يثير قلق العلماء والجهات المختصة في الحفاظ على الحياة الفطرية. من أبرز هذه الأنواع: النمر العربي، الذي صنّفه الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة ضمن قائمة الحيوانات المهددة بخطر الانقراض الأقصى، نتيجة انخفاض أعداده إلى أقل من 250 نمرًا ناضجًا.
ومن اللواحم المهددة بخطر الانقراض أيضًا الذئب العربي والضبع العربي المخطّط. فرغم توزّعها الجغرافي الواسع في مناطق متعددة من المملكة، تبقى هذه الكائنات تحت الخطر.

رسميًّا، تُبذل الجهود من الجهات المختلفة في المملكة لحماية الأنواع المهددة بالانقراض، مُمثّلة بالمركز الوطني للحياة الفطرية، ووزارة البيئة والمياه والزراعة. ففرضت التشريعات الصارمة التي تجرّم الصيد الجائر، وطوّرت محميات طبيعية صارت ملاذًا لهذه الكائنات. ونظّمت برامج الرعاية وإعادة التأهيل الهادفة إلى إعادة توطين الكائنات المُهدَّدة في مواطنها الأصلية، وقد دعمت كل ذلك بحملات التوعية المجتمعية لتغيير السلوكيات والممارسات المُهدِّدة تجاه الحياة البرية.

وتساهم أرامكو السعودية في جوانب متعددة لحماية الكائنات المُهدَّدة بالانقراض، وذلك عبر مبادرات حماية البيئة، كمحميات التنوع الحيوي في مناطق أعمال الشركة التي يديرها قسم التنوع البيئي التابع لإدارة السياسات البيئية والطاقة الخضراء، إذ أضافت خلال عام 2024م محميات جديدة إلى تلك المحميات، ليصل مجموعها إلى 28 محمية تغطي ما يقارب 1,900 كيلو متر مربع. وقد أحصت الشركة في هذه المحميات ما مجموعه 844 نوعًا من النباتات والحيوانات، منها 46 نوعًا من الثدييات، من بينها الثعلب الأحمر وثعلب بلانفورد. وبعضها مهددٌ بالانقراض، مثل الضَّبعُ العربي المخطَّط والذئب العربي وابن آوى الذهبي.

إن حماية هذه الأنواع تتطلب تضافر الجهود بين الجهات الحكومية، والفاعلين في قطاع البيئة، والمجتمعات المحلية، والمؤسسات الأكاديمية، بالإضافة إلى تبنّي إستراتيجيات علمية قائمة على دراساتٍ دقيقة للبيئة وتنوعها الحيوي، وسلوك هذه الكائنات لتعزيز جهود الحفاظ على التنوّع الحيوي والتراث الطبيعي في المملكة.

الثعلب الرملي. تصوير: إبراهيم الشوامين

اللواحم في تراث إنسان الجزيرة العربية وثقافته
تعد الحيوانات المفترسة من العناصر البارزة في المخيلة العربية منذ العصر الجاهلي، وقد احتلّت مكانة رمزيّة مهمّة عكست رؤية الإنسان العربي للطبيعة من حوله وعلاقته بها. وقد رأت القبائل العربية في بعض هذه الحيوانات تجسيدًا لقيم الشجاعة والقوة والبأس، وفي بعضها تجسيدًا للدهاء والمكر. وتعد الذئاب والضباع والنمور العربية والثعالب من أبرز الحيوانات حضورًا في الثقافة العربية. وأوّل من اهتم برمزية الحيوانات وحضورها في الثقافة العربية بنحوٍ شامل هو إمام الأدب في العصر العباسي، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، صاحب كتاب "الحيوان"، وقد جمع فيه ما وقع تحت يده من شعرٍ وأمثالٍ ومقولاتٍ يردّدها العرب عن الحيوانات.

وتكاد لا تخلو قصيدة عربية في عصر الجاهلية وصدر الإسلامِ وما تلاهما من ذكر الحيوانات، خاصة المفترسة منها. ويصل هذا الحضور إلى حكايات الجدّات، فهو جزء أصيل من الثقافة الشعبية. ومما يمكن الاستشهاد به في هذه السياق، موسوعة المؤرّخ السعودي عبدالكريم الجهيمان "أساطير شعبية من قلب جزيرة العرب"، التي دوّن فيها حكايات إنسان الجزيرة العربية وأمثاله وأساطيره.
يذكر الجهيمان في موسوعته عددًا من القصص التي تلعب فيها الحيوانات المفترسة دور البطولة، وتكمن أهمية هذه القصص أنها تعطي لمحاتٍ عن تصوّر الإنسان العربي لهذه الكائنات، وكيف تبدو صفاتها في مخيّلته. فالثعلب مثلًا كان رمز الشخص عديم المبادئ، متدنّي الأخلاق. مثلًا، في قصة "أبو الحصين والضبعة"، نرى في الثعلب تجسيدًا لكل الصفات السيئة؛ فهو يحاول افتراس أبناء الضبعة بعد خداعهم والاحتيال عليهم بأنه أمهم. واختيار الضباع هنا يأتي بدلالة ضمنية؛ إذ إن الضبعَ عند العرب رمزٌ لسوء الأخلاق، وفي هذه القصة نرى الثعلب وهو يتمادى في سوء الخلق ليَنزل مستواه إلى ما دون مستوى الضباع. وفي سبيل إتمام خدعته يُتعب الثعلب نفسه ويهدر الجهد والوقت، دلالة على أن المكر والخداع عنده غايتان في حدِّ ذاتيهما.

على الجانب الآخر، نقرأ عند ابن المقفع في كتابه الأشهر "كليلة ودمنة" تصويرًا مخالفًا للصورة النمطية التي ارتسمت في مخيّلة الإنسان العربي عن حيوانٍ مفترس آخر، وهو ابن آوى. ففي باب "الأسد والشغبر الناسك وهو ابن آوى" يتحوّل هذا الحيوان، الذي اتخذه العرب رمزًا للخداع والمراوغة والكذب، إلى وزيرٍ أمينٍ للأسد، ملك الغابة. فيحاول الوشاة الإيقاع بابن آوى عبر التشكيك بنزاهته عند الملك. وحينما يُوغَر صدر الملك ويقرر قتل ابن آوى، يكتشف الملك أخيرًا أن ابن آوى هو أكثر حاشيته أمانةً وزهدًا.

هذه القصص وغيرها الكثير من الحكايات تؤكّد أنّ علاقة إنسان الجزيرة العربية بهذه الحيوانات المفترسة تجمع بين الإعجاب والتقدير، والخوف والتوجس والريبة. كما أنها تحوّلت إلى رموزٍ ثقافية في الموروث الشعبي، وحملتها أسماء القبائل والعائلات. هي حركة مستمرّة من التفاعل بين الإنسان والطبيعة المحيطة به وما يعيش فيها من كائنات، تجعل من حماية التنوع الحيوي ضرورة قصوى، ليس فقط لدعم التنوع الحيوي وتوازنه، وإنما كذلك لثقافة الإنسان وإرثه الحي.