
تتجاوز الكاتبة اليابانية الألمانية يوكو تاوادا اللغات الوطنية والتقاليد الأدبية؛ إذ تذيب الحدود اللغوية والجغرافية بخيالها الخصب. فالأديبة التي وُلدت في طوكيو في عام 1960م، انتقلت إلى ألمانيا في عام 1982م، ومنذ ذلك الحين وهي تكتب بين عالمين، واكتسبت، بفضل صوتها الأدبي الفريد، تقديرًا عالميًّا واسعًا.
ما يجعل أدب تاوادا جديرًا بالقراءة والدراسة النقدية، ليس فقط فرادته الأسلوبيّة، بل جرأته في تفكيك المفاهيم السائدة عن الوطن، واللغة، والهُويَّة، في عالم يختنق بسبب النزعات القوميّة؛ ممّا يجعل أعمالها الأدبية دعوة مفتوحة إلى إعادة التفكير في أنفسنا، لا بوصفنا مواطنين فقط، بل بوصفنا كائنات لغوية تتنقل وتتحوّل وتُعيد بناء ذاتها مع كل نصّ جديد.
قراءة أعمال تاوادا تشبه رحلة داخل مناظر متبدّلة، حيث تصبح اللغة هي الطريق والتضاريس في آنٍ واحد. تشجّعنا نصوصها على تجاوز الثنائيّات الصلبة، واكتشاف المساحات الخصبة عند تخوم الحدود التي نخافها. وهذا ما يجعل تصنيف الشكل الأدبي لأعمالها أمرًا صعبًا؛ إذ إنها تمزج بين السريالية والتأمل الفلسفي، وبين النزعة الطفولية الساخرة والنقد السياسي والاجتماعي العميق.

الكاتبة اليابانيّّة الألمانيّّة يوكو تاوادا تحصد جائزة أكوتاغاوا عن روايتها "العريس كان كلبًًا" عام (1993م).
بين نظامين ثقافيّين ولغويّين متباعدين
درست تاوادا الأدب في جامعة واسيدا باليابان، ثمّ حصلت على درجة الدكتوراه في الأدب الألماني من جامعة زوريخ ـ(زيورخ؟). ومع أنها تكتب بلُغتين تنتميان إلى نظامين لغويين وثقافيين متباعدين، حافظت يوكو تاوادا على غزارة لافتة في الإنتاج الأدبي، تنوّعت بين الرواية، والقصة القصيرة، والشعر، والمقالة، والنص المسرحي. بدأت رحلتها الأدبية عام 1987م بمجموعة شعرية ثنائية اللغة (يابانية – ألمانية)، صدرت في ألمانيا بعنوان "فقط حيث تكون، لا يوجد شيء"، التي لفتت الأنظار إلى صوتٍ شعري يتجاوز الجغرافيا. ومنذ ذلك الحين، توالى صدور أعمالها بوتيرة متسارعة، إذ نشرت أكثر من 25 عملًا أدبيًّا ما بين اليابان وألمانيا.
عاداتها في الكتابة
بين الشعر والرواية والمقال
سألناها عن عاداتها في الكتابة وهل تكتب بصفة يومية، فقالت: "أكتب في الصباح، أبدأ بقصيدة، ثم أنتقل إلى النصوص النثرية. وإذا شعرتُ أن لديّ طاقة، أكتب مقالات. القاعدة هي: أبدأ بالنص الأصعب أوّلًا. لكن إن كان النص صعبًا جدًّا ولم أعرف ماذا أكتب، أردّ على رسائل البريد الإلكتروني. بعد الغداء، أقرأ كتبًا لا أحتاج إليها في كتابتي". وأضافت: "عند كتابة عمل أدبي جديد لا أبدأ بخطة مسبقة، بل بأفكار متفرّقة مثل جزر صغيرة تشكّل أرخبيلًا. وعليّ أن أسبح من جزيرة إلى أخرى أثناء الكتابة. وفي النهاية، أرغب في الوصول إلى قارّة، لكن غالبًا ما تسير الأمور بطريقة مختلفة وأجد نفسي على ظهر حوت".
ولا تعدُّ تاوادا أن الأحداث التاريخية والتحولات الثقافية مصدر إلهام بالنسبة لها، خاصة وأنها تكتب في موضوعات اجتماعية مهمة، من دون أن تتوقّع أن تحدث تأثيرًا، وتقول: "أنا أكتب فقط عن المواضيع التي تثير اهتمامي. ما أكتبه عن الهجرة، أو التنوع، أو الهُويَّة الاجتماعية والثقافية لا يساعد في جعل العالم مكانًا أفضل، لكن بالطبع يسعدني أن أتمكن من أن أكون جزءًا من هذا التأثير".
وعن محاولاتها لكسر القوالب الأدبية التقليدية من خلال المزج بين الشعر والنثر، والتأملات الفلسفية داخل الرواية، تقول يوكو تاوادا: "ليس مهمًّا بالنسبة لي ما إذا كان النص مسرحية أو قصيدة. ما يهمني هو الطريقة التي يمكن من خلالها لعدة أصوات أن تدخل في حوار. الرواية بالنسبة إليّ تشبه الخبز، والقصيدة كأنها حجر يُلقى في المياه الراكدة، والمسرحية مثل غابة من الخيزران، والمقال كأنك تشرب صودا".
تلقي الأدب بين اليابان وألمانيا
حول الفروق الجوهرية في طريقة تلقي الأدب أو تقديره في الثقافتين اليابانية والألمانية تقول تاوادا: "يحظى الأدب بتقدير في كلا البلدين. ولكنه في اليابان لا يُدعم من الحكومة أو المدن؛ إذ يُعتقد أن الأدب يستطيع البقاء في ظل الرأسماليّة. أما في ألمانيا، فهناك الكثير من المنح العامة والجوائز، وهو ما يجعل الأدب قيمة في حدّ ذاته، حتى وإن لم يستطِع النجاة اقتصاديًّا. في اليابان، الأدب والمانغا / الأنمي أقرب إلى بعضهما مقارنة بألمانيا، في حين أن الشعر والنثر أبعد عن بعضهما. الناس في اليابان يفضّلون قراءة الكتب الصغيرة، بينما في ألمانيا لا توجد مثل هذه الكتب".
أشهر أعمالها: ديستوبيا ساخرة
حصلت روايتها "المبعوث" الصادرة عام 2014م على الجائزة الوطنية الأمريكية للكتاب فرع الأدب المترجم عام 2018م. والرواية ذاتها مرشحة ضمن القائمة القصيرة لجائزة نيوستادت الدولية للأدب لعام 2026م، وهي جائزة تُمنح كل عامين من قِبل جامعة أوكلاهوما ومجلة "الأدب العالمي اليوم". تأسست الجائزة عام 1970م. وتُعرف هذه الجائزة باسم "نوبل الأمريكية".
و"المبعوث" رواية ديستوبيا ساخرة وحادة تنتقد المجتمع الياباني المعاصر من منظور مستقبلي سريالي. تدور أحداثها في اليابان بعد كارثة عزلتها عن العالم، وتمضي على أثر قصة مومي، الطفل الهش ذي البنية الضعيفة والشعر الرمادي الذي يُعدُّ رمزًا للبراءة والصدمة التي توارثتها الأجيال في اليابان، وجده الأكبر يوشيرو، الذي يزداد قوة مع تقدمه في السن، على نحو متناقض. وتسلط الكاتبة في روايتها الضوء على التباين بين الأجيال، والتدهور البيئي، والعزلة اللغوية والسخرية من شيخوخة السكان في اليابان، وكراهية الأجانب، وهوس النقاء العرقي.
ولم يكُن نضجها الإبداعي بمعزل عن تأثيرات أدبية عميقة؛ إذ تأثرت بكتّاب مثل أوشيدا هياكن، وشيينا رينزو، وإيزومي كيوكا، الذين تركوا أثرًا كبيرًا في تكوينها الأدبي، بينما كان من أبرز الكتّاب الألمان المؤثرين بها: هاينريش فون كلايست، وإي. تي. إيه. هوفمان، وهاينر مولر.
"الترجمة تحوّل العزف المنفرد إلى أوركسترا"
تُرجمت أعمال يوكو تاوادا إلى ما يقرب من ثلاثين لغة، من بينها الإسبانية والإيطالية والفرنسية والنرويجية والتركية والتايلاندية والصينية، إلّا أنّ أعمالها لم تحظَ بترجمة عربية حتى الآن. وحول أهمية الترجمة الأدبية وشعورها عندما عرفت لأوّل مرة أن كتابًا لها سيُترجم، تقول: "لا أتذكر تمامًا كيف كانت المرة الأولى التي تُرجم فيها نصٌّ لي. أظن أن الهاتف رنّ، وكان المترجم يريد أن يسألني بعض الأسئلة. تفاجأت. اليوم، أعتقد أنه من الطبيعي أن يثير النص الكثير من الأسئلة، خصوصًا في أثناء الترجمة. الترجمة إلى لغات أخرى مهمّة جدًّا بالنسبة إليّ. النص الأصلي مثل العزف المنفرد، أما الترجمات فتُحوّل هذا النص إلى عزف أوركسترا. التعدد الصوتي في الرواية لا يصبح مسموعًا إلَّا من خلال الترجمة".
تُوِّجت مسيرة يوكو تاوادا الأدبية بجوائز مرموقة مثل جائزة أكوتاغاوا، وهي واحدة من أهم الجوائز الأدبية باليابان، عن روايتها "العريس كان كلبًا" عام 1993م، ووسام الشريط الأرجواني عام 2020م، الذي يمنحه الإمبراطور الياباني للشخصيات التي قدّمت إنجازات متميزة في مجالات الثقافة والفن، وجائزة شاميسو عام 1996م، وميدالية غوته عام 2005م، التي تُمنح للمبدعين الذين يسهمون في تعزيز العلاقات الثقافية الدولية، وجائزة الأكاديميّة اليابانيّة للفنون عام 2024م.
وحول تأثير هذه الجوائز فيها بوصفها كاتبة، تقول: "كل جائزة أدبية يقرّرها أفراد، لجنة قرأت كتبي. وكل عضو من أعضائها يقرأ النص نفسه ولكن بطريقة مختلفة. ولهذا السبب، فإن الفوز بجائزة أدبية مجرد مصادفة. لكنني ممتنة جدًّا لهذه المصادفات. وقبل كل شيء، ممتنة لأولئك الأفراد الذين استمتعوا بقراءة كتبي". وأضافت: "كل جائزة كانت مفاجأة كبيرة بالنسبة إليّ. عندما أكتب رواية، لا يمكنني أبدًا أن أتوقّع لأي جائزة قد تُرشّح. فوز الكتاب بجائزة ليس أمرًا مهمًّا بالنسبة إليّ. حلمي الأكبر أن تُقرأ أعمالي لمائتي سنة. ومع ذلك من الصعب أن يتحقّق هذا الحلم".
ختامًا، يمكن القول: إن تجربة الكاتبة اليابانية الألمانية يوكو تاوادا الأدبية تمنح الأدب أفقًا جديدًا في زمن أصبح سؤال اللغة والثقافة والانتماء للمكان أفقًا يحتفي بالتحوّل. كاتبة تكتب وتتحدّث بلغتين، وتفكّر بينهما. وفي كل عمل أدبي، تُعيد تشكيل العالم، كما يجب أن يُروى. فتترك لنا أثرًا إنسانيًّا عميقًا، يذكِّرنا بأن الحدود التي نقيمها بين اللغات والهُويَّات، هي أضعف ممَّا نظن.
