
فصاحب المقولة الناقد المجري، جورج لوكاش، يشدّد في كتابه "نظرية الرواية" على أن المدينة ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هي روح تنبض بتفاعلات الحياة الجديدة وتؤثّر في الشخصيات وتشكّل مساراتها. وفنُّ الرواية هو استجابة لمُضي الحياة نحو تعقيداتها الجديدة ببروز الثورات الصناعية والإحساس بفقدان الجذور الذي تعيشه الشخصيات الروائية. ولكن، هل كل رواية تحمل بصمة المدينة، أم أنّ هناك أعمالًا أدبية تتفتّح في أحضان الريف والقرية أو الصحراء، وتحمل أيضًا جمالياتها الخاصة؟ وكيف تتشكّل تطورات الشخصية وأزماتها في ضوء بيئتها؟ ولماذا تُعَدُّ المدينة بيئة أكثر امتحانًا لأعماق الشخصيات السردية ومكنوناتها؟
“
منذ بواكير الكتابة الروائية الحديثة حتى اليوم، استطاعت الرواية السعودية أن تبرز بوصفها أداة قوية للتعبير عن البيئة والهوية.
وفيما يلي اختبار لتفاصيل فكرة "الرواية ابنة المدينة" من خلال خمس روايات سعودية ناضجة فنيًّا، صدرت في العقود الثلاثة الأخيرة؛ لأنها كانت فترة البداية الفعلية للنص الروائي في السعودية، واستكشاف أبعادها المختلفة وشخصياتها وعلاقتها بمحيطها، مع الحرص على عدم حرق أحداثها لمن لم يطّلع عليها بعدُ.
حفرة إلى السماء
نبدأ رحلة البحث عن هذا المعنى في أحدث الروايات الخمس المختارة، وهي "حفرة إلى السماء" لعبدالله العياف، الصادرة عام 2020م.
كُتبت هذه الرواية عن قريةٍ بروحٍ ورؤيةٍ مدنية متجدّدة؛ إذ لم يكُن الكاتب يتباكى على طيبة القرية وبساطتها، بل نسج أزمة شخصياته بعمق، واستطاع إظهار وعيها ولا وعيها عبر السرد وحده. وعكست الرواية الأزمات والتحديات التي تواجهها الشخصيات في القرية؛ إذ تبرز "تيماء"، المرأة القروية القوية التي تتمتّع بصلابة نادرة. أمَّا "عيسى"، فقد مثَّل شخصية جميلة، رغم المسافة بينه وبين بقية أبناء القرية، مثلما كان "ظافر"، الذي جاء إلى القرية بشكل مغاير، مبشّرًا بالعلم والتنوير. وتنقل الرواية بين هذه الشخصيات حكايات متشابكة، وهو ما يجعلها تجربة سردية ثرية.
تتحدث الرواية عن "خبر موت القرية"، وليس عن إنذار أو تبشير بهذا الموت، بل عن حقيقة أن القرية لم تعُد مكانًا يعجُّ بالبساطة والعفوية، بل غدت أيضًا منبعًا للخرافات والأساطير، ولم تعُد تشعر بالعزلة عن العالم في فضاء تواصلي لانهائي. واستطاع عبدالله العياف أن يقدم رؤيته بإقناع فني وسرد يملؤه الحدث، وإبراز تأثير المكان في شخصيات النص. كانت القرية في الرواية بمنزلة مرآة تعكس انفعالات الشخصيات، وهو ما يعزّز فكرة أن الرواية يمكن أن تكون ابنة البيئة التي تنشأ فيها ما دامت الشخصيات تشعر بالعزلة حتى في مكانها الصغير.
مدن تأكل العشب
لنعُد بالزمن إلى رواية "مدن تأكل العشب" لعبده خال، الصادرة عام 1998م. تختبر هذه الرواية مجدَّدًا تساؤلات حول مفهوم "الرواية ابنة المدينة"؛ فلطالما اعتقد بعض الروائيين أن الكتابة عن القرية تُعَدُّ خطيئة، وأنها ليست المكان المناسب للرواية. لكن جوهر المقولة هنا ليس في عدم الكتابة عن القرية، بل في النظرة المحدودة للأمور المرتبطة بالقرية والشخصيات القادمة منها لمحدودية الخيارات، وذلك بعكس المدينة التي توسّع أفق شخصياتها بسبب تعدد الخيارات. فالرواية تعتمد أساسًا على تحولات الشخصية الرئيسة، وكيف تتكيّف مع المتغيرات حولها وتواجه العقبات التي تعترض هدفها.
وبالطبع، فإن أفق العقبات في المدينة يتجاوز ما قد يواجه هذه الشخصية في القرية. في "مدن تأكل العشب"، يواجه بطل الرواية "يحيى الغريب" العقبات في اللحظة التي فارق القرية. فهذا الصبي القادم من بساطة القرية إلى وحشة المدينة، بحسب رؤية الكاتب، كان مُحمَّلًا بالحلم والأمل معًا، وكأن الفردوس في الجهة الأخرى بعيد عن القرية. لكن رؤية عبده خال تُظهر بواكير إشاراتها بدءًا من العنوان "مدن تأكل العشب". إذ صدمت "يحيى الغريب" الأحداث والتغيّرات، منطلقًا من صباه في الريف حتى اشتداد عُوده في المدينة تحت وطأة الغربة والابتعاد عن أحضان عائلته. إنها رواية تنتصر للريف على المدينة، لكن محرك أحداثها الأساس نشأ على ديناميكية المدينة. يُعذّب عبده خال بطل الرواية "يحيى الغريب" من صفحتها الأولى حتى الأخيرة، إلى أن يفقده هويته، فلا يتعرّف إلى أهله وناسه، ويصبح مثل الطريد بفعل اغترابه في وحشة المدينة.

بالنسبة إلى شخصيات المدينة، فإن رواية "شارع العطايف" للروائي عبدالله بن بخيت، الصادرة عام 2009م، تُظهر حالة أخرى: "ناصر"، و"شنغافة"، و"سعندي". ويمثّل العطايف أحد أهم شوارع الرياض في سبعينيات القرن الماضي.
استطاع الروائي أن ينقل مشاغبي شارع العطايف إلى مرتبة الخلود الأدبي؛ إذ تجسّد شغفهم بالكرة والفن والحب، إلى جانب انحرافهم نحو الممنوعات والمحرّمات، وسط هذا المجتمع الصارم في تقاليده وأعرافه، وكيف انتهت رحلاتهم في العطايف نحو الفناء والجريمة والقتل. تُعَدُّ هذه الرواية مثالًا حيًّا على أن الرواية يمكن أن تكون ابنة المدينة، وأن تعكس تعدّد الخيارات في المدينة ونسيجها الاجتماعي المتنوّع، وكيف يُغيّر واقع الحياة فيها.
"البحريات".. المدينة في الخلفية
في رواية "البحريات" للروائية أميمة الخميس، الصادرة عام 2006م، نجد شكلًا فنيًّا آخر وجانبًا مغايرًا عن مدينة "ابن بخيت". فمن خلال بهيجة القادمة من الشمال نحو وسط الصحراء، وابنة الصحراء موضي، تستكشف الرواية الجانب النسوي داخل المنازل، والتحديات التي تواجه النساء في مجتمع تقليدي. وتعكس هذه الرواية كيف يمكن للمدينة أن تكون خلفية للأحداث، بينما تظل الشخصيات النسائية محورية في سرد القصة، وهو ما يعكس الأبعاد المختلفة للرواية وعلاقتها بمحيطها. وهناك تساؤلات عديدة تطرحها الشخصيات المدنية في "البحريات" عن قدرة المرأة على الصمود تحت واقع صارم، وكيف تتشكّل الروح المُتعَبة من أعباء الغربة، لينتهي بها المطاف إلى إعادة إنتاج ذاتها وفقًا لتقاليد المكان وأعرافه.
أطياف الأزقة المهجورة
النموذج الأخير من الروايات هنا هو رواية "أطياف الأزقة المهجورة"، الصادرة عام 1995م، وهي ثلاثية من تأليف تركي الحمد. تُعَدُّ هذه الثلاثية من الأعمال الأدبية البارزة في الأدب السعودي الحديث، وهي من الأعمال التي اختلف النقَّاد والقرَّاء عليها من الناحية الفنية. لكن، من غير الممكن الحديث عن التجربة السردية السعودية دون الإشارة إليها.
تتألف هذه الرواية من ثلاثة أجزاء هي: "العدامة"، و"الشميسي"، و"الكراديب". وتسرد تكوّن شخصية الشاب "هشام العابر" الذي عاش في تلك البيئة المدنية وتفاعل مع أحداثها، وقضاياها الاجتماعية والسياسية والدينية. كانت الخلفية السردية للرواية هي تشكلات المدينة في السعودية، وسلَّطت الضوء على التغيّرات والتحوّلات التي شهدها المجتمع في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، وهو ما أثار الجدل فنيًّا؛ لأن الرصد السردي كان مشغولًا أكثر بما يحيط الشخصيات، مثل الهوية والانتماء والتحول الاجتماعي، بدلًا من البركان الداخلي في هذه الشخصيات.
“
الرواية قادرة على تجاوز الحدود الجغرافية والثقافية لتصل إلى جوهر التجربة البشرية ولتفتح رموز السلوك الإنساني.

يقول الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا: "إن الرواية الجيّدة قادرة على الصمود مع الانفصال عن الواقع". ولهذا، اخترع كثير من الروائيين مدنًا وقرًى لا وجود لها على الخريطة، مثل "ماكوندو" ماركيز، بغية الانفصال عن المكان والزمان والتركيز على ثراء التجربة البشرية.
في نهاية المطاف، تبقى الرواية فنًّا ينبض بالحياة، وتكشف عن طبقات الشخصية الإنسانية العصية حتى هذه اللحظة على الفهم الكامل. وهي قادرة على تجاوز الحدود الجغرافية والثقافية لتصل إلى جوهر التجربة البشرية ولتفتح رموز السلوك الإنساني، سواء أكانت الأحداث تدور في أزقَّة مدينة صاخبة أم في أرجاء قرية هادئة، على رمال صحراء قاحلة أو قرب ساحل هادئ. لكن ما يجعل الرواية مغايرة، وعلى قدرٍ عالٍ من الدهشة، هو قدرتها على لمس القلوب والعقول، وعلى التفاعل مع وجدانية الإنسان، وهي نافذة لاستكشاف عوالم جديدة، تفضي إلى فهمٍ أعمق لتنوع الذات الإنسانية وفرادتها.