Hero image

النقل العام في الحواضر الكبرى

نوفمبر – ديسمبر | 2024

نوفمبر 13, 2024

شارك

تبدَّلت الدوافع الكامنة وراء تطوير النقل العام عبر تاريخه. والمفارقة أن الدافع إلى ولادته يكاد يكون عكس الدوافع العديدة لتطويره اليوم. فمن المدهش أن المؤسس الأول للنقل المشترك هو الفيلسوف الفرنسي باسكال في ستينيات القرن السابع عشر، الذي حصل من الملك لويس الرابع عشر على رخصة لتأسيس شركة من عربات الخيل ذات خمسة مقاعد؛ لتشغيلها على خمسة خطوط في مدينة باريس. وكانت انطلاقتها في عام 1662م. أمَّا الدافع، فكان قلة وسائل النقل المتوفرة للطبقة الوسطى في مدينة باريس. صحيح أن الشركة لم تعمل إلا سنوات معدودة، ولكنها كانت بداية مفهوم جديد للنقل لم يتوقف منذ ذلك الحين عن التطوّر لمواكبة متغيرات الحياة الحضرية واحتياجاتها، وبدأت صورته الجديدة تتكوَّن منذ النصف الثاني في القرن التاسع عشر؛ ليرسو اليوم على وسائل عديدة أبرزها وأضخمها عالميًا على صعيد الجدوى: القطارات والحافلات الحضرية.

النقل العام في الحواضر الكبرى مستمر في التطوُّر بالاستفادة من دروس وعِبر تجمَّعت على مدى قرن ونصف تقريبًا.

سبق القطار الحضري ظهور السيارة، وكان ذلك في لندن عام 1863م، وكانت الغاية الأساس منه توفير وسيلة نقل موثوقة في مواعيدها وزهيدة التكلفة لآلاف العمال الذين كانت أعدادهم تتزايد باستمرار منذ بداية الثورة الصناعية في القرن السابق. وأثبت ذلك القطار الحضري الأول نجاحًا هائلًا؛ إذ نقل 38 ألف شخص في اليوم الأول من تدشينه. فكان ذلك إيذانًا ببداية عصر جديد في عالم النقل، ومستقبل لا مفرَّ منه لأي حاضرة كبيرة. وبالفعل حمل القرن التالي مجموعة من التحديات الإضافية، عندما راحت المدن الكبرى تتضخم أكثر فأكثر وتختنق بالسيارات، مع ما يستتبع ذلك من نتائج سلبية على صُعُد جودة الحياة والبيئة والاقتصاد. 

تآكل حسنات السيارة الشخصية

تُحقِّق السيارة الخاصة لمستخدمها السيطرة على الوقت وحرية الانتقال في أي توقيت يشاء، إضافة إلى الرفاهية المتمثلة في التمتع بالخصوصية، وبالنسبة إلى البعض هي وجاهة لعدم الاختلاط مع مستويات مختلفة من الناس. لكن الإفراط في الاعتماد على هذه الوسيلة أصاب الشوارع بالشلل، ومن ثَمَّ، بدد معظم مميزات السيارة؛ وأولها التحكم في السرعة. فإذا كان وقت الانطلاق بالرحلة في اليد، فإن وقت الوصول إلى المكان المقصود لم يعد كذلك. والأمر يعني مشكلة خطيرة بالنسبة إلى شرائح كبيرة من المجتمع تحتاج إلى الوصول إلى مقاصدها في مواعيد دقيقة مثل طلاب المدارس والموظفين والعمال وغيرهم من المتنقلين يوميًا وفق مواعيد ثابتة. وهكذا، فإن كل ما يتبقى لراكب السيارة هو الحفاظ على خصوصيته في سيارة لا تتحرك. وهذا واقع ملموس يعانيه كثير من مدن العالم الثالث التي أهملت الإنفاق على مشاريع النقل العام.

تبدَّد حلم الانتقال السريع، وتبدَّدت معه حرية الانتقال. إذ صار الإنسان يفكر أكثر من مرة قبل أن يُغامر بالخروج من بيته، وأول ما يستغني عنه بالطبع هو الأشياء التي تُعدُّ رفاهية كالتنزه وحضور الفعاليات الثقافية المنعقدة في أماكن بعيدة عنه. وهنا يمكن للنقل العام أن يطلَّ برأسه ليقترح نفسه بديلًا عن السيارة إن كان يضمن الوصول السريع إلى المقاصد. ففي مدن مثل لندن وطوكيو ونيويورك، يشكِّل القطار الحضري (المترو) جزءًا لا يتجزأ من حياة السكان اليومية. شبكة المترو الواسعة في طوكيو، التي يبلغ متوسط ما تنقله من ركاب بشكل يومي حوالي 8 ملايين راكب، تُسهم في تسهيل الوصول إلى مختلف أنحاء المدينة بطريقة موثوقة وسريعة. وفي هذا المجال، لم يعد الحل اختياريًا في بعض الأماكن والمدن، بل فرضته فرضًا السلطات الرسمية، بمنع وصول السيارات إلى أحياء صارت مخصَّصة للمشاة. وفي مشاريع تطوير النقل العام القائمة حاليًا في بعض العواصم، كما هو الحال في باريس، هناك خطط لزيادة الأحياء المخصصة للمشاة التي يُمكن الوصول إليها عبر قطارات الأنفاق. وفي أوسلو أيضًا، يوجد اليوم مشروع يهدف إلى تخصيص مزيد من الأحياء للمشاة والدراجات الهوائية واعتماد النقل العام للوصول إليها.

والواقع، أن ذيول الاختناقات المرورية لا تقتصر على إطالة مدة الرحلة وانزعاج الراكب، بل بلغت من الخطورة في بعض الحواضر الكبرى ما يُحسب حسابه على قيمة ساعات العمل المُهدرة على الطرقات، وهذا أمر يُودي بنا إلى الأبعاد الاقتصادية للنقل العام.

من اقتصاد الأسرة إلى الاقتصادات الوطنية

د. عبدالعزيز بن أحمد الحنش وَ فريق القافلة

 

 

هناك كثير من الأسباب الاقتصادية التي تجعل الإنفاق على قطاع النقل العام ضرورة حيوية، أولها وأكثرها مباشرة تقليل تـكلفة الانتقال على الفرد، وتوجيه ما ينفقه على السيارة الخاصة من صيانة ووقود وتأمين وخلافه إلى بنود أكثر فائدة، خصوصًا لدى الأسر محدودة الدخل والخيارات.

وبالنسبة إلى الاقتصاد الوطني، تُسهم شركات النقل العام وهيئاته في توفير فرص عمل لكثير من الوظائف الضرورية لتشغيلها. فقطاع النقل العام في باريس، على سبيل المثال، كان في العام الماضي يضم 63 ألف موظف. لكن الإسهام الأكبر للنقل العام يتمثَّل في تسهيل وصول السكان إلى فرص عمل تقع على مسافات بعيدة عن أماكن إقامتهم، وتعزِّز فكرة الاستدامة في التنمية والاستثمار. إذ إن النقل السريع والموثوق بمواعيده يُنعش اقتصاد المدينة، وذلك بتمكين العاملين والمستهلكين من الانتقال بسهولة إلى أماكن العمل والتسوُّق المختلفة. وهذا ما يعزِّز القدرة التنافسية والتطوير المستمر للأعمال، ويحقق التوازن في التنمية، من خلال المساعدة على تحقيق التوزيع الجيد للسكان، بكل ما يتضمنه من تنمية اجتماعية وحياة حضرية متناغمة في أرجاء الحاضرة.

إقناع الناس بفوائد النقل العام

ليس من السهل تغيير العادات والمفاهيم الاجتماعية والثقافية بسهولة، وخاصة في المجتمعات التي تُعلي من شأن الخصوصية وتعتز بالتراتبية الاجتماعية. لذلك يصعب على البعض تغيير سلوكه والاستغناء عن ميّزات استخدامه لسيارته، خصوصًا إذا فكَّر بطريقة فردية وعدَّ أن سيارته ليست الوحيدة المسؤولة عن ازدحام حركة السير والتلوث، وعدَّ نفسه غير مسؤول عن حل مشكلة عامة. لهذا، يجب أن يكون الإنفاق على النقل العام مصحوبًا بحملات توعية عبر وسائل الإعلام وغيرها، واتخاذ تدابير تُحفّز على الإقبال على استخدام وسائل النقل العامة.

ففي دراسة نشرها موقع “المعاهد الصحية الأمريكية” حول معوقات استخدام النقل العام في منطقة كالياري عاصمة سردينيا الإيطالية، تبيَّن أن العامل الاقتصادي ليس الدافع الوحيد لاستخدام النقل العام. إذ أجرى الباحثون مطابقة لأربع مجموعات من المستخدميـن وفقًا لنقطة انطلاقهم بالسيارة وبالنقل العام، ودُعيت المجموعات إلى نقاش مفتوح، حيث كشفوا عن عوامل كثيرة تؤثر في اختيار وسيلة النقل، من بينها المفاهيم الاجتماعية، وتصميم مواقف ومحطات النقل العام، وانضباط المواعيد، وتوفير وسائل الرفاهية مثل: النظافة وتـكييف الهواء و”الواي فاي”.

وهناك كذلك فئة الذين يعانون رهاب الزحام أو الخوف من الضوضاء، أو يخشون المعاملة السيئة من العاملين في النقل العـام من السائقين ومديري الحركة في مواقف الحافلات. ففي بحث أجرته “مؤسسة الصحة النفسية البريطانية” استطلع آراء أشخاص من تلك الفئة، وتحدثوا عن إحساسهم بالخوف من الوجود في وسط الزحام، وشكَوا سوء المعاملة وضيق الحيِّز المكاني المتاح لهم. وهذه الفئة بحاجة إلى الدعم النفسي، واللجوء إلى إستراتيجيات لتقليل هذه العيوب، منها استخدام السماعات في الأذنين، ووضع النظارات الشمسية لتقليل التواصل مع الآخرين. وبالقدر نفسه، هناك ضرورة للرقابة على مقدمي الخدمة وضمان حسن تصرفهم.

وفي حالة تمتع وسائل النقل بدرجة مناسبة من الرفاهية والخدمات العصرية مثل شبكة الإنترنت، فإنها توفر الملايين من ساعات العمل لبعض المهنيين والطلاب بتمكينهم من استغلال وقت الانتقال في العمل بدلًا من قيادة السيارة.

إضافة إلى ذلك، يُسهم تطوير البنية التحتية للنقل العام في زيادة قيمة العقارات القريبة من المحطات، وهو ما يحفز الاستثمارات العقارية ويزيد النشاط الاقتصادي في تلك المناطق. ففي لندن، على سبيل المثال، نجد أن العقارات القريبة من محطات المترو تُسجِّل ارتفاعات مستمرة في قيمتها؛ نتيجة لتحسين الوصولية والطلب المتزايد على تلك المناطق. وهذا ما أدى إلى تطوير مشاريع تجارية وسكنية جديدة حول المحطات أسهمت في تعزيز الاقتصاد المحلي.

غير أن كل هذه المكاسب الاقتصادية للنقل العام في كِفَّة، والفوائد البيئية الضخمة في كِفَّة أخرى؛ لمساهمتها الكبيرة في تحقيق جودة الحياة، التي تعود فتترجم إلى اقتصاد إذا حسبنا ما توفره الدولة من كلفة شراء الوقود والإنفاق على القطاع الطبي وغيره من جراء التلوث.

على المستوى البيئي

تشير دراسة نشرها موقع “هيئة النقل العام” في كنساس سيتي إلى أن %85 من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري تأتي من قطاع النقل. وهذا يعني ببساطة أن تركيز الجهود في تخفيض انبعاثات النقل يفوق في قيمته كل جهود التوفير في الاستهلاك المنزلي للطاقة، مثل: استخدام الأجهزة والمصابيح الموفّرة للطاقة، وضبط منظمات الحرارة تبريدًا وتدفئة.

ويُحقِّق التوسع في استخدام النقل العام في مقابل السيارة الخاصة هذا الهدف البيئي؛ إذ تؤكد دراسة نُشرت في موقع “جامعة كاليفورنيا” أن السيارة تطلق رطلًا من الانبعاثات في كل ميل تقطعه. وهكذا، فإن استخدام شخص واحد لوسيلة نقل عامة بدلًا من سيارته لمسافة عشرين ميلًا في اليوم، يوفر عشرة كيلوغرامات من الانبعاثات يوميًا؛ أي نحو طنين ونصف في السنة، باعتبار أن هناك أيامًا لا يُتنقل فيها مثل هذه المسافات. وهذا يعني تخفيض %10 من انبعاثات الغازات التي تنتجها أسرة من شخصين بالغين.  

تآكلت حسنات الانتقال بالسيارة الشخصية بفعل الاختناقات المرورية المتعاظمة في المدن، ولكن الإقناع بحسنات النقل العام يحتاج إلى جهد وتوعية.

واستنادًا إلى دراسة موقع “هيئة النقل العام”، توفِّر وسائل النقل العام في الولايات المتحدة الأمريكية 37 مليون طن متري من ثاني أكسيد الكربون سنويًا؛ أي ما يعادل الانبعاثات الناتجة عن توليد الكهرباء لاستخدام 4.9 ملايين أسرة. وتشير الدراسة نفسها إلى أن استخدام النقل العام في الولايات المتحدة الأمريكية يوفِّر ما يعادل 4.2 مليارات جالون من البنزين سنويًا. كما أن تقليل عدد السيــارات الخاصة يعني طرقًا أقل، وتلويثًا أقل للهواء، وضوضاء أقل.

بتقليل الانبعاثات تتحسَّن جودة الهواء، ويستتبع ذلك عدد من الفوائد الصحية، منها انخفاض حالات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي والسرطان، بالإضافة إلى أن جودة الهواء تشجع الناس على الخروج وممارسة الرياضة بكل ما يعنيه ذلك من تحسين للصحة البدنية والنفسية للأفراد؛ إذ يبعدهم استخدام النقل العام عن مخاطر العزلة. وكل هذه الفوائد الصحية لا تُقدَّر بثمن بالنسبة إلى حياة الأفراد، لكنها تُترجم اقتصاديًا أيضًا باحتساب ما يوفِّره ذلك من الإنفاق على قطاع الصحة.

بعض شروط نجاحه وعوامل إفشاله

على الرغم من كل هذه الحسنات التي يتمتع بها النقل العام الحضري من حيث المبدأ، فإن نجاحه ليس مضمونًا؛ لأنه في بعض الأحيان لا يحقِّق النتائج التي كانت متوخاة منه. وحتى في الحواضر حيث يعمل النقل العام بشكل جيد، هناك بعض خطوطه المخيِّبة للتوقعات. ولكن، وبوجه عام، تستفيد شبكات النقل العام المُنشأة حديثًا من الدروس والعِبر المُستقاة من تجارب الآخرين على مدى قرن ونصف من الزمن، إضافة إلى استفــادتها من التقدُّم التكنولوجي الحاصل والمستمر في هذا القطاع. ومن أبرز الشروط العديدة التي يجب أن يستوفيها النقل العام كي يستحوذ على ثقة مستخدميه، نذكر:

• تصميم الشبكة وفق دراسة مُعمَّقة للكتل الحيوية في الحاضرة وحركتها اليومية، ليس فقط خلال المدة الزمنية التي يجري فيها تخطيط الشبكة وتنفيذها، بل يجب الأخذ بعين الاعتبار أيضًا ما ستكون عليه هذه الحركة اليومية خلال المستقبل المنظور؛ لأن كل الحواضر الكبرى في العالم تشهد زيادات سكانية متواصلة، وإن تفاوتت نسبها بين هنا وهناك.

• الوصولية، وتوفير الخدمة لأكبر عدد ممكن من السكان. ولذا، نرى أن معظم شبكات النقل العام في العالم، تُضيف إلى القطارات شبكة من الحافلات تتقاطع معها، لتأمين ما يُعرف باسم “الميل الأول والميل الأخير” لمن هو بعيد نسبيًا عن محطات القطار.

• موثوقية أداء الشبكة على مستويين اثنين: مستوى مواعيد الحركة التي يجب أن تكون ثابتة وهي نفسها كل يوم، ومستوى الأمان. وبوجه عام، يمكن القول إن معظم وسائل النقل العام صارت تُلبي هذين الشرطين، أقله أفضل مما تُلبِّيهما السيارة.

• الإدارة الساهرة باستمرار على جودة الخدمة، مثل الصيانة وضبط أعداد الركَّاب في ساعات الذروة، وإصلاح ما قد يفسد في وسيلة النقل. فوسائل النقل العام تترهل بسرعة، وقد يتدنى مستوى نظافتها وحسن هيئتها، وهو ما قد يدفع القادر إلى الاستغناء عنها.

بتنفيذ “مشروع الملك عبدالعزيز للنقل العام في الرياض” تنضم العاصمة السعودية إلى الحواضر العالمية الكبرى التي تُقدِّم هذه الخدمة الكبيرة لسكانها.

• تسهيل الحصول على التذاكر بالطرق الآلية.

• يجب أن يكون الفارق بين ثمن التذكرة وكلفة الانتقال بالسيارة كبيرًا بما يكفي؛ لإغراء الطبقة الوسطى باستخدام النقل المشترك.

• إيلاء محطات النقل العام الاهتمام اللازم، بحيث توفر لمنتظر الحافلة أو القطار ما قد يحتاج إليه، مثل: الوقاية من العوامل الجوية، والمقاعد، والإشعار بموعد اقتراب وصول وسيلة النقل إذا أمكن. وكلما وفّرت المحطات مزيدًا من الخدمات في داخلها، أو أُقيمت في جوار مركز خدمي كبير، رغَّبت المتنقلين في استخدامها.

كل هذه الشروط صارت اليوم من البديهيات، وما من مشروع للنقل العام في العالم إلا ويأخذها بعين الاعتبار، ويزيد عليها. فماذا عن مشروع النقل العام في الرياض؟

النقل العام في الرياض من حال إلى حال

بيتر هاريغان

 

 

حتى السنوات الأخيرة من القرن الماضي، كان الاعتقاد أن الطرق الرئيسة التي خططتها، بدءًا من أواسط السبعينيات، هيئة تطوير مدينة الرياض (الهيئة الملكية لمدينة الرياض حاليًا) ستكون كافية لاستيعاب حركة النقل في العاصمة السعودية. ولكن نمو الرياض فاق كل التوقعات. وما إن أطلَّت الألفية الجديدة، حتى تأكدت الهيئة من ضرورة وضع مخطط إستراتيجي شامل لمدينة الرياض، وهو ما أنجزته في عام 2003م، واحتل قطاع النقل في العاصمة مجلدًا كاملًا من بين المجلدات الاثني عشر التي تألَّف منها المخطط، وتضمن تصورًا وخططًا لنظام نقل عام وشامل “يجب إنجازه قبل مرور عقدين من الزمن”. وفي عام 2012م، أقر مجلس الوزراء “مشروع الملك عبدالعزيز للنقل العام في الرياض”.

فمنذ البداية، أدركت الهيئة الملكية لمدينة الرياض الحاجة إلى نظام نقل عام متكامل وعلى مستوى عالمي؛ لكي يكون بشبكته المتطورة وهندسته المعمارية وتركيزه على السلامة والموثوقية، قادرًا على منافسة السيارات الخاصة بوصفه وسيلة مريحة واقتصادية وممتعة للتنقل في العاصمة النابضة بالحياة والمتنامية باستمرار. وسوف يوفِّر هذا الإنجاز معلمًا آخر لا يُنسى في تطوير الرياض بوصفها حاضرة عالمية نابضة بالحياة وموائمة للعيش.

للنقل العام تاريخه الخاص في الرياض

السفر بالقطار ليس جديدًا تمامًا على الرياض. فقد وضع لبنته الأولى الملك عبدالعزيز، رحمه الله، عندما تلمس الحاجة إلى ربط الرياض بميناء الدمام؛ لإمداد العاصمة بما تحتاج إليه من موارد عبر ميناء المدينة التي تقع على الخليج العربي. فتولَّت أرامكو، آنذاك، بناء سكة الحديد التي تربط المدينتين، وبلغ طولها 447 كيلومترًا، مع محطات توقف في الهفوف وحرض والخرج. وجرى تدشين هذا الخط عام 1951م، وأثبت جدوى كبيرة في نقل البضائع والركاب ما بين المدينتين منذ انطلاقه حتى اليوم.

وكما هو حال السكة الحديدية، فإن خدمات الحافلات ليست جديدة على الرياض، مع أنها كانت تعمل سابقًا على مستوى أقل تعقيدًا. فمنذ أوائل الستينيات من القرن الماضي، كانت الحافلات موجودة وناشطة، وعُرفت باسم “خط البلدة”. ولكن هذه الحافلات كانت صغيرة وعملها غير منتظم إلى حد بعيد، وتحمل كل منها بضع عشرات من الركاب. وكان معظم المستخدمين من العمال الذين يدفعون أجورًا ثابتة من دون تذاكر ومن دون محطات مميزة على طول الطرق التي كانت تتغير كثيرًا وفق الطلب.

تتكامل شبكة حافلات الرياض مع القطار، وتعمل على مسارات يبلغ طولها 1900 كيلومتر، موزعة على ثلاثة مستويات لتأمين النقل الآمن والسريع ما بين “الميل الأول والميل الأخير“.

ثم كان أن تأسست الشركة السعودية للنقل الجماعي (سابتكو) في عام 1979م، بوصفها شركة حافلات مملوكة جزئيًا للدولة؛ لتوفر شبكة أكثر تنظيمًا في الرياض. وبدأ أسطولها، الذي يضم أكثر من 150 حافلة، عملياته في العاصمة في السنة نفسها. وتوسع منذ ذلك الحين ليصبح مشغّلًا دوليًا لنقل الركَّاب والبضائع ما بين الرياض ودول الجوار.

قطار الرياض
ستة خطوط وأربع وثمانون محطة

بضخامته، يشكِّل مشروع الملك عبدالعزيز للنقل العام في الرياض منعطفًا حادًا في مسيرة تطوير المدينة يعد بنقلها من حال إلى حال. فقد عمل المهندسون ومخططو المدن في الهيئة الملكية لمدينة الرياض على تخطيط هذا المشروع وتصميمه وبنائه في العاصمة بوصفه نظام نقل حضريًا يتكوَّن من ستة خطوط للقطار تتكامل تمامًا مع شبكة حافلات متطورة تدعم احتياجات التنقل لسكان المدينة البالغ عددهم سبعة ملايين نسمة والأعداد المتزايدة من الزوار، والسياح المحليين والدوليين، وتغطي كامل مساحة منطقة الرياض الحضرية البالغة 1,550 كيلومترًا مربعًا تقريبًا.

يبلغ طول شبكة الخطوط الستة المكتملة اليوم 176 كيلومترًا وتخدمها 84 محطة. ومن إجمالي مسارات الشبكة، هناك 60 كيلومترًا تحت الأرض، عبر أنفاق من الحجر الجيري تحت المباني والطرق والبنية التحتية الحضرية الأخرى، و100 كيلومتر من خطوط القطار تمر على السطح أو على جسور مرتفعة فوق الطرق السريعة وبعض المناطق، وتوفر للركاب إطلالات رائعة على أرجاء المدينة أثناء تنقلهم بسهولة بين المحطات براحة وأمان في أجواء هادئة ومكيَّفة.

يقع نصف هذه المحطات تقريبًا تحت الأرض أو على مستوى السطح. وهناك 29 محطة علوية مرفوعة إلى ما فوق سطح الأرض. وفي ثمانٍ من هذه المحطات يتقاطع خطان من الخطوط الستة لتمكين الركَّاب من الانتقال من خط إلى آخر وفق ما تقتضيه وجهاتهم. أمَّا المحطة الواقعة في مركز الملك عبدالله المالي، فتتقاطع فيها ثلاثة خطوط يغطيها هيكل أنيق لافت للنظر بميلانه، من تصميم المعمارية المعروفة زها حديد.

حافلات الرياض شبكة على ثلاثة مستويات

تمَّ تطوير شبكة حافلات الرياض الجديدة وتنفيذها لتُقدِّم خدمة النقل وفق ثلاثة مستويات، وهي: حافلات النقل السريع (BRT)، وخطوط التغذية، وخدمات الحافلات المجتمعية.

يتميز نظام حافلات النقل السريع بأنه قائم على مسارات خاصة تسمح بالنقل السريع والمنتظم بين نحو مائة محطة خاصة به، منها أربع محطات رئيسة. ويرتبط هذا الجزء من الشبكة بخدمات القطار وخطوط حافلات التغذية والحافلات المجتمعية؛ أي تتيح الانتقال السريع للركَّاب ما بين هذه المكونات الأربعة.

لا تمضِ وحيدًا

في عام 1973م، انطلقت في بريطانيا حملة “مواصلات أفضل” للدعوة إلى تعزيز استخدام النقل العام. وعامًا بعد عام اتسعت المبادرة وازداد عدد المتطوعين فيها. وتتوزع جهود الحملة ما بين متابعة تشريعات النقل العام وقراراته، وبين توعية المستخدمين بفوائده المختلفة، والإرشادات للأشخاص الذين يشعرون بالضيق في الأماكن المزدحمة. وكذلك الدعوة إلى كل ما يقلل عدد السيارات المتحركة في الشوارع والطرقات، مثل مشاركة القيادة بين الزملاء والجيران.

وفي العام الماضي، احتفلت الحملة بمرور خمسين عامًا على انطلاقها. وبعد نجاح الاحتفال، تقرَّر أن يكون سنويًا لتجديد التذكير بأهمية النقل العام باعتباره وسيلة النقل الأسلم والأفضل بيئيًا.

وهناك 19 خطًا لحافلات المجتمع، يبلغ مجموع أطوالها 1905 كيلومتر، وتخدم عددًا مماثلًا من محطات الحافلات. وهي تربط الضواحي والمناطق التجارية، بالإضافة إلى محطات القطار وحافلات النقل السريع على طول مساراتها. كما أن بعض الحافلات التي تسير على هذه الطرق هي عبارة عن “مركبات مفصلية”؛ أي مؤلفة من جسمين كبيرين بطول 18 مترًا.

ويكتمل نظام حافلات الرياض بشبكة ثالثة من 55 خطًا مغذيًا بطول 842 كيلومتر، تخدم أحياء المدينة السكنية، وتربطها بخطوط الحافلات الرئيسة وخطوط القطار.

وتتيح روابط شبكة الحافلات بالمناطق الضواحي والمناطق التجارية والصناعية في الرياض الآن، وللمرة الأولى، للمواطنين والزوَّار الوصول المريح إلى شبكة القطار، ومن ثَمَّ، تجنّب الاختناقات المرورية اليومية على الطرق المزدحمة في المدينة. ومثل القطار، توفر شبكة الحافلات مجالًا للتوسع وتطوير المسارات بما يتوافق مع التنمية والنمو المستقبلي في الرياض.

وكما هو الحال في عربات القطار، توفر جميع الحافلات الأمان والراحة وخدمة “الواي فاي” على متنها للركَّاب. كما تتصف بمجموعة من الميّزات عالية التقنية التي تتصل بمركز التحكم في النقل لمراقبة الشبكة والتحكم فيها بالكامل.

يحتوي قطار الرياض على أنظمة النقل الذكية بوصفها جزءًا أساسًا من مكوِّناته. وتتألف هذه الأنظمة من باقتين: الأولى وهي “الإدارة الآلية للعربات”، ويرتبط كلها بمشروع الحافلات أيضًا. والثانية هي “التحصيل الآلي للرسوم”، ومهمتها تسهيل تحصيل الرسوم وجمعها وإدارة قطع التذاكر في كل من شبكتي الحافلات والقطار. والغاية الأساس من كل ذلك تسهيل استخدام العملاء لشبكة النقل العام والاستفادة من نظام رسوم مُبسَّط.

التطوير الحضري الموجَّه بالنقل

إضافة إلى ما هو متوقع من قطار الرياض وشبكة الحافلات من نتائج فورية مثل تقليل الاعتماد على السيارة، وما يستتبع ذلك من توفير في استهلاك الوقود والحد من تلوث الهواء وما شابه ذلك، فإن لشبكة النقل الجديدة هذه فائدة طويلة الأمد تكمُن في أخذها بمفهوم التطوير الموجَّه بالنقل الذي سيُحدث نقلة كبرى لمفاهيم التصميم العمراني للمدينة في القرن الحادي والعشرين.

يعرِّف “معهد سياسة النقل والتطوير” الأمريكي مفهوم التطوير الموجَّه بالنقل بأنه منطقة حضرية مصمّمة بشكل يجمع الناس والأنشطة والأبنية والفضاءات العامة معًا، بحيث يكون كل ذلك على مسافة من خدمات النقل العام يمكن اجتيازها مشيًا أو على الدراجات. ويُضيف المعهد أن التطوير الموجَّه بالنقل هو أساس ضروري لاستدامة طويلة المدى، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ومشاركة الرفاهية والارتياح للعيش في المدن.

وفي الرياض، فإن محطات القطارات والحافلات تُمثِّل نقاطًا تشبه محطات توقف القوافل في الماضي التي تشكَّلت حولها نطاقات اجتماعية. فتوزُّع هذه المحطات، وخاصة عند أطراف المدينة، سيعزِّز النمو في محيطها، بحيث يجعل من محيط كلٍّ منها منطقة حضرية قائمة بذاتها، بدلًا من بقائها مرتبطة في كل ما تحتاج إليه من خدمات بقلب المدينة التاريخي أو بمناطق بعيدة عنها. وبالفعل، بدأ الناس يتكتلون حول محطات تجتمع فيها مرافق لاستخدامات مختلفة مثل: الإسكان والمكاتب وتجارة التجزئة والترفيه، وغير ذلك. وهذا ما توفِّره شبكة النقل العام في الرياض، المدمجة بشكل كامل في نسيج المدينة. ويمكننا أن نعطي مثلًا على ذلك، وهو حي ظهرة البديعة.

يقع هذا الحي على مقربة من الحدود الغربية لمدينة الرياض، وفيه واحدة من محطات القطار الرئيسة. وتكشف هذه المحطة، التي تُسمَّى بـ”المحطة الغربية”، الوقع بعيد المدى لشبكة النقل العام وفوائدها، وتُبيِّن كيف أن شبكتي القطارات والحافلات تقودان التطوير وتساعدان على إعادة تشكيل الحياة الاجتماعية والتجارية والثقافية في أرجاء العاصمة.

تتميز هذه المحطة بتصميمها المعماري الفريد وضخامتها؛ إذ إنها أُعِدَّت لتكون مركزًا رئيسًا لأنشطة عديدة. فتوفُّر الأرض بمساحة ضخمة، أتاح تخطيطها لتكون من أبرز المحطات وأكبرها على الإطلاق. وكان موقعها الإستراتيجي عاملًا آخر أكسبها مكانتها البارزة. فهي تقع على بُعد كيلومتر واحد من الطريق الدائري الغربي، وتقريبًا عند منتصف المسافة بين الوسط التاريخي للرياض والحدود الغربية للمدينة. وساعدت هذه العوامل على أن تجعل “المحطة الغربية” مثالية لأن تكون قلب مركز حضري جديد ينمو من حولها، ألا وهو: المركز الغربي للمدينة. إذ إن تصميمها خلق مركزًا للنقل متعدد الاستعمالات من خلال ميدان شاسع يحتوي على مرافق تجارية وترفيهية تخدم سكان الحي وزوَّاره.

وبازدهار الأحياء والمناطق بفعل التطوير الموجَّه بالنقل، سيستفيد المتنقلون يوميًا من المرافق القائمة حول نقاط النقل. وستستفيد تجارة التجزئة من ازدياد حركة المشاة في جوارها. كما أن هؤلاء يستفيدون منها بدلًا من التوجُّه إلى غيرها في أماكن أبعد، وهذا ما يخفض معدلات التلوث ويحقق احتمالات نمو أعلى.

يتغيَّر حال الرياض تمامًا مع شبكة النقل العام الجديدة. فإنجاز هذا النظام الشامل للنقل العام بعد سنوات من التخطيط، جاء ليدفع العاصمة السعودية إلى أعلى قائمة أنظمة النقل العام في العالم. فعلى مستوى الطول الكلي للشبكة وعدد محطات القطار، تنضم مدينة الرياض إلى طليعة الحواضر العالمية التي ترسَّخت فيها شبكات نقل عام. وبصفتها جزءًا لا يتجزأ من المشروع، فإن خطوط الحافلات ذات المسار المخصص تدفع بدورها الرياض إلى أعلى قائمة المدن في العالم على مستوى الطول وعدد المحطات. وعندما نضيف إليها خطوط الحافلات العادية والخطوط المغذية ونحو 3000 محطة توقف، تتضح ضخامة خدمات الحافلات والنطاق الذي تغطيه.

والرحلات عبر المدينة، التي كانت في السابق مقتصرة على السيارات المصحوبة بالتذمر من ازدحام حركة السير، ستصبح سلسة وخالية من المتاعب على خطوط تعمل تحت سطح الأرض أو عنده أو فوقه، في تناقض واضح مع ازدحام حركة المرور على الطرق في المدينة.

القابلية للتوسع والتطوير

ومن ميزات شبكة النقل العام في الرياض قابليتها للتوسع، إمَّا عبر رفع وتيرة الخدمات، وإمَّا عبر الإضافة إلى الشبكة القائمة. وفي إطار توسعة الشبكة، ثمة خطة يجري العمل عليها لإنشاء خط قطار سابع ينطلق من مطار الملك خالد الدولي إلى الدرعية التاريخية عبر وادي حنيفة، وصولًا إلى “القدية” عند سفوح جبال طويق. ومحطات التوقف على هذا الخط في الدرعية ستخدم المجمع الثقافي والتراثي في الدرعية وحي الطريف عاصمة الدولة السعودية الأولى، المُدرج على قائمة اليونسكو لمواقع التراث الثقافي العالمي. أمَّا المحطات الأخيرة على هذا الخط، فستخدم ما يُتوقع له أن يكون نقطة جذب عالمية: مشروع القدية الذي يقع على هضبة صحراوية تجمع بين المرتفع الجبلي والوادي، وتبلغ مساحتها 367 كيلومترًا مربعًا، وتحتوي على أكثر من 300 مرفق ترفيهي ورياضي وتعليمي، ويُرتقب أن تجتذب السياح محليًا وإقليميًا وعالميًا.