
وِرش الكتابة.. هل تصنع مبدعين؟
وِرش التدريب على الكتابة الإبداعية ظاهرة حديثة في الواقع الثقافي العربي، بدأت مع بداية الألفية الجديدة، وازداد عددها في السنوات القليلة الماضية. وتشمل هذه الظاهرة الورش ومعتزلات الكتابة التي تعقدها هيئات ثقافية ومؤسسات خاصة، وكذلك مبادرات شخصية من كتَّاب بمقابل مادي باهظ في بعض الأحيان. وقد تصدَّى للتدريب كتَّاب جدد في بعض الأحيان، كتبوا نصهم الأول أو الثاني فحسب؛ فصارت الظاهرة مجالًا لسجالات على وسائل التواصل الاجتماعي. في هذا العدد، تطرح “القافلة” قضية ظاهرة الورش الإبداعية وجدواها على الأرضية السليمة للنقاش.
كانت الجامعات الأمريكية الأولى في العالم التي بدأت تدريس الكتابة الإبداعية أكاديميًّا، في برنامج بدأته جامعة هارفارد أواخر القرن التاسع عشر والتحق بها أكثر من 150 طالبًا. لكن التاريخ المعتمد الذي يعود إليه الدارسون هو عام 1936م، عندما أطلقت جامعة “أيوا” برنامجها الشهير، والمستمر إلى اليوم. ومن ثَمَّ، أصبحت فصول تعليم الإبداع أمرًا واقعًا في كثير من جامعات العالم. ومع ذلك، لم تزل معارضته قائمة؛ إذ يشكك كثير من كبار النقاد والمبدعين في جدوى هذه الدروس.
الكاتب الإنجليزي كولن ولسون (1931م – 2013م) كان حاسمًا في رفضه تدريس الإبداع بعد تجربة له في هذا المجال. ففي كتابه “حلم غاية ما”، الذي ترجمته إلى العربية لطفية الدليمي، كتب صاحب “اللامنتمي” مقالًا مطولًا عن صنعة الإبداع. حكى فيه عن تجربته في تدريس منهج كتابة إبداعية بجامعة “روتغرز” في نيوجيرسي عام 1947م، واقتنع بفعلها أن الإبداع مادة عصية على التدريس!
يعدُّ ولسون الكتابة عملية شاقة كارتقاء تلة عالية، حيث يواصل الأقوياء الصعود على مهل ليصبحوا كتَّابًا جيدين، في حين يتساقط الضعفاء على الجانبين، ويقول: “إن تشجيع هؤلاء الذين يمكن لهم أن يكونوا كتَّاب المستقبل عملية شبيهة بوضع السماد في مزرعة تمتلئ بالأعشاب الضارة”.
هذه الأعشاب الضَّارة، في رأي كولن ولسون، هي الأعداد الكبيرة من الكتَّاب الذين أنعشوا نشر الكتب وبيعها، لكنهم في الوقت نفسه حوَّلوها إلى “صناعة”.
بلغ حجم سوق النشر الأمريكية في عام 2023م نحو 44.3 مليـار دولار، وفقًا لشركة الأبحاث الصناعية (IBISWorld). وتدير هذه الصناعة مجموعة محدودة جدًا من المؤسسات الكبرى، والورشة ومحرر الدار ركنان أساسان فيها. وكثيرًا ما يجري تكليف الكاتب بموضوع تقترحه الدار، وترى أنه الرائج في هذا التوقيت. ولذا، نجد تكرارًا للموضوع بحبكات مختلفة في الكتب.
تاريخيًّا، كانت عملية نشر الكتب في العالم القديم تقوم على الهواية والولع، ويُقبل عليها قلة من الناس بروح التطوع أكثر من روح الربح. فكثير من تجارب النشر في القرنين التاسع عشر والعشرين قادها أدباء، مثل الأخوين جاليمار في فرنسا. وفي العالم العربي، كان سعيد جودة السحَّار، مؤسس “مكتبة مصر” كاتبًا، ومثله كان سهيل إدريس مؤسس “دار الآداب”. والقائمة تطول.
هناك الآلاف من الكتَّاب في الولايات المتحدة الأمريكية يلبُّون حاجات مصانع النشر من الروايات والكتب الخفيفة للقراءة في المترو، تتضمن حبكة فنية سليمة وجذابة كما تعلَّمها الكاتب، لكن بعيدة عن الابتكار. تلمع أسماؤهم ثم تخبو. ومن النادر وسط هذا المناخ التجاري أن يولد كاتب مثل هيمنغواي أو فيتزجرالد أو بول أوستر الذي رحل هذا العام.

كتَّاب كبار ينصحون الشبَّان
على أن التفكير في أسرار الإبداع ونقل الخبرات ليس محظورًا. وكثير من الأدباء الكبار كتبوا نصائح للكُتَّاب، بعضهم يُعنون كتابه صراحة إلى جمهور من المتدربين، مثل ريلكه في “رسائل إلى شاعر شاب”، ومن بعده ماريو فاغاس يوسا في “رسائل إلى روائي شاب”، يتحدثون فيها عمَّا ينبغي للمبدع الشاب أن يفعل. وأهم رسالة في الكتاب على الإطلاق هي نقض الرسائل السابقة: نسيان النصائح!
لم يخرج شاعرنا محمود درويش عن مسار الكبار في قصيدته “إلى شاعر شاب”، حيث يحرّض الشاعر الشاب على مخالفة مسار الكبار، وينتهي إلى الخلاصة: “لا نصيحة في الحب، لكنها التجربة.. لا نصيحة في الشعر، لكنها الموهبة”.
وفي تاريخ الكتابة في العالم كله، كانت هناك دائمًا المقاهي الأدبية ونوادي الأدب والصحف والمجلات. وكان العالم العربي في قلب الظاهرة. ففي القاهرة، على سبيل المثال، كانت هناك ندوات شهيرة في المقاهي مثل ندوة أنور المعداوي، وندوة نجيب محفوظ. وكان يحيى حقي يستقبل في مكتبه بمجلة “المجلة” الأدباء الذين يقدمون قصصهم ويجعلهم يقرؤونها أمامه ويناقشهم فيها. وبالتوازي معه كان عبدالفتاح الجمل في الملحق الأدبي لصحيفة “المساء” يقوم بالشيء نفسه. وليس هناك كاتب من جيل الستينيات لم يتعلم من الأستاذين بهذه الطريقة. والأمر نفسه يمكن أن يُقال عن “ملحق الثورة” الثقافي في دمشق إبَّان تولِّي القاص زكريا تامر له، وكذلك كانت مجلات مثل “الأقلام العراقية”، وغيرها.
أكاديميًّا، بدأت الجامعات العربية بتدريس الكتابة الإبداعية منذ بدايات الألفية الجديدة. وفي التوقيت نفسه، بدأت وِرش الكتابة بالقاهرة، وانتشرت في كثير من المدن العربية حتى صارت موضوع الساعة. فهناك من يراها ضرورية لتطوير المهارات الأساسية للكتّاب الجدد، وتعزِّز فرصهم في إيجاد أصواتهم الخاصة، والبعض يرى فيها ما رآه كولن ولسون!

ثمانية وجوه لمقدِّمي الورشة
محمد آيت حنا
قد تبدو وِرش تعلُّم الكتابة حاملةً كل أسباب معارضة الكتابة. الورشة ضدّ الكتابة، من حيث إن الكتابة حريَّة والورشة تقييد؛ الكتابة فكرٌ والورشة عملٌ يحيل ما هو يدويّ، على الصناعة أكثر ممَّا يحيل على الصنعة؛ الكتابة فردانية والورشة عمل جماعي؛ الكتابة استعداد والورشة تكوين؛ الكتابة قديمة والورشة مستحدثة، فهل احتاج الكتَّاب إلى ظهور الورشة لكي يكتبوا؟ غير أن كل هذا التعارض الظاهر، لا يُلغي حقيقة واقعية: “الورشة باقية وتتمدَّد”، الورشة حقيقة وواقع، ينخرط فيه كتَّاب متمرِّسون. والورشة واقعة لها حضور، ولا أدلّ على ذلك من عدد الورش التي ما انفكَّت تتناسل وتتطوَّر، ومعظم المواقف منها هي إمَّا انخراط أو رفض، وكلاهما موقف منفعل، لا يصاحبه نقد فاعل للممارسة.
صور بعض مقدِّمي الورشات
من يحق له أن يقدِّم الورشة؟ هذا هو السؤال الأهم: أهو الأكاديمي، أم المبدع، أم البيداغوجي؟ قد يكون الجوابُ من البداية معروفًا. أفضل من يقدِّم الورشة هو الذي يجمع بين الصفات الثلاث: عُدَّة نقدية أكاديمية، وحِسٌّ إبداعيٌّ صقلته الممارسة، وتمرّسٌ على التعليم والتدريب. بيْدَ أن أي إجابة لن تكون مقنعة إلا إذا عُضِّدت بدراسة “علمية” إحصائية تبيِّن ما الذي حقَّقته الورش طوال عقود من ممارستها.
قد يصعب التفصيل في رسم ملامح مقدِّم الورشة كما ينبغي، لكننا نقترح صورًا لمقدِّم الورشة، استنادًا إلى نماذج من تاريخ الإبداع.
كينتيليان، صاحبُ الوصفة
ثمَّة دلائل قديمة على لجوء عدد من الكتَّاب إلى ورش لتعليم الكتابة أو تعلُّمها، وقد يكون أقدم نموذج الخطيب الرّوماني ماركوس كينتيليان، معاصر القيصر نيرون. فقد خلَّف وصفة للكتابة الخطابية، كان يعلِّم الخطباء المبتدئين والأدباء إيَّاها، ولا تزال سارية إلى اليوم وهي وصفة المراحل الخمس:
الاختراع: إيجاد فكرة للكتابة.
الاستعداد: تنظيم الخطاب بحيث يتطوَّر الموضوع تطوُّرًا مُهَيكلًا.
الفعل: الكتابة، لكي يتحوَّل القول إلى فعل.
الذَّاكرة: حفظ الخطاب، لإلقائه دون الاستعانة بالمكتوب.
البلاغة: اختيار طريقة قول الخطاب، بحيث يجذب انتباه المستمع.
قد يكون هذا النموذج، هو النموذج السائد الذي صارت تسنده تقنيات العرض، وبرامج التصميم. إذ يعرض مدير الورشة على المستفيدين بضع لقطات تحمل وصفات جاهزةً للكتابة والتأليف.
ماركيز، مختزل المسافة
خلال تسعينيات القرن الماضي، قدَّم غابرييل غارسيا ماركيز في كوبا سلسلة من الورش في الكتابة السينمائية والروائية، نُشرت لاحقًا في كتاب بعنوان “ورش كتابة: كيف تحكي حكاية؟”. والغاية المُعلنة من تلك الورشات هي تعليم جيل جديد من مؤلِّفي الأعمال التخيلية للتلفزيون. تجنَّب ماركيز في الورشة إلقاء محاضرات أو دروس، تاركًا الحرية للمشاركين في أن يعبِّروا كيفما شاؤوا.
ومع ذلك لم يخلُ الأمر من وصاية تجلَّت في منحهم مفاتيح ما يسمّيه روح الإبداع؛ ولنقُل إنه عمل على اختزال المسافة. ما الذي نقصده من اختزال المسافة؟ إنها تلك الرغبة التي تدفع المعلِّم (المؤلِّف أو المفكِّر) إلى تجنيب المتعلّم الطريق الطويلة التي مرَّ منها هو، حتى وصل إلى ما وصل إليه من نضج. إنها محاولة إنضاج البيضة قبل أوانها؛ إذ يكون مدار الورشة تجنيب الكتَّاب المستجدِّين مزالق الكتابة وأخطاء الشباب.
غوتييه، أو صاحب القضية
وهي قضية واحدة، قضية أن الإبداع يمكن أن يُعلّم، عكس أولئك الذين يرون أن الفنَّ موهبة غير قابلة للتعلُّم، والكتابة على وجه التخصيص لا إمكان فيها للمحاكاة أو لنَقْل التجربة. تيوفيل غوتييه، شأنه شأن عدد من الكتَّاب، كان يؤمن بأن الإبداع مسـألة تعلُّم، وأن ثمَّة جملة من القواعد الأساسية للكتابة يمكنك أن تتّبعها وستصير كاتبًا. لهذا قرَّر أن يتحوَّل من كاتب إلى معلِّم كتابة، وظلَّ على هذه الحال حتى وفاته. يقول: “سوف أحيط نفسي بالشباب، وأطلعهم على أسرار الشكل وألغاز الفن. كلُّ شيء في هذا العالم قابل للتعلُّم، ولا يُستثنى الفنُّ من القاعدة”. قد يكون نموذج غوتييه هو النموذج الأكثر احتذاء من طرف مقدِّمي الورش، مع فارق في درجة الإيمان بالقضية. إيمانٌ قد يكون نابعًا من تجربة شخصية. فمعروف أن غوتييه قد بدأ حياته رسامًّا، ولم ينتقل إلى الكتابة إلا عقب لقائه فكتور هوجو، وربَّما كان اللقاء سببًا في قناعة غوتييه بأن الجميع قادر على أن يصير فكتور هوجو، بمن في ذلك هو نفسه.
كونو، عضو المختبر
كانت تجربة “جماعة الأوليبو” بمنزلة “انطلاقة للأدب الممكن”، وكانت ثمرة لقاء جمع عام 1960م الكاتب ريمون كونو بعالم الرياضيات فرنسوا ليوليوني، وقد شكّلت نموذجًا فريدًا لمعنى ورشة الكتابة. فمنذ البداية، سعت الجماعة إلى تعريف نفسها بالنفي، فجزمت القول بأنها ليست حركة أدبية، وليست مجمعًا علميًا، وليست أدبًا عشوائيًا. فما هي إذًا؟ هي مختبر يسعى إلى الكشف عن إمكانات اللغة والكتابة، عبر إخضاعها لتجارب ما يُسمَّى بالكتابة تحت الإكراه. فكان يُطلق تحديات ينبغي لجماعة الكتَّاب المنتمين إلى “الأوليبو” أن يضطلعوا بها. مثلًا، الكتابة دون استعمال حرف من أحرف اللغة، أو كتابة مشهد واحد بتسعة وتسعين أسلوبًا مختلفًا. وذلك ما فعله ريمون كونو في كتابه “تمرينات في الأسلوب”. إن هذا النوع من الوِرش يتميز بخاصيتين اثنتين، أولاهما أن المشاركين جميعهم كتَّاب، ومن ثَمَّ تنتفي أي تراتبية بين مدير الورشة والمتدرِّبين؛ بل إن مدير الورشة نفسه جزء من الاختبار، فهو أيضًا يجرِّب إمكانات لغته، ويحاول ابتكار شيء لا يعلمه مسبقًا. الغاية من هذا النوع من الوِرش هو تجاوز التعليم والتلقين، إلى التغيير في أنماط الكتابة وتقصي حدود اللغة.
بيريك، العازف المنفرد
قد يكون جورج بيريك أشهر كاتب في “جماعة الأوليبو”، فهو الذي استطاع من بين أفراد الجماعة كلهم الذهاب باللغة إلى حدودها القصوى، ووصل بالتجريب إلى أبعد مداه. على سبيل المثال كتب رواية صارت من كلاسيكيات التجريب الفرنسي، وتحمل عنوان “الاختفاء”، لم يستعمل فيها مطلقًا حرف E، مع أنه الحرف المركزي في اللغة الفرنسية. غير أن بيريك لم يكن يشتغل في تعاضد أو تنافس مع أعضاء المختبر سعيًا إلى إنتاج شيء ما، بل كان يخوض تجربة الورشة منفردًا، بعد أن يُطلق التحدي على نفسه، ويُشهِد عليه المتلقّين. كان يحوِّل الجميع إلى متتبّعين لمراحل الورش، وإلى جمهور يتابع عزفَه المنفرد.
دانييل بناك، مستغلُّ الورشة
في روايته “قانون الحالم” يقدِّم دانيال بيناك نماذج للكتابة في إطار ورشة. نماذج من المؤكد أنه استعملها مع متدرِّبين ومتعلِّمين: كيف تكتب انطلاقًا من تدوين حلم؟ كيف تتخلَّص من ثلثي ما تكتبه؟… إلخ. إنه نموذج حيٌّ للدهاء والذكاء الأدبي، للكاتب الذي يأتي إلى الورشة وفي نيَّته أن تتحوّل الورشة نفسُها إلى موضوع للكتابة.
شميت، البيداغوجي
لعلَّ إحدى مفارقات البيداغوجيا الأساسية أنها دائمًا ما تذهب عكس الممارسة. أعظم المدرِّسين هم أولئك الذين لا يدَّعون تنظيرًا كبيرًا في مجال التدريس، وحتَّى إن ادّعوه فإنهم في تدريسهم غالبًا ما يسيرون عكس تنظيراتهم. والأمر نفسه ينطبق على معظم الكتَّاب. ولنا مثل في إيريك إيمانويل شميث، وهو أحد أكثر الكتَّاب الفرنسيين الذين يقدِّمون ورشات كتابة، لكن كتاباته أصلًا ضد القواعد وضد اتباع منهج مسبق. ربَّما ينطلق هذا النوع من الورشات من إيمان بأن ثمَّة فصلًا ضروريًا بين تعلُّم الكتابة وبين الكتابة نفسِها؛ ذلك أننا إمَّا نعلِّم المُقبلين على الكتابة القواعدَ الأساسية التي لن يستطيعوا الكتابة إلا بتكسيرها وتجاوزها، أو ربَّما يَنطلق مقدِّم الورشة من مسلَّمة أن الورشة غير موجَّهة إلى الكتَّاب، بل إلى من يسعون إلى أن يكونوا كذلك، ولن يكونوا أبدًا!
ريلكه، كاتب الوصيّة
قد يكون تعسّفًا منا إضافة راينر ماريا ريلكه إلى قائمة كتَّاب الوِرش. لكن يشفع لنا أن الورشة قد تُؤخذ أيضًا بمعناها المفتوح؛ ورشة لا يحدُّها مكان، موجّهة إلى عموم الكتَّاب. ونقصد في هذا الجانب تحديدًا، الكتَّاب الذين يخلِّفون كتبًا هي أشبه بوصايا تختزل تجاربهم، يريدون من المؤلفين أن يتقفَّوها. وقد يكون كتاب “رسائل إلى شاعر شاب” لريلكه، أشهر الكتب من هذا الصنف. والجميل مع هذا النّوع من الكتب أو الوِرش، أنها أقل خنقًا للإبداع، لا سيَّما أنها سرعان ما تتحوَّل من وصايا أدبية إلى كتب إبداعية تُقرأ للمتعة والتأمل!

تجربة في وِرش الكتابة
طاهر الزهراني
أريد أن أقارب المسألة من زاوية التجربة الشخصية في موقعين: موقع المتدرّب، وموقع المدرّب في ورشة.
فقبل عشر سنوات، حضرت أول ورشة للكتابة، وكان يشرف عليها الروائيان بهاء طاهر وإبراهيم نصر الله، والناقدة زهور كرام. ذهبنا إلى ليوا، وهي امتداد لصحراء الربع الخالي. كنا عشرة كتَّاب من جميع أنحاء العالم العربي، من مسقط شرقًا إلى طنجة غربًا، وكان مكان الورشة منتجعًا في قلب الصحراء يبعد عن المدينة 200 كيلومتر تقريبًا. عندما وصلت حملوني وحقائبي الصغيرة إلى الغرفة الخاصة بي في قلب الصحراء بعيدًا عن بهو الفندق. كانت الغرف شبيهة بتلك التي قرأنا عنها في حكايات “ألف ليلة وليلة”، التلفاز وحده يربك منظر الغرفة الواسعة المبنية من طين المكان، أثاثها من الخشب والنحاس والألياف الطبيعية.
مساء، وفي الصالة التي تنعقد فيها الورشة، اجتمع أناس لم يجمعهم إلا حب الكتابة والمعرفة.
أخبرتنا المنسقة البريطانية التي تتحدث العربية أن المقصد من هذه الورشة هو العزلة والكتابة!
وفي اليوم التالي، استيقظت مبكرًا، وتناولت إفطارًا بسيطًا، ومارست الرياضة لنصف ساعة، ثم عدت لغرفتي. فتحت باب الشرفة، وصنعت الشاي، ثم جلست على المكتب للكتابة من الساعة الثامنة صباحًا إلى الثانية ظهرًا. بعد الغداء والراحة، قضيت العصر في مراجعة النص الذي كتبته، ثم خرجت لجلسة النقاش التي استمرت من المغرب إلى ما بعد العشاء.
القرب من الصمت، البعد عن الضجيج، خلق مكانًا نموذجيًا للكتابة، هو أشبه ما يكون بحلم بسيط قد يتحقق عند من يتمنى التفرُّغ يومًا.
في هذه الورشة عرفت الكبير “بهاء طاهر”، روائي أحببته كثيرًا، وكنت أحلم بلقائه، لم أتصور أن أكون قريبًا منه إلى درجة أن أجلس بجواره أقرأ عليه فصولًا مما كتبت، ويعلِّق بأنه يشعر بصدق ما كتبت ودفئه. كنت بحاجة إلى عباراته المشجعة، ولصدق انطباعاته، ولدعابته التي تبدد توتر الكتابة. وكنت بحاجة إلى رفاق الحرف، يبعثون إطراء، ملاحظة، فكرة، تصويبًا.
هذه الورشة كان أغلب مَن شارك فيها كتَّابًا سبق لهم أن أصدروا أعمالًا سردية، وكان بعضهم لديه وعي بالفن، بل بعضهم متخصص في النقد. والمفارقة أيضًا أن أغلب من تحدَّث في الورشة هم الكتَّاب. أمَّا المشرفون، فاكتفوا في بعض الأحيان بالإنصات والابتسام، وخاصة عندما يحتد النقاش!
المشاركون كانت لهم تجربة يستطيعون الانطلاق منها، ومن ثَمَّ، وفرت لهم الورشة المكان المناسب والعزلة والرفقة. بالنسبة إليَّ أتذكر أني كتبت خمسة فصول من روايتي “الفيومي”، وما زلت أرى أن هذه الوِرش هي مكان رائع للتواصل مع زملاء الكتابة، الذين أصبحوا أصدقاء.
مساندة الكتَّاب في الرواية الأولى
بعد مرور خمس سنوات على ورشة الصحراء، اتصل بي الصديق فؤاد الفرحان وتحدَّثنا عن كيفية عمل مشروع للسَّرد؛ لأن لديَّ تجربة في الكتابة، ولديه خبرة في المنصات الرقمية، التي قد نخرج عبرها بفكرة ما لخدمة السَّرد. استمرت الفكرة تحضر وتغيب، حتى كان اللقاء مع عبدالعزيز الغامدي صديقنا المشترك، ثم قرَّرنا أن نطلق مبادرة “انثيال”؛ وهي مبادرة سردية ترافق الكتَّاب الواعدين من أجل كتابة روايتهم الأولى. أسسنا المبادرة عبر منصة “إكليل”، ثم أطلقنا النسخة الأولى عام 2019م، والثانية 2020م . وصدر عن النسختين عشرة أعمال روائية تُعدُّ الأولى لأصحابها.
كنت المشرف العام على المبادرة في نسختها الأولى التي استمرت ستة أشهر، والصديق علوان السهيمي في نسختها الثانية التي استمرت سنة، حينما استثمرنا أيام الحظر في سنة كورونا. فكنا نرافق الكاتب من الفكرة مرورًا بمراحل الكتابة، ثم التحرير، إلى صدور العمل عن دور النشر التي أسهمت معنا في نشر الأعمال.
هذه المبادرة، التي هي عبارة عن ورشة كتابة مطولة، ببساطة كان لها مخرجات لأنها كانت رقمية، وأتاحت كل السبل للتواصل مع الكتَّاب في جميع الأوقات عبر البرامج الرقمية، حتى إننا كنا نتابع سير كل كاتب أثناء كتابته على برنامج “غوغل درايف”. كنا نرافقه ونتحدث معه عن كل الصعوبات والملاحظات الفنية من دون تنظير. وكانت هذه الورشة تمتاز بأمر لم أره في كثير من الورش، وهو الوقت. لقد كانت الورشة في نسختها الثانية قائمة على مدار عام كامل، وكان كل من يعمل فيها متطوعين.
جوابًا عن سؤال الجدوى
من خلال هذه التجربة في عالم وِرش الكتابة، والخاصة بالرواية، يتساءل البعض: ماذا تقدِّم ورش الكتابة للمشاركين؟ وما الأشياء التي لا تستطيع تقديمها؟
هذا السؤال محل نقاش دائم، بين مؤيد للورش ومعارض لا يرى فيها سوى الاستغلال وقبض الأموال من معدومي الموهبة. لكني أراها فعلًا أدبيًّا صحيًّا، متى ما كانت هناك اشتراطات فنية واضحة، تتوافر في المشارك والمشرف. فالمشارك إذا كان كاتبًا، فلا بدَّ من توفر أدوات السَّرد لديه، التي تمكِّنه من خوض غمار التجربة. ومن الظلم دفع بعض ممن يفتقرون إلى أبسط أدوات الكتابة إلى هذه الوِرش. حتى إن بعضهم لديه مشكلة مع القراءة، ومع ذلك تقبلهم بعض الورش خاصة تلك التي تستلزم دفع رسوم.
فبالنسبة إلى من لديهم تجربة مع الكتابة، وقد شقُّوا طرقهم في عالم القراءة من سنوات طويلة، تعدُّ الورش تجربة رائعة ومفيدة، خاصة إذا منح القائم على الورشة خبرته وتجربته بإخلاص. ولكن، ما الحدود بين ما يشاركه المدرّب مع المتدربين وما لا يشاركه؟
حتى لو أراد المدرب ألا يبخل بكل خبرات عمره في الكتابة، فحدود الاستجابة محكومة كذلك بخبرات وتوجهات مشاركين متعددين. ويبقى أن الرفقة تضيء عوالم السَّرد. ربَّما يدور حديث جانبي حول شكل الرواية، فتكون إضافته أفضل من ساعات من التنظير.
أمَّا الأشياء التي لن تمنحها الورش، فهي اللغة السَّردية التي تكتب بها، وهو الأسلوب الخاص، القدرة على خلق المتعة في النص. هذه الأشياء بيد الكاتب نفسه. وهناك روح وإحساس وجمال وسحر، لن تمنحه لك وِرش الكتابة، ولا أعظم الروائيين والمحررين في عالم الأدب. هذا شأنك أنت فقط.
بعيدًا عن المال، ماذا قدَّمت لي وِرش الكتابة بعد أن عقدت الكثير منها؟ لقد عزَّزت لديَّ روح العطاء ومشاركة المعرفة والتجربة للآخرين. وهذا ما تلبث أن ترى أثره ماثلًا أمامك عبر أعمال كانت في السابق مجرد فكرة!

في إيثار المقهى على الورشة
أحمد شافعي
واضح أن “لسان العرب” لم يكن يحتوي كلمة تعني “الورشة” تصلح مقابلًا لكلمة “workshop” الإنجليزية. ولذلك اضطر آباء لنا إلى هذا التعريب الجميل بأخذهم الواو والراء من “work” والشين من “shop” مع إضافة ساحرة لـ”تاء التأنيث”. ويا لها من لمسة تكشف كم كان أولئك القوم مطمئنين وهم يُدخلون في لغتهم كلمة غريبة! ببساطة من يضيف في بيته الخاص ستارة أو نافذة.
الورشة جديدة.. أمَّا التدريب فلا
قد يبدو مفهوم “الورشة” غريبًا عن اللغة العربية والثقافة العربية. لكنني لا أعتزم أن أستند إلى هذا لأقول إن مفهوم التدريب العملي على حرفة الأدب دخيل علينا. ففي ذاكرة الأدب العربي واقعتان تقولان عكس ذلك.
في إحدى الواقعتين يأتي صبي إلى خلف الأحمر ويستأذنه في قول الشعر، فيشترط عليه أن يحفظ ألف بيت من شعر العرب. وحين يرجع الصبي وقد حفظها، يشترط عليه أن ينساها. فيذهب الصبي إلى دير يمكث فيه حتى ينسى. ثم يُؤذن له أخيرًا بقول الشعر، فيصبح أبا نواس.
وفي الثانية يأتي شاعر إلى أبي تمام ليأخذ عنه الشعر، بعد أن كان ينظمه معتمدًا على طبع سليم، فيوجِّه إليه أبو تمام نصائح من قبيل أن يكتب في السَّحر بعد قسط من الراحة، وأن يكتب وهو خالٍ من الهموم والغموم. إلى آخر ذلك مما لا نعلم، هل أخذ به الشاب أم أهمله، لكننا نعلم أنه أصبح البُحتري.
التلميذ هو من يختار أستاذه
في الغرب، وقبل استحداث “الورشة الأدبية” وتدريس الكتابة الإبداعية، لدينا نموذج ورشة تلقائية غير رسمية، لا سلطة فيها للأستاذ على التلميذ إلا التي يحددها التلميذ بنفسه، ولا شهادة تخرج، ولا وعد بالنشر، ولا تكلفة زهيدة أو باهظة تخرج الأمر كله من فعل الأدب إلى ممارسة التجارة. بطلا هذه الحكاية هما الشاعران الأمريكيان إزرا باوند ودبليو إس ميروين، وتجري في عنبر بمستشفى المجانين. ويا له من مكان مثالي لتعليم كتابة الشعر!
يحكي ميروين أنه حج إلى إزرا باوند في أواخر عمره، وقد استقر في مستشفى للأمراض العقلية بدلًا من السجن أو ما هو أسوأ، بعد إدانته بتهمة موالاة الفاشية في الحرب العالمية. نصح الشاعر الكبيـر تلميـذه قائلًا إن عليه ليبرع في الشعر أن يكتبه كل يوم. ولأنه في عمره الصغير هذا، ولم يكن ميروين قد تجاوز العشرين، لن يجد ما يكتبه كل يوم، فعليه أن يترجم الشعر؛ أي شعر، ليحافظ على لياقة مفاصل أصابعه بتعبير راسل إدسن.
في الوقائع الثلاث نجح التدريب في تخريج ثلاث دفعات ممتازة. وفيها جميعًا يجدر بنا أن ننتبه إلى أن التلميذ هو الذي اختار الأستاذ، بل هو الذي اختار المنهج أيضًا في حالتين. فما الذي فرضه خلف الأحمر فعلًا على تلميذه؟ إنما أراده فقط أن يتصعلك في شعر العرب. فلم يفرض عليه، مثلًا، امرأ القيس إذا ركب، أو زهيرًا إذا رغب، أو النابغة إذا رهب، أو الأعشى إذا شرب. وما الذي “فرضه” باوند على ميروين الشاب؟ إلا أن يترجم؛ أي أن يقترب من الشعر اقتراب مبدعيه الأصليين منه، ولم يلزمه حتى بالمؤسسين الأوائل في اليونانية أو اللاتينية، أو بالكلاسيكيين في الإنجليزية، لم يزد باوند على فتح باب للشاعر الصغير على المتاهة العظيمة التي سيؤسس فيها لاحقًا ركنه الصغير.
أمَّا أبو تمام، فلا أفسر نصيحته إلا بأحد أمرين: إمِّا أن التلميذ أتاه مكتمل الأدوات، بغير حاجة إلى أكثر من المساعدة في تنظيم وقته، وإمَّا أنه أراد أن يصرفه عنه بنصيحة عامة. وفي كلتا الحالتين أنتج أبو تمام منافسه وشريكه في الذكر حتى يومنا هذا، ونقيضه بمعنى من المعاني.
لم يُنتج أي من الأساتذة الثلاثة في الوِرش الثلاث نسخة منه، لأن أحدًا منهم لم يعلم تلميذه كيف يحكم التشبيه أو يخلق المجاز أو يستهل القصيدة. كلهم ألقوا تلاميذهم في البحر، وهم واثقون أن النجاة لن تُكتب إلا لمن يستحقها، وكذلك الغرق.
كثيرًا ما يحلو لي الظن أن بدعة مأسسة وِرش الكتابة ما ظهرت إلا لتحل مشكلة أمريكية، وهي مشكلة جغرافية وديمغرافية، ثم لتشبع جشعًا اقتصاديًا أيضًا.
إن المسافات الشاسعة بين البلدات والمدن الأمريكية تولّد صعوبات حقيقية تحول دون التواصل بين أهل هذه التجمعات السكنية، بما يمنع فعلًا تكوين وسط ثقافي حقيقي يسهل فيه التقاء الكتاب الناشئين خضر العيدان بالراسخين المحنكين، ويسهل فيه انتقال الخبرات وتبادل المخطوطات، وتكثر اللقاءات البسيطة حول طاولات المقاهي، حيث تنتفي السلطة، ويختار التلميذ أساتذته.
لماذا نشأت الوِرش وتسرطنت؟
في ظل تلك المصاعب، كان لا بدَّ من اصطناع وسط يجمع المتمرسين بالكتابة مع المبتدئين فيها؛ فكانت الورش، وأقسام تدريس الكتابة الإبداعية، ومشاريع التخرج (يا له من تعبير أوله التجارة وآخره الامتحان!). ثم يتحول ذلك، آجلًا أم عاجلًا، إلى تجارة واضحة، وبدلًا من بضع حلقات حول بضعة أدباء موهوبين ومتحققين، تتسرطن الورشة إلى مئات الورش، ويتولَّى أمرها المتوسطون أو الدخلاء؛ فيقررون وصفات محددة للرواية، وأخرى للقصيدة وللقصة، ويجعلون من عمل جوهره التدريب على المروق ونقض القديم خطًا للإنتاج؛ فيتوالى صدور آلاف الكتب المتماثلة تماثل علب التونة على أرفف المتاجر.
التسامح مع الإبداع أو السماح بتقليده
كثيرًا ما أتصور أن رواية مثل “مائة عام من العزلة”، بمفارقتها الواضحة لوصفات الروايات السابقة عليها، ما كانت لتظفر بموافقة كاتب “مديوكر” يدير ورشة. وكثيرًا ما أتصور أستاذ كتابة ينصح ماركيز بإعادة بناء “سرد وقائع موت معلن” لتصبح رواية إثارة حقيقية، أو رواية بوليسية يلهث القارئ فيها إلى أن ينكشف القاتل بدلًا من كشف نبأ القتل من السطر الأول. كثيرًا ما أتصور كونديرا، وهو ينظر في مسودة رواية له، وقد لوث المشرف عشرات الصفحات منها بإشارات حمراء مطالبًا بحذف المقالات والتأملات والاستطرادات الفلسفية التي تميز كونديرا. كثيرًا ما أتخيل كل ما جاء على غير مثال قبله: روايات من قبيل “عوليس” و”البحث عن الزمن المفقود”، وقصائد مثل الأرض الخراب، وشعراء مثل فرناندو بيسوا. أتخيل كل ذلك ممزقًا في سلال قمامة وِرش الأدب بسبب حرس البوابات الذين لا يتسامحون مع الإبداع، ولا يسمحون إلا بتقليد الإبداع.
يحكي فريدريك توتن حكاية عن بول بولز ومشاركته في الإشراف على ورشة لتعليم الكتابة. وكلنا نعلم بول بولز على النحو الذي يليق به، فهو المارق، والخارج على أعراف الكتابة والمجتمع، واللائذ بطنجة بحثًا عن الحرية.
حينما أراد سدنة صناعة تدريس الكتابة استغلال بول بولز، وهالة انتمائه إلى جيل البيت الأمريكي وفتنته الخاصة، عقدوا له ورشة كتابة في طنجة، وبعثوا إليه بروائي شاب ناجح هو فريدريك توتن لـ “يشاركه” التدريس، أو لينوب عنه فيه بالأحرى، بينما يجلس بولز مدخنًا في آخر الفصل، وراء آخر الطلبة.
يحكي فريدريك توتن أن الطلبة كانوا يلتحقون بالورشة، طامعين في كلمة استحسان واحدة من بولز، لكنه كان يدخر تعليقاته ليشير إلى موضع يلزم فيه تعديل فاصلة منقوطة أو فقرة أو زمن، أو ليقول: “في الصفحة الرابعة تقول (فكَّر أن يشتري لها زهورًا)، لكن المؤكد أنك تقصد (كان قد فكَّر أن يشتري لها زهورًا)، أو أني أتصور أنك قد قصدت ذلك”.
ولا يزيد. فذلك أقصى ما يمكن تعليمه في الكتابة: علامات الترقيم والنحو والصرف. وحينما حاول توتن أن يستدرج بولز إلى المزيد احتال عليه، قائلًا: “أرجو ألا تضيق بمشاركتي لك في الفصل يا أستاذ بولز”.
فقال بولز: “مطلقًا. فأنا لا أعرف ما ينبغي عمله. لم أُدرِّس الكتابة من قبل، ولا أظن أصلًا أنها قابلة للتدريس”. ثم أضاف رجاء أخيرًا، ليضمن أن يظل الكاتب وحسب: “ومن فضلك، نادني بول”