
الموضة السريعة
نوفمبر 9, 2025
تصاعد في الآونة الأخيرة جدل عالمي حول ما يُسمَّى بـ"الموضة السريعة"، وهو مصطلح يشير إلى نمط من إنتاج الملابس بتكلفة رخيصة وتنوع كبير في التصاميم التي تتغير بمعدل سريع، حتى إن حياة الطراز الواحد من هذه الأزياء أصبحت تُقاس بالأشهر وليس بالسنين.
وهذا المعدل في تبديل الموضة، والعمر القصير للأقمشة، قد وضع المخاطر البيئية في قلب الجدل حول "الموضة السريعة". وفي المقابل، هناك من يتحدث عن آليات السوق وعن حق أعداد أكبر من البشر في الوصول إلى ملابس بسعر معقول. وهناك من يشير إلى أن الحرب التجارية بين الشرق والغرب، هي السبب في التعظيم من شأن هذه المخاطر. تطرح "القافلة" هذه القضية على فريقها والكاتبتين: الناقدة والأكاديمية شيرين أبو النجا، وصاحبة مبادرة "منسوج" وجدان المالكي.
“
وفقًا لتقارير برنامج الأمم المتحدة للبيئة تستهلك صناعة النسيج والأزياء حوالي 93 مليار متر مكعب من الماء سنويًّا في عمليات الصباغة
1- إدارة المخاطر في صناعة النسيج
فريق القافلة
المَلْبس ألصق شيء بحياة الإنسان بعد مأكله، لذلك من الطبيعي أن تكون صناعةُ النسيج أقدمَ الصناعات. ومع التطور الحضاري، ارتفع الثوب من مستوى الضرورة إلى مستوًى ثقافي وفني واجتماعي من خلال التنويع في الخامات والألوان. فبعد القطن والكتان والحرير والصوف، شهد القرن العشرون ظهور الألياف الصناعية، مثل النايلون والبوليستر، التي تمتاز بأنها أمتن وأرخص ثمنًا من الألياف الطبيعية. وإلى جانب التطوُّر في التقنيات والخامات المستخدمة خلال القرن الماضي حدث تحوُّل جديد في مراكز ثقل الصناعة، فبرزت الهند وبنغلاديش والصين بسبب انخفاض أجرة الأيدي العاملة فيها. وقد أثارت هذه الميزة، تحديدًا، انتقادًا واسعًا لصناعة النسيج، بسبب ظروف العمل الصعبة وغير الآمنة لإنتاج العلامات الشهيرة من الملابس التي تُنتَج بكميات كبيرة، وتُباع بأسعار تتجاوز عشرات أضعاف كلفتها.
ولم ينتهِ القرن العشرون، إلا والكوكب مُثقل بالملوِّثات من كلِّ نوعٍ، وهو ما أسفر عن وعي بيئي متزايد يحاسب جميع الصناعات من منظور بيئي. ولم تكُن صناعة النسيج استثناءً.
فوفقًا لتقارير برنامج الأمم المتحدة للبيئة، تستهلك صناعة النسيج والأزياء حوالي 93 مليار متر مكعب من الماء سنويًّا في عمليات الصباغة وحدَها، وتُصرّف هذه الكمية من المياه ملوَّثةً بالأصباغ والمعادن الثقيلة، وهو ما يجعل معالجتها مشكلة بيئية ضخمة. وبحسب هذه التقارير تُعدُّ صناعة النسيج مسؤولة عن 20% من التلوث الصناعي للمياه في العالم، إضافة إلى نحو 10% من انبعاثات الكربون عالميًّا؛ أي ما يفوق انبعاثات الطيران والشحن البحري معًا.
إضافة إلى ما سبق، تستهلك هذه الصناعة نسبة كبيرة من الموارد المائية لزراعة الخامات العضوية، وخصوصًا القطن؛ لأنه نبات كثيف الاستهلاك للماء، وتحتاج زراعته إلى كميات كبيرة من المبيدات الحشرية التي تُرهق التربة وتلوّث البيئة. ثم تُختم سلسلة التلوُّثات بالنفايات النسيجية، خاصةً بعد شيوع "الموضة السريعة" وإمكانات التسويق الإلكتروني التي سهَّلت على المستهلكين التعامل مع شركات التصنيع مباشرة. هذه السهولة والأسعار المعقولة أسهمت في انتشار ملابس تنتهي في مكبات النفايات بملايين الأطنان سنويًّا.

مواد صديقة للبيئة
لا يمكن لصناعة لصيقة بوجود الإنسان، مثل صناعة الملابس، أن تتوقف، فالحلُّ من وجهة النظر البيئية يكمن مبدئيًّا في التركيز على استخدام المواد الصديقة للبيئة، مثل "القطن العضوي"؛ أي القطن المزروع من دون استخدام مخصّبات أو مبيدات صناعية وبذور معدَّلة وراثيًّا، وذلك حفاظًا على صحة التربة، وصحة العامل الزراعي، وفي الوقت نفسه لضمان عدم حمل النسيج بقايا هذه الملوثات التي قد تؤثر في المستهلك.
وإضافة إلى ذلك، يجب تشجيع وسائل الري الحديثة لتقليل استهلاك الماء، وكذلك تشجيع فكرة الاستدامة على استخدام الألياف المُعاد تدويرها بدلًا من الألياف الصناعية. كما تتركَّز عملية تقليل التلوث في الأصباغ، لأنها تُعدُّ المصدر الأكبر للتلوث الكيميائي في هذه الصناعة. ولهذا، تتجه الدعوات إلى استخدام الأصباغ الطبيعية المستخلص بعضها من النباتات مثل النيلة والكركم والرمان، وبعضها من الأحجار والمعادن.
وهناك أيضًا الأصباغ الحيوية التي تُنتَج من بكتيريا وفطريات قادرة على إفراز الأصباغ. وإلى جانب ذلك، هناك الصباغة منخفضة الأثر التي تحتاج إلى كميات أقل من المياه والطاقة، وتخلو من المواد السَّامة مثل المعادن الثقيلة ومركبات الفورمالدهيد. وهناك الصباغة من دون ماء باستخدام ثاني أكسيد الكربون فائق الحرج (Supercritical CO2). لكن هذا الاتجاه يعرقله عدد من المشكلات، مثل صعوبة تثبيت الألوان، والحاجة إلى مساحات أكبر من الأراضي الزراعية.
“
ما يهم دعاة البيئة في "ذكاء الملابس" هو قدرتها على تحقيق الاقتصاد في الاقتناء وتحلّل نفاياتها. ولكن المستهلك مهتمٌ بشأن آخر
ملابس ذكية
منذ آلاف السنين أعطى الإنسان الثوب وظائف جديدة، مثل استخدامه للزينة والإبهار من خلال اللون والتطريز والتصميم. وقد تطوَّر الأمر إلى أن وصل إلى محاولة دمج وظيفة التدفئة الكهربائية بعد اختراع الكهرباء. أما الجهود التجارية الجادّة فقد بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر، مع تصميم سترات الصيادين والجنود بجيوب كثيرة وكبيرة للذخيرة ولوازم أخرى، وسترات ببطانة سهلة الخلع لتجعلها صالحة لأكثر من فصل ومناخ. ومع الطفرة التكنولوجية الحديثة صارت هناك ملابس تستطيع مراقبة الوظائف الحيوية للمريض في المستشفيات، وأخرى تؤدِّي مهامَّ التواصل الإلكتروني. لكن ما يهمُّ دعاة البيئة من "ذكاء الملابس" هو قدرتها على تحقيق الاقتصاد في الاقتناء وتحلل نفاياتها. وهذا ما تُحقِّقه الأقمشة التفاعلية مع البيئة التي تستجيب للمؤثرات الخارجية، مثل الضوء والحرارة والرطوبة والضغط والإشارات الكهربائية، وهو ما يجعلها صالحة لأكثر من مناخ. إضافة إلى أنها تساعد على تقليل استهلاك طاقة التبريد والتدفئة. وما يهم أخيرًا أن موتها رحيمٌ بالبيئة من خلال التحلُّل الحيوي الآمن لنفاياتها.
ويندرج تحت فكرة الملابس الذكية كذلك اتجاه "الإنتاج حسب الطلب" الذي يعزِّز تقليل الاستهلاك.
وقد تزايد الاهتمام بإنتاج الملابس الذكية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وشكَّل ارتفاعًا ملحوظًا في عام 2010م. فهناك تقديرات تُشير إلى أن حجم تجارة هذا النوع من الملابس بلغ نحو 2.3 مليار دولار عام 2021م، ومن المتوقّع أن يرتفع ليصل إلى 6.5 مليار دولار عام 2030م، وهناك توقعات أخرى أن تبلغ هذه التجارة 20 مليار دولار.
تكمن المشكلة في أن الدعوات إلى استخدام الملابس الذكية التي تدوم طويلًا تُخاطب العقل والحسّ الإنساني بالمسؤولية المشتركة عن بيئة الكوكب. لكن في المقابل، تخاطب "الموضة السريعة" جيب المستهلك المتطلع إلى عيش تجربة الموضة بسعر يناسبه!

2- التاريخ الأبيض للموضة وأحزانها السريعة
شيرين أبو النجا
في عام 1858م، توقفت أنظار المارَّة في شارع سانت أونوريه في باريس تحت ضوء المصابيح عند واجهة محل صغير فاخر، تظهر فيه فساتين مذهلة لا تشبه أي شيء عرفوه من قبل؛ ألوان متناسقة، وتطريز دقيق، وأقمشة فاخرة. داخل المتجر، وقف رجل نحيل وهادئ الملامح، لكنه يملك نظرة حادة لافتة؛ لم يكُن مجرد خياط، بل فنانًا ينسج أحلام النخبة الأوروبية بخيوط الحرير وبشغف كبير ليُعيد بيعها بمالٍ وفيرٍ. إنه تشارلز فريدريك وورث (1825م – 1895م). ويُقال إن الإمبراطورة أوجيني، زوج نابليون الثالث، زارت المتجر ووقعت في سحر فساتينه. ومنذ تلك اللحظة، أصبح "وورث" رمزًا للموضة الراقية، وتحوّل متجره إلى مسرح للأناقة والابتكار؛ حيث وُلِدت عروض الأزياء الحديثة، ووقَّع المصمّم على كل قطعة وكأنها لوحة فنية، مؤسِّسًا تقليدًا لم يعرفه التاريخ من قبلُ.
تعلَّم "وورث" صناعة الملابس في إنجلترا، ثم قرَّر الانتقال إلى باريس في أوائل خمسينيات القرن التاسع عشر؛ لأن باريس كانت مركز الموضة آنذاك. هناك بدأ عمله مُصمّمًا في متجر للأقمشة الإيطالية، ثم سرعان ما أسَّس مع شريكه الإنجليزي جورج باركر الدار الخاصة بهما في عام 1858م. لكن كيف اخترع "وورث" الموضة الحديثة؟
لجأ "وورث" إلى التصميم بدلًا من التنفيذ التقليدي الذي كانت تتبعه الخياطة التقليدية للعائلات الأرستقراطية والنخبة. كانت الملابس تُصنع عادةً بحسب طلب الزبونة، مع تدخُّل محدود للخيّاطة بمهارتها، كما ظهر ذلك في رواية الإيطالية بيانكا بيتسورنو "حلم ماكينة الخياطة" (2018م). لكن "وورث" قلب هذا النظام، فأصبح هو المُصمِّم الرئيس وصاحب الرؤية، والنساء يشترين من تصاميمه الجاهزة للعرض. بالإضافة إلى ذلك، استحدث توقيع المُصمِّم بوصفه علامة للتميّز، وهو ما حوَّل الملابس إلى قطع فنية. وهو مفهومٌ أساسٌ في صناعة الموضة الحديثة اليوم. كانت هذه لحظة فارقة من منظور إضافي؛ إذ أصبح "وورث" يُملي على النساء ما يلبسن. وهنا انتقلت سلطة اختيار الأزياء من المرأة أو خياطها الخاص إلى المُصمِّم الرجل، وهو ما أسّس لبُنية ذكورية في صناعة الموضة الحديثة.

من معرض "وورث..ابتكار الأزياء الراقية" في متحف بيتي باليه بباريس، حيث تحوّلت الخياطة إلى فن يحمل توقيعًا شخصيًا.
في عام 1903م تقريبًا، افتتح الفرنسي بول بواريه (Paul Poiret) (1879م – 1944م) دارًا باسمه. ومن أهم إنجازاته تحرير النساء من لبس الكورسيه الخانق. وقد استوحى تصاميمه من الملابس الشرقية (أحد أشكال الاستشراق)، فاستخدم الألوان الزاهية، والتطريز الكثيف والأقمشة الفاخرة. أُغلقت الدار بعد الحرب العالمية الثانية لكن أثر بواريه كان كبيرًا. فالـكورسيه الذي شاع في أوروبا منذ القرن السابع عشر حتى بدايات القرن العشرين، شكّل أداة قامعة تفرض إعادة تشكيل الجسد وفق معايير مثالية مفروضة من الخارج.

الموضة بوصفها خطابًا اجتماعيًّا
لم تكن الموضة، منذ نشأتها الحديثة في القرن التاسع عشر، مجرد أقمشة وألوان تُطرَّز لتزيين الجسد، بل أصبحت خطابًا اجتماعيًّا وثقافيًّا يكشف علاقات القوة والطبقة والجندر. فالملابس تحكمها القوانين والعادات، ويُعاد إنتاجها بوصفها مؤشرات على الوضع الاجتماعي والهوية الفردية. وبالنظر إلى التاريخ، نجد أن الموضة تُجسّد مسارًا جدليًّا بين القيد والتحرُّر، وبين فرض معايير ذكورية على الجسد الأنثوي وسعي النساء لانتزاع حرية الاختيار. تقول إليزابيث ويلسون: "الموضة ليست مجرد ثوب، بل تعبير عن الحداثة، وصراع مستمر بين الحرية والانضباط".
في استعادة تاريخ الموضة وتطوُّرها لا يمكن إغفال تقاطعات الهوية مع الملابس في العصر الحديث. ففي عام 1950م، أُسِّست مجلة "بوردا ستايل" في ألمانيا (التي لا تزال تصدر حتى اليوم) لتُتيح للنساء فرصة تحقيق أحلامهن لكن بأسعار أقل. في الستينيات والسبعينيات، أصبحت الموضة تعبيرًا عن الشخصية، وأصبح تَسوُّق الملابس نشاطًا ترفيهيًّا. الموضة لعبةٌ لها قواعدها، فهي تجلب الرساميل الاقتصادية من الأسواق، والرمزية من الشهرة. لكنها لعبة خطرة؛ فمن منظور نسوي، تمثل الموضة أحيانًا أداةَ هيمنة، ولكنها في أحيان أخرى تصبح أداةً للمقاومة، ولا يمكن فهم الموضة والموضة السريعة من منظور نسوي من دون أخذ العِرق والطبقة في الاعتبار. فهناك دراسات نسوية سوداء تبيّن كيف وظّفت النساء الأفرو-أمريكيات الشَّعر الإفريقي والملابس التقليدية، ليُعلنَّ رفض المعايير البيضاء للجمال التي كانت تُعد المرجعية الوحيدة.
وفي هذه الجدلية يفقد الغرب الأبيض مكانته المركزية شيئًا فشيئًا، لصالح "الجنوب العالمي"، وذلك ببروز مُصمِّمين يحصدون الشهرة من أسماء نجوم غربيين أقدموا على ارتداء ملابس من تصميمهم.
“
ظهر مصطلح "الموضة السريعة" للمرة الأولى في صحيفة "نيويورك تايمز" عام 1990م. وبحلول منتصف التسعينيات، كانت الموضة السريعة قد أصبحت القاعدة الرئيسة التي تحكم السوق.
ولادة الموضة السريعة
مع نمو الطبقة الوسطى، ازداد عدد الشباب الطامحين إلى محاكاة نجوم السينما الذين حلّوا محل النخب النبيلة بوصفهم مركز ثقل اجتماعي. تلاقى هذا التطلُّع مع حاجة المنتجين إلى التوسُّع. وفي عام 1980م، وضعت الولايات المتحدة الأمريكية لمستها من خلال مفهوم "الاستجابة السريعة"، وهو المبدأ الذي بُني عليه مفهوم "الموضة السريعة" التي تسارعت وتيرتها ابتداءً من تسعينيات القرن الماضي. وقد ظهر مصطلح "الموضة السريعة" للمرة الأولى في صحيفة "نيويورك تايمز" عام 1990م. وبحلول منتصف التسعينيات، كانت الموضة السريعة قد أصبحت القاعدة الرئيسة التي تحكم السوق. فهي موضة تُحاكي أحدث صيحات المُصمِّمين من حيث الخطوط والألوان، ولكن باستخدام خامات رديئة وأسعار زهيدة. هذه الملابس تُستخدم موسميًّا، ثم يُتخلَّص منها لإفساح المجال للجديد.
“
في العالم العربي، تتحول أزياء مثل القفطان المغربي أو العباءة الخليجية إلى رموز للهوية، وفي الوقت نفسه إلى منتجات عالمية تدخل ضمن الموضة الراقية.
وفي الدول العربية، تتحوَّل أزياء مثل القفطان المغربي أو العباءة الخليجية إلى رموز للهوية، وفي الوقت نفسه إلى منتجات عالمية تدخل ضمن الموضة الراقية ليُعاد تقديمها في الموضة السريعة مع تغيير الاسم من عباءة إلى "كاردجيان".
وهكذا، تُعيد الموضة إنتاج معنى جديد للهوية النسوية المحلية في سياق العولمة. وكما تقول رجاء بن سلامة (2010م)، الموضة هنا "وسيط للتفاوض بين الحداثة والتراث". جانب آخر مهمٌّ هو البعد الاقتصادي؛ فالموضة أتاحت للنساء فرصًا كبيرة للعمل والإبداع، من الخيَّاطات التقليديات إلى مُصمِّمات عالميات. لكن في الوقت نفسه، تعتمد الصناعة على ملايين العاملات في مصانع النسيج في بنغلاديش أو فيتنام؛ إذ يُستغللن في ظروف قاسية مقابل أجور زهيدة. إذًا، الموضة تحرّر بعض النساء (النخب والمُصمِّمات) وتستعبد أخريات (العاملات في خطوط الإنتاج). هذا التناقض يوضح أن الموضة ليست مجرد قضية جمالية، بل أيضًا قضية طبقية وجندرية وعالمية. والدليل أن الماركات العالمية (البيضاء) عادت بقوة في وسط الأزمة الاقتصادية العالمية لتعمل بوصفها مؤشرًا على الطبقة.
مع احتدام التنافس الاقتصادي، نقلت معظم العلامات الأوروبية والأمريكية الشهيرة مصانعها إلى بلدان العالم الثالث والصين بحثًا عن الأيدي العاملة الرخيصة التي تتكوَّن غالبيتها من النساء. ولم تلبث مراكز التنفيذ هذه أن انفردت بإنتاجها، سواء عبر تقليد العلامات الشهيرة، وهو ما حدا بأوروبا إلى إصدار قانون يجرّم لبس العلامات المقلدة، أو عبر محاولات إنتاج مستقل ومقنع.
وفي ظل احتدام صراع التجارة العالمية، تحوَّل مبدأ "الاستجابة السريعة" إلى الأسرع فالأسرع، مع هاجس تقديم أفضل سعر. وهذا الأمر لا يكون إلا على حساب جودة الخامات، وبالطبع على حساب البيئة.
3-على السجادة الحمراء في فستان قديم..
بين تكريم التاريخ والعطف على البيئة
وجدان المالكي
يبدأ التغيير غالبًا بمشهد بصري خاطف: نجمة مشهورة على السجادة الحمراء تختار ألّا ترتدي جديد الموسم، بل قطعة قديمة. أحيانًا تكون القطعة من أرشيف الدار، وأحيانًا أخرى قطعة حديثة أُعِيد تنسيقها أو تعديلها. الفارق بين الخيارين جوهري. حين تختار الممثلة والمغنية زندايا فستانًا معدنيًّا من مجموعة "موغلر" عام 1995م، فهي تحتفي بالإرث، وتضع اسم المُصمِّم في دائرة الضوء. لكن هذا لا يعني بالضرورة أنها تدعو المستهلك إلى إعادة ارتداء ملابسه. أمَّا حين تظهر كيت بلانشِت في مهرجان البندقية وقد حولت ثوبًا ارتدته قبل عام إلى بِنطال جديد، فهذه رسالة صريحة أن القطعة لا تُستهلك في ليلة واحدة، ويُمكن أن تُمنح عمرًا آخر. وهنا تكمن القيمة الاستهلاكية والبيئية في آنٍ واحد.
“
إطالة عمر قطعة الملابس تسعة أشهر إضافية فقط تخفّض بصمتها الكربونية والمائية بنسبة تصل إلى 30%.
أثر المشاهير في ثقافة الأزياء
هذه المشاهد لا تبقى حبيسة صالة العرض أو السجادة الحمراء؛ فصور المشاهير تنتقل خلال دقائق إلى الصفحات الأولى للصحف وحسابات إنستغرام وإكس وتيك توك لتصبح مادة نقاش عام. وسرعان ما تتحوَّل الإطلالة إلى عمليات بحث في غوغل، ثم يرتفع الطلب عليها في المتاجر الإلكترونية، وأحيانًا تتحول إلى صيحات تنتشر بين الناس. تُعد الموضة في عصر المنصات من ضمن المحتويات سريعة الانتشار. ولهذا، فإن اختيار قطعة قديمة بدل الجديدة له أثر مضاعف؛ فهو يُغيِّر القصة الإعلامية، ويزرع فكرة في عقول ملايين المتابعين أن تكرار اللباس ليس عيبًا، بل سلوك واعٍ.
هذا التفريق بين ارتداء الأرشيفي والمُعاد ارتداؤه ضروريٌّ لفهم أثر المشاهير في ثقافة الأزياء. الأول يُكرِّم التاريخ ويُعلي الذائقة. أمَّا الثاني فيخاطب السلوك الاستهلاكي مباشرة؛ لأنه يجعل إعادة الاستخدام خيارًا مرئيًّا ومشروعًا أمام الجمهور. ولعلَّ أهميته تتأكّد عندما نقرأ الأرقام: مؤسسات دولية مثل (WRAP) البريطانية تؤكّد أن إطالة عمر قطعة الملابس تسعة أشهر إضافية فقط تخفِّض بصمتها الكربونية والمائية بنسبة تصل إلى 30%. أمَّا مضاعفة عدد مرات ارتدائها، فتقلل الانبعاثات بنحو 44%. وما تستهلكه هذه الصناعة من المياه سنويًّا، يكفي لتلبية احتياجات خمسة ملايين شخص. هذا يعني أن قرارًا بسيطًا، مثل إعادة ارتداء فستان على السجادة الحمراء، يحمل دلالات أبعد من الموضة، ويمسّ قضايا مناخية وبيئية كبرى.

مبادرات أثَّرت إيجابًا
لكن هل لهذه الإشارات أثر فعلي في سلوك الناس؟ ثمّة دلائل متعددة. ففي إسبانيا، أطلقت علامة "أدولفو دومينغيز" حملة بعنوان "الملابس القديمة" (Ropa Vieja)، حوَّلت فيها الملابس السابقة لعملائها إلى محور الإعلان نفسه، في خطوةٍ أرادت من خلالها ترسيخ فكرة أن القيمة لا تنتهي بخروج القطعة من الموسم. وفي بريطانيا تُقام حملة سنوية بعنوان "سبتمبر المستعمَل" (Second Hand September)، تقودها منظمة "أوكسفام" منذ سنوات. وقد بلغت ذروتها بعرض أزياء كامل من ملابس مستعملة ضمن أسبوع الموضة في لندن. وكانت الرسالة مباشرة: "المستعمَل يمكن أن يكون أنيقًا ومثيرًا كالجديد تمامًا". وتُعد الممثلة البريطانية الهندية "جميلة جميل" واحدة من أبرز وجوه هذه الحملة، واستطاعت عبر حضورها الإعلامي أن تدفع بمتاجر المنظمة الإلكترونية إلى تسجيل زيادات ملموسة في حركة الشراء. هذه الأمثلة تكشف أن تأثير المشاهير ليس عابرًا، بل ينعكس على سلوك الشراء مباشرة، ويرسّخ ثقافة "المرغوب سابقًا" بوصفه خيارًا متاحًا وجذَّابًا.
دخول المؤثرين على الخط
المؤثرون أيضًا أدَّوا دورًا حاسمًا خارج دائرة النجوم التقليدية. فقد تحولت منصة تيك توك إلى مختبر عالمي لإعادة التدوير الشخصي؛ إذ تنتشر فيها مقاطع (thrift flip) و(upcycling) بين ملايين المشاهدين. من تحويل قميص جينز إلى حقيبة يد، إلى صيانة فستان دانتيل قديم. وأصبحت إعادة الاستخدام ثقافة بصرية متداولة لا تحتاج إلى وساطة مجلات الموضة الكبرى.
المستعمَل يصبح قطاعًا قائمًا بذاته
هذه الثقافة الرقمية فتحت الطريق لتوسّع هائل في منصات إعادة البيع. فقد تجاوزت قاعدة مستخدمي منصة "ڤينتد" 80 مليون شخص في أوروبا، ووصلت "ديبوب" إلى عشرات الملايين من الشباب، وأصبح المستعمَل قطاعًا قائمًا بذاته ويحقّق نموًا أسرع بسبعة أضعاف من سوق الأزياء الجديدة في بعض الأسواق الغربية. وهذا يعني أن الجيل الجديد لم يكتفِ بالمشاهدة، بل تحوَّل إلى ممارس نشاط يُعيد صياغة معنى الموضة في حياته اليومية.
ومع هذا التوسُّع، بدأت دُور الأزياء الكبرى نفسها تتعامل مع المستعمَل لا بوصفه تهديدًا، بل قناة رسمية. أطلقت "غوتشي" و"بالينسياغا" منصات لإعادة البيع، وتضاعفت الاستثمارات في خدمات الإصلاح. ما يحدث هنا هو أن السوق لم تتقلص، بل أعادت ترتيب نفسه، وأن المستعمَل الآن لم يعد الهامش، بل أصبح جزءًا من دورة الاستهلاك. ومع أن بعض تجار التجزئة يخشون من "التهام" المبيعات الجديدة، فإن نماذج العمل الجديدة تُظهر أن المستعمَل يمكن أن يكون أداة ولاء طويلة الأمد، تجذب العميل، ثم تُعيده لاحقًا لشراء الجديد، وهو ما يحوّل التهديد إلى فرصة.
لكن ثمَّة جانبًا مظلمًا للموضة الدائرية لا بدَّ من الإشارة إليه؛ وهو أن انخفاض الأسعار قد يُغري المستهلكين بالشراء أكثر، وهو ما يُعرَف بـ"تأثير الارتداد". فبدل أن ينخفض الاستهلاك الكلي، قد يزداد تحت ذريعة "أوفّر، فأشتري أكثر". من ناحية أخرى، بعض العلامات التي ترفع شعارات "الدائرية" تستخدم برامج استرجاع الملابس لتلميع صورتها أكثر من إغلاق الحلقة فعليًّا، فيُصدَّر جزء من الملابس المسترجعة إلى دول الجنوب العالمي لتتكدس في أسواق مثل "كانتامانتو" في غانا؛ إذ تصل ملايين القطع أسبوعيًّا. يُباع جزء منها فقط، في حين تتحول البقية إلى نفايات. صور الملابس المكدَّسة على شواطئ "أكرا" تحوَّلت إلى رمز عالمي للوجه الآخر للموضة: حين تصبح النيَّة الحسنة في مكان، والعبء البيئي في مكان آخر. وبهذا المعنى، فإن "الدائرية" قد تتحوَّل من حلٍّ إلى إعادة توزيع للمشكلة إذا لم تُدَر بصرامة وشفافية.
“
ما نفتقده هو الحملة المؤسسية التي تستثمر حضور المشاهير المحليين وتترجم وعي الجيل الجديد إلى سلوك استهلاكي منظَّم.
محليًّا.. العبء يمكنه أن يكون موردًا
في المملكة العربية السعودية، تكتسب هذه النقاشات بُعدًا إضافيًّا. فقد أشار تقرير لهيئة الأزياء إلى أن المملكة تنتج نحو نصف مليون طن من نفايات الملابس سنويًّا؛ أي أقل من 1% من إجمالي النفايات البلدية، لكنه رقم ضخم ويحمل فرصة اقتصادية. فقيمة الملابس المستعملة التي يُعاد تدويرها تُقدَّر بنحو 250 مليون ريال سنويًّا، لكنها تتسرب إلى الخارج بسبب قلة المنشآت المحلية للمعالجة. تُقدِّم تجربة "الإحرام المستدام" مثالًا حيًّا على ما يمكن فعله: إذ تتحوّل ملايين الأمتار من القطن الأبيض، التي يستخدمها الحجاج والمعتمرون كل عام، من عبءٍ إلى موردٍ، خصوصًا وأن نقاء خامتها يجعل إعادة تدويرها أسهل تقنيًّا من الأقمشة المختلطة. هذا النموذج المحلي يفتح الباب أمام أسئلة أكبر: هل يمكن للمنطقة أن تُطلق حملتها الخاصة، على غرار حملة "سبتمبر المُستعمَل" لكن بجذور ثقافية عربية؟ ولماذا لا تُقترَن الاستدامة برموزنا الدينية والاجتماعية كما ارتبطت في الغرب برموز الأزياء والسينما؟
غياب حملات عربية ضخمة حتى الآن لا يعني أن هذه الثقافة بعيدة عنا، بل على العكس: هناك مؤشرات متفرّقة، من مُصمِّمين سعوديين يُركِّزون على الجودة والمتانة، إلى مبادرات فردية في الجامعات والجمعيات البيئية. لكن ما نفتقده هو الحملة المؤسسية التي تستثمر حضور المشاهير المحليين، وتُترجم وعي الجيل الجديد إلى سلوك استهلاكي منظَّم. هذا الغياب نفسه قد يُقرأ بوصفه فرصةً لأن نكون نحن من يبتكر النموذج المحلي للموضة الدائرية، بدلًا من أن نكتفي باستيراد النماذج الغربية.
إن قطاع الأزياء يشهد نموًّا سريعًا ضمن رؤية المملكة 2030، وتبدو الفرصة مهيأة لإدماج ثقافة المستعمَل في سوق محلي يوازن بين الفخر بالهوية والطموح الاقتصادي. وربَّما يكون أبسطُ مشهد على السجادة الحمراء، مثل ظهور ثوب أُعِيد تنسيقه أو بِنطال من فستان قديم، كفيلًا بأن يُعيد تعريف علاقتنا بما نرتديه: ليس بوصفه سلعةً تُستهلك ثم تُرمى، بل قصة يمكن أن تُروى مرات عديدة، وتُصبح جزءًا من ذاكرتنا الجماعية بقدر ما هي جزء من خزانة ملابسنا.
الدرس الأعمق أن الموضة، تلك الصناعة التي تُعرَف بسرعتها ولهاثها، يمكن أن تستعيد بريقها حين تُبطئ. قطعة أُعِيد ارتداؤها أو عُدِّلت لتأخذ شكلًا جديدًا تحمل من الرسائل أكثر ممَّا تحمله عشر قطع عابرة. وحين يتعلم الجمهور أن قيمة الزمن لا تقل عن قيمة القماش، يمكن أن يتغيَّر مسار صناعةٍ بأسره.

التدوير الخيري
تُعدُّ بريطانيا من أقدم الدول التي تطبق نظامًا لبيع الأشياء المستعملة لمصلحة الجمعيات الإنسانية؛ إذ افتتحت أول متجر خيري دائم في أكسفورد عام1947م، لدعم جهود الإغاثة بعد الحرب. حملت هذه التجربة الأولى اسم "أوكسفام"، وهو اختصار لـ"لجنة أوكسفورد لإغاثة المجاعة". وما زالت حتى اليوم من أشهر الجمعيات الإنسانية، رغم تأسيس كثير من المؤسسات والمبادرات الخيرية في كل مجال، من رعاية الفقراء إلى رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة وأصحاب الأمراض المزمنة ودعم أبحاث السرطان وحتى رعاية الحيوان. وهناك الآلاف من المحال الخيرية تتبع كل منها جمعية إنسانية محددة، يديرها متطوعون بأجور رمزية، ويبيعون سلعًا تبرَّع بها المواطنون، مثل: الملابس، والنظارات، والأواني والأدوات المنزلية، والكتب. وتذهب أرباحها لهذه الجمعيات بعد استيفاء المصروفات والمرتبات. ويُقبل المستهلكون على الشراء منها، رغبةً في فرصة تسوق جيدة وفعل الخير معًا.
وتتمتع الجمعيات الإنسانية بكثيرٍ من الامتيازات الضريبية والإدارية في القانون البريطاني؛ إذ تُعفى أرباحها تمامًا من الضرائب على النشاط التجاري، وتُعفى مبيعاتها من ضريبة القيمة المضافة التي يتحملها المستهلك، كما تُعفى ممتلكات الجمعيات بنسبة 80% من الضرائب على الأملاك.