
أطلق الهادي آدم على قصيدته، بعد أن غنَّت له أم كلثوم "أغدًا ألقاك"، لقب "القصيدة المحظوظة".
وتعكس هذه الصفة مأزق المبدع مع عمله الأشهر، فهو من جهة ممتن للشهرة التي يحصدها بسبب ذلك العمل، ومن جهة أخرى يغار منه على بقيّة إبداعه؛ إذ يميل الناس إلى اختصار المبدع في عمله الأشهر. والهادي آدم، ليس حالة خاصة في هذا المجال، فالروائي السوداني الطيّب صالح يكاد يكون مُختزَلًا في "موسم الهجرة إلى الشمال"، وحتى الروائي الأشهر في العالم، ماركيز، يكاد يكون مُختزَلًا في "مائة عام من العزلة".
كان العنوان الأصلي للقصيدة التي غنَّتها كوكب الشرق هو "الغد". وكانت أم كلثوم الجسر الذي حمل صوت الهادي آدم إلى المدن والقرى من المحيط إلى الخليج، والمعجزة أنّها حملت الشعر الفصيح إلى الأميّين وفهموه عنها وردّدوه. وللمفارقة، فالهادي آدم هو نفسه جسر بأكثر من معنى.
هو جسر بين مدارس الشعر؛ فبتكوينه الأوّل، يُعدُّ الهادي امتدادًا لشعراء الإحياء في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، من أمثال محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم. وللهادي آدم قصائد عموديّة تنتمي إلى تلك المدرسة برصانتها، يستمدُّ صورها البلاغيَّة من التراث العربي الكلاسيكي. لكنَّه التحق بالرومانسيِّين كذلك، وربّما نلمس في عنوان ديوانه "كوخ الأشواق" صدًى لعنوان محمود حسن إسماعيل"أغاني الكوخ" (1935م)، كما نلمس سمات الرومانسيّين في التغنِّي بالطبيعة، وتمجيد القرية، والنزوع إلى العاطفة الفردية والحزن، وكذلك التطلع إلى الحريَّة. ومن الرومانسيَّة التحق بتيار الشعر الحرِّ فنيًّا، من دون أن يكون لديه الالتزام الأيديولوجي الذي بدا لدى شعراء مثل محمد الفيتوري وصلاح أحمد إبراهيم.
في قرية الهلاليّة بوسط السودان، وُلِد الشاعر الهادي آدم عام 1927م، في بيت علم وأدب ومعرفة وتديُّن. والده الشيخ آدم الهادي، كان عَلَمًا بارزًا من حفظة القرآن الكريم، وأحد شيوخ الإسلام، وكان إمامًا لجامع قرية الهلاليّة، التي يُقال إنها سُمِّيت على عشيرة أبي زيد الهلالي، شيخ بني هلال الآتي من الجزيرة العربية. فكما هو معروف في السودان أن لكل قرية ومدينة أسطورتها الخاصّة بشأن نشأتها وهُويّة سكّانها. والهلاليّة قرية جميلة ساحرة على شاطئ النيل، تغنَّى بها شاعرنا صادحًا، في قصيدة مطلعها:
قلب الطبيعة في جنبَيك خفّاقُ
والنهر خلف رباك الفيح دفّاقُ
للبـدر في رمـلك التِّبـريُّ عربدةٌ
وللصبـاح، إذا حيّـاك، أشواقُ
بين معهد أم درمان وجامعة عين شمس ب
بعدما أكمل دراسته الأوليّة في القرية، انتقل إلى معهد أم درمان العلمي، وهو المعهد الشهير في ذلك الوقت، حيث درس فيه الكثير من الشعراء والأدباء السودانيّين، وشاعت سيرته بأنه المعهد الذي طُرد منه الشاعر السوداني المعروف التجاني يوسف بشير. وقد التقى الهادي آدم هناك بالشعراء محمد محمد علي، صاحب ديوان "ظلال شاردة"، وإدريس جماع صاحب الديوان اليتيم "لحظات باقية"، والشاعر محمد المهدي مجذوب صاحب ديوان "نار المجاذيب"، وهو من المجدّدين في الشعر العربي وأحد روّاد مدرسة الشعر الحرّ مثل بدر شاكر السياب، وعبدالمعطي حجازي، ونازك الملائكة، وعبدالوهاب البياتي، وغيرهم. وكان للقاء الهادي آدم بأبرز شعراء المعهد العلمي بأم درمان، ثمّ لاحقًا بدار العلوم في مصر، أثرٌ كبيرٌ في تطوُّره الشعري وتنوُّع المدارس التي ارتادها لاحقًا، إذ انفتح أمامه أفقٌ شاسع من المعرفة والمعايشة والاطلاع.
وبعد تخرّجه في كليّة دار العلوم قسم اللغة العربية بالقاهرة، نال الهادي آدم دبلوم التربية وعلم النفس من جامعة عين شمس بمصر، التي حفظ لها مودّةً خاصة لما قدمته له، قائلًا:
قد نشأنا وحبُّ مصرٍ غرامٌ
قد تعدَّى صدورَنا والشفاها
جمعتنا على الوفــاءِ آمـالٌ
عطَّــر اللهُ تربَــها وسقـــاها
الطريق إلى "كوخ الأشواق"
عاد الشاعر إلى السودان وعمل في مجال تدريس اللغة العربيّة وآدابها، وانتظم تحت لواء "جماعة الأدب السوداني"، التي كانت تضمّ مفرزة من شعراء ذلك العصر، ومن بينهم الزملاء الذين التقى بهم في المعهد العلمي بأم درمان. كما كان له الفضل في إنشاء عددٍ من الجمعيات الأدبية للطلاب في المدارس والإشراف عليها. وبهذا المعنى، فهو فاعل ثقافي حقيقي، وجسر عبرت عليه الثقافة إلى الأطراف السودانية. وكان نشاطه هذا، ووجوده بين الناس، سببًا في زيادة تداول شعره شفهيًّا. وربما بسبب الرضا الذي حقّقه له هذا الحضور بين الناس، تأنّى في إصدار ديوانه الأول "كوخ الأشواق"، الذي صدر في القاهرة عن دار الكاملابي عام 1963م، وكانت دارًا لنشر الدراسات والأدب السوداني في مصر.
ضمّ هذا الديوان قصائده على مدار عقدي الأربعينيات والخمسينيات وعلى تنوّعٍ في موضوعاتها وخياراتها الفنيَّة. وقدَّم الشاعر لديوانه بتمهيدٍ قصير نلمس منه أنه شاعر سليقة لا يحكمه سوى حب الشعر، فهو فرحه، وله كل إخلاصه؛ إذ يكتب في التمهيد: "قد يمرُّ عامٌ بأسره، ولا أكذبُك، لا أنظم بيتًا من الشعر، فلا أُكرِه نفسي على نظم كلمة، ولا أكلّفها من أمرها شططًا. فأنا أكره الكلمة المُجبَرة والعبارة المرهقة".
ويشير في التمهيد نفسه إلى أنه كاد أن يخالف طبيعته وحدسه وسليقته الشعرية تحت ضغط حالة نقدية عاصرها: "مررت بتجربة من الدراسات جعلتني أغيّر رأيي في كثيرٍ ممّا قلت من شعر، فكنت أكثر الناس قسوة على نفسي. وكان ذلك عندما نشطَتْ حركةُ نقدِ الأدب التقليدي في مصر بشيء من المبالغة عند قيام الثورة المصرية، وكنت طالبًا بدار العلوم. ومرّت الأيام وراجعت النظر... فانتصر شعري على رأيي. ولك الآن، قارئي العزيز، أن تَفهمني كما شئت، ويكفي أنني مزّقت من شعري قصائد ما كنتُ لأمزِّقها الآن لو كانت بين يدي".. نفهم بالطبع أن تعبير "نقد الأدب التقليدي" يأتي هنا بمعنى الاستهجان في فورة الواقعية الاشتراكية التي عدّت الاتجاهات السابقة أدبًا تافهًا يتجاهل القضايا الكبرى.
صدرت الطبعة الثانية من "كوخ الأشواق" في العام 1964م ببيروت، وكان هذا الديوان سببًا في شهرته في البلاد العربية. ثم جاء ديوان "نوافذ العدم" عام 1987م، ثم ديون "عفوًا أيها المستحيل" 1999م. ونُشرت له المجموعة الشعرية الكاملة عن وزارة الثقافة بالسودان ضمن احتفالية الخرطوم عاصمةً للثقافة في عام 2005م، قبل أن يرحل في 30 نوفمبر من العام 2006م.

"أغدًا ألقاك" تنقله إلى رحاب العالم العربي
ظلّ الهادي شاعرًا حرًّا يتجول ما بين القصيدة الفراهيديّة وشعر التفعيلة الحرّة، وطرق أبوابًا مختلفة في فنّ الشعر. فهو أول من كتب مسرحيّةً شعريّة اجتماعيّة فصحى في السودان، "تمثيليّة سعاد"، عام 1955م. والمتتبِّع لمسيرة شاعرنا الأدبية، يلاحظ أنه تناول في شعره موضوعاتٍ كانت همَّ الساحة الأدبية والاجتماعيِّة في السودان والوطن العربي، مثل موضوع مقاومة الاستعمار، والحرّيَّة، والرثاء، والتصوّف، والقضايا الاجتماعيّة المحليَّة المهمة في ذلك العصر، مثل إجبار الفتيات على الزواج، وقد كان ذلك موضوع مسرحيته الشعريّة "سعاد". ولكن ظل الهادي آدم شاعر الحريَّة المطلقة توَّاقًا لها.
نال الهادي آدم حظًّا من الشهرة منذ صدور ديوانه الأول، وكان معروفًا بصورةٍ طيّبة بين أقرانه الشعراء بوصفه شاعرًا مجدِّدًا ذا مكانة أدبيّة رفيعة. وقد وردت سيرته في بعض المجلّات الأدبية التي تصدر في ذلك الزمان بمصر والسودان أيضًا. ولكن، لا يمكن تجاهل تلك الدفعة العظيمة التي جاءت بسبب غناء أم كلثوم لقصيدته التي جعلته يستوطن سويداء قلب العاشقين، من تلك اللحظة وإلى الأبد. فمن لم يُتَح له أن يقرأ "كوخ الأشواق"، سيكتفي بصوت أم كلثوم وألحان عبدالوهاب.
ظلت قصيدة "الغد" قابعةً في صمتِ ديوانه الأوّل "كوخ الأشواق" في انتظار الموعد، حتى رشّحها الشاعر صالح جودت لأم كلثوم بعد أن طلبت منه البحث عن شاعرٍ سوداني يمكن أن تغنّي قصيدته، وذلك بعد عودتها من جولة فنّية ناجحة في السودان، وقرّرت بعد تلك الزيارة أن تقدّم قُبلة خاصّة لشعبٍ أحبّها. ويُقال إن الشاعر زارها وقرأ قصيدته المختارة أمامها في حضور المُلحّن الكبير الموسيقار عبدالوهاب، وقد أُعجبت بها كوكب الشرق ولحّنها عبدالوهاب عام 1967م، ولكنّها لم تُغنَّ إلَّا في مايو 1971م. وعندما صدحت بها سيدة الغناء العربي في مسرح قصر النيل، كانت بمنزلة الشُعلة التي أُضرمت على رأس جبل، فرآها القاصي والداني.